السياسي العراقي انتفاض قنبر: النظام السياسي للعراق الآن "فاقد للسيادة"

قال لـ"المجلة" إن الأكراد وحدهم "يشيدون خياراتهم السياسية حسب مصالح شعبهم"

السياسي العراقي انتفاض قنبر: النظام السياسي للعراق الآن "فاقد للسيادة"

في مقابلة مطولة مع "المجلة"، يصف السياسي العراقي المخضرم انتفاض قنبر النظام السياسي الحاكم للعراق راهناً بأنه "فاقد للسيادة وخالٍ من أية استراتيجية للأمن القومي"، مُرجعاً ذلك إلى التحولات المتتالية التي طرأت على الأحداث واختلال توازن القوى داخل العراق خلال السنوات الماضية، حتى صار خالياً من أي تيار أو قوة سياسية تملك إرادة ورؤية مبنية على بنية أو مصلحة عراقية، مستثنياً الأكراد، الذين يصنفهم قنبر كطرف سياسي وحيد "يشيدون خياراتهم السياسية حسب منظورهم ومصالح شعبهم، وليس خضوعاً لأية إرادة خارجية".

ويُعيد قنبر هذه المعادلة إلى أزمنة سابقة مضت، تراكمت تباعاً، حتى غدا العراق على ما هو عليه؛ مشدداً على أن أية استراتيجية اصلاحية، اقتصادية واجتماعية وسياسية، لا يمكن لها أن تنجح، دون وعي بهذه التحولات والتراكمات، والعودة إليها. لأنها غدت الهيكل الجوهري للعملية السياسية في العراق.

طوال عقد التسعينيات من القرن المنصرم، كان انتفاض قنبر فاعلاً رئيساً في المعارضة العراقية الخارجية، الناشطة في الولايات المتحدة الأميركية بالذات، وكان قنبر "مقرباً جداً" من زعيم المؤتمر الوطني العراقي أحمد الجلبي، حيث كان كاتم أسراره ومتحدثاً رسمياً باسم "المؤتمر"، ومساهماً ومطلعاً على مختلف الملفات التي انخرط المؤتمر الوطني العراقي بها، بما في ذلك العلاقة التداخلية مع مراكز القوى ومؤسسات الحكم الأميركية. ومن ثم انتقل مع الجلبي إلى داخل العراق، اعتباراً من عام 2003، وبقي يمارس أدواراً سياسية فعالة حتى أواخر العام 2015، حين توفي الجلبي.

يصف قنبر العراق راهناً بأنه دولة "خالية من الثقل"، تتحرك دون أية حساسيات أو حسابات خاصة بداخله، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، بل يبقي تحركاته ويهندس استراتيجيته حسب إشارات وإرادات وفروض