السعودية وفرنسا...شراكة متجذرة في عالم متغير

الأمير محمد بن سلمان يلتقي الرئيس ماكرون في باريس

Reuters
Reuters
الأمير محمد بن سلمان والرئيس ماكرون في قصر الإليزيه يوم الجمعة

السعودية وفرنسا...شراكة متجذرة في عالم متغير

تأتي زيارة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود إلى باريس في يونيو/حزيران الحالي، لتكرس الطابع الخاص للعلاقات السعودية-الفرنسية استنادا إلى شراكة استراتيجية متجذرة ومتنوعة، وإلى أواصر من الثقة جرى نسجها بين قادة البلدين.

ويبرز رهان الجانبين على تحقيق نقلة نوعية لجهة تعزيز العلاقات الثنائية وحجم المبادلات، بالإضافة إلى العمل من أجل تهدئة مستديمة للنزاعات، والإسهام في بلورة بدائل مشتركة للتنمية ومكافحة الفقر والتغير المناخي.

إن هذه الزيارة الحافلة إلى العاصمة الفرنسية، هي الثالثة لولي العهد السعودي منذ توليه لمهامه، ويدلل ذلك على حيوية و"دينامية" العلاقات الثنائية وأهمية المبادلات بالنسبة للجانبين.

وتتخلل هذه الزيارة رعاية ومشاركة الأمير محمد بن سلمان حفل الترشيح الرسمي من أجل استضافة مدينة الرياض معرض "إكسبو 2030". ومن المحطات البارزة حضور ولي العهد السعودي في "القمة من أجل ميثاق مالي عالمي جديد" التي تعقد يومي 22 و23 يونيو (حزيران)، في مقر "منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية" (OECD)، التي يعول فيها الرئيس ماكرون على التعاون السعودي من أجل إصلاح النظام المالي الدولي (إصلاح بنوك التنمية متعددة الأطراف وأزمة الديون، وتمويل التكنولوجيا الخضراء) بعد مرور 80 عامًا على مؤتمر بريتون وودز.

ويعتبر سفير فرنسي سابق لدى المملكة أن "العلاقات الفرنسية- السعودية تكتسب مزيداً من الأهمية نظراً للمتغيرات الإقليمية والدولية، وضرورة التشاور والتنسيق، خاصة أن هناك تناغما أو تقاطعا إزاء كثير من الملفات".

في هذه اللحظة الحرجة والحاسمة على الساحة الدولية، كانت القمة الثنائية بين الرئيس إيمانويل ماكرون والأمير محمد بن سلمان، واللقاء الموسع بين الوفدين السعودي والفرنسي، فرصةً للإحاطة بتحديات المرحلة، وحرصاً على العمل المشترك من أجل السلام العالمي والاستقرار الإقليمي والتحول في مجالات الطاقة والتخفيف من آثار التغير المناخي.

إن هذه الزيارة الحافلة إلى العاصمة الفرنسية، هي الثالثة لولي العهد السعودي منذ توليه لمهامه، ويدلل ذلك على حيوية و"دينامية" العلاقات الثنائية وأهمية المبادلات بالنسبة للجانبين.

تطوير وتعميق الشراكة

على الصعيد الثنائي، في الوقت الذي توافق فيه الطرفان على "تطوير وتعميق الشراكة" التي تربطهما، ركز الرئيس الفرنسي على "التزام بلاده بأمن واستقرار المملكة السعودية واستعدادها لمواكبتها في إطار تعزيز قدراتها الدفاعية". وفي نفس الاتجاه طغى البعد الاقتصادي، ولفت الأنظار إبداء ماكرون حرصه على إعادة تأكيد رغبة الشركات الفرنسية في مواكبة المملكة في مشاريعها الطموحة في إطار "رؤية 2030"، وأبرزها مشاريع "الانتقال الطاقوي" وإنتاج الطاقة النظيفة الشمسية والهيدروجين والتقنيات الجديدة. ويبدو أن المجموعات والشركات الفرنسية التي زاد عددها ونشاطها داخل المملكة منذ زيارة ولي العهد في 2018، تتطلع أيضا للاستثمار والتبادل في المجالات المتنوعة مثل الأمن والدفاع. 

وحسب أحد رجال الأعمال الفرنسيين المعنيين تدور مشاورات حول تعزيز العلاقات في مجالات مختلفة بينها تعاون بين شركة نقل جديدة ومجموعة إيرباص الأوروبية، والتي تتخذ من فرنسا مقرا لها.

يجدر التذكير بأنه في زيارة يوليو/تموز 2022، تم الإعلان عن تأسيس "مجلس شراكة استراتيجية فرنسي- سعودي" ومن أبرز أعماله تعزيز أوجه التعاون في مجالات الطاقة وبناء السفن والفرقاطات في المملكة العربية السعودية، وفقًا للبروتوكولات والاتفاقيات السابقة، وهناك تعاون آخر يتعلق بتصنيع هياكل الطيران داخل المملكة، وتعاون تكنولوجي جديد في مجال الاتصالات وكل ما يتعلق بالثورة الرقمية.

وكالة الأنباء السعودية (واس)
الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون يستعرضان خلال اجتماعهما في باريس العلاقات التاريخية والاستراتيجية بين البلدين وسبل تطويرها في جميع المجالات
 

يذكر أنه خلال زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لفرنسا عام 2018، تم توقيع 19 بروتوكولا واتفاقية بين شركات فرنسية وسعودية بقيمة إجمالية تجاوزت 18 مليار دولار، شملت قطاعات صناعات مثل البتروكيماويات والمياه، بالإضافة إلى السياحة والثقافة والصحة. وتعمل أكثر من 35 شركة سعودية في فرنسا، وتشير البيانات الرسمية إلى أن عدد الشركات الفرنسية المستثمرة في المملكة العربية السعودية ارتفع من 259 شركة عام 2019، ليصل إلى 336 شركة عام 2022.

تراهن الرياض وباريس على تحقيق نقلة نوعية لجهة تعزيز العلاقات الثنائية وحجم المبادلات، بالإضافة إلى العمل من أجل تهدئة مستديمة للنزاعات، والإسهام في بلورة بدائل مشتركة للتنمية ومكافحة الفقر والتغير المناخي


ولم يغفل البيان المشترك الإشارة إلى التعاون الثقافي الوثيق بين الجانبين، من موقع العُلا الأثري إلى تعليم اللغة الفرنسية والتكوين المهني والرقمي والبحوث العلمية، وهو ما يبين الاهتمام الفرنسي بمواكبة التحول الاجتماعي والثقافي والتنموي في المملكة.

السلام والاستقرار... من أوكرانيا إلى لبنان

في مواجهة عالم متغير ومضطرب، تأتي خصوصية العلاقة بين الرياض وباريس. ويقول مصدر دبلوماسي أوروبي إن "مقاربة إدارة بايدن لعلاقتها مع الرياض وعدم تماسك سياستها الإقليمية، أحدثا انقلابا جيوسياسيا لصالح الصين وروسيا، لكن باريس لم تتأثر به نظراً لتمسك إيمانويل ماكرون بعلاقته مع الرياض وزيارته الهامة إلى المملكة العربية السعودية في 2021 والتي أدت إلى بلورة علاقة تشاور ودي متواصل مع الأمير محمد بن سلمان".

وتحت هذا العنوان من الثقة المتبادلة والحوار الدائم، عمل الطرفان على التنسق في كثير من الملفات.

بالنسبة للحرب الأوكرانية، لم يكن سراً طلب الرئيس ماكرون من الرياض، القيام بجهد خاص لدى الرئيس فلاديمير بوتين من أجل وقف الحرب. وكان ماكرون قد أشاد علناً باستقبال الرياض للرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي خلال القمة العربية. واتفق الطرفان على المزيد من التنسيق من أجل إيجاد "مخرج للنزاع ولتكثيف التعاون من أجل خفض تأثيرات الحرب في أوروبا والشرق الأوسط وبقية أنحاء العالم".

بالنسبة للحرب الأوكرانية، لم يكن سراً طلب الرئيس ماكرون من الرياض، القيام بجهد خاص لدى الرئيس فلاديمير بوتين من أجل وقف الحرب. وكان ماكرون قد أشاد علناً باستقبال الرياض للرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي خلال القمة العربية

ومن دون شك، كان لأمن الخليج العربي والشرق الأوسط وأزماته الحصة الأكبر من الاهتمام. واللافت أن البيان الصادر عن قصر الإليزيه الخاص بالاجتماع الثنائي، لم يذكر بالاسم إلا لبنان في سياق مجمل الأزمات التي تضرب العالم العربي، إذ ورد حرفياً: "التشديد على ضرورة وضع حد سريعا للفراغ السياسي والمؤسساتي في لبنان الذي يشكل العقبة الكأداء الحائلة دون إيجاد حل للأزمة الاجتماعية- الاقتصادية العميقة". 

وطوال السنوات الماضية كانت الأزمة اللبنانية حاضرة على جدول أعمال الجانبين. وتأتي زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى باريس في لحظة استثنائية لبلاد الأرز، وذلك بعد دوام الاستعصاء في الشغور الرئاسي بعد آخر جلسة انتخابات يوم الأربعاء الماضي، وبعد تعيين الرئيس ماكرون لوزير خارجيته السابق جان إيف لودريان مبعوثاً شخصياً له إلى لبنان. ويبدو أن الطرفين تجاوزا التسميات والمقترحات السابقة، وأكدا على "عدم السماح بتفاقم الوضع اللبناني والضغط من أجل إيجاد مخرج إنقاذي" يمكن أن تتضح معالمه في الأسابيع القليلة القادمة. 

وعلى صعيد إقليمي أشمل، أعرب الطرفان عن "تمسكهما المتبادل بالأمن والاستقرار في الشرقين الأدنى والأوسط، وشددا على رغبتهما في مواصلة تنسيق جهودهما من أجل تهدئة مستديمة للنزاعات". ويذكر أن فرنسا أشادت بموقف المملكة وجهودها لإيجاد حل سياسي لأزمة السودان.

بعد تاريخي لشراكة متجذرة 

يتضح من مجريات زيارة الأمير محمد بن سلمان، أن التعاون متعدد الأبعاد يضرب جذوره عميقاً بعلاقة تتجدد وصمدت على محك العواصف والتحولات. 

وتعود العلاقات بين المملكة العربية السعودية وفرنسا إلى ما يقارب قرن كامل، حيث بدأت بوادرها عام 1926 عندما أرسلت باريس قنصلاً لدى السعودية، ثم إنشاء بعثة دبلوماسية في جدة عام 1932.

وكالة الأنباء السعودية (واس)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يصافح أعضاء الوفد المرافق لولي عهد السعودية رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان

وشهدت السنوات اللاحقة توالي خطوات إرساء العلاقات وتعزيزها، خاصة عند قيام الملك فيصل بن عبدالعزيز بزيارة تاريخية إلى فرنسا في 1967 وانعقاد قمة مميزة مع الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول، ويعتبر هذا اللقاء تأسيسيا في إطلاق "الشراكة الفرنسية- السعودية".

تعود العلاقات بين المملكة العربية السعودية وفرنسا إلى ما يقارب قرن كامل، حيث بدأت بوادرها عام 1926 عندما أرسلت باريس قنصلاً لدى السعودية، ثم إنشاء بعثة دبلوماسية في جدة عام 1932

ومن المحطات البارزة لهذه العلاقات في 1976 كان افتتاح خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حينما كان أميرا لمنطقة الرياض، إلى جانب عمدة باريس جاك شيراك (الرئيس الفرنسي لاحقاً) معرض "المملكة بين الأمس واليوم" في باريس. 

وللدلالة على فرادة وخصوصية العلاقة الفرنسية- السعودية، حرص الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران على زيارة المملكة في أول تحرك دبلوماسي له نحو الشرق الأوسط. وبعد ذلك قام جاك شيراك بنفس الخطوة وفي عهده ازدهرت الصلات الثنائية على عدة أصعدة. 

بالرغم من عدم وجود تناغم على طول الخط بالنسبة لقضايا معينة، برز الحرص الدائم من الجانبين على ديمومة وأهمية علاقة مفيدة وواعدة ليس فقط على الصعيد الثنائي، ولكن أيضا لجهة احتواء الأزمات ومنها أزمة الطاقة. ولجهة اعتماد نهج مشترك أو تنسيقي إزاء كثير من الأزمات الإقليمية والدولية، ومواجهة آثارها السلبية على الاقتصاد والاستقرار. 

font change


مقالات ذات صلة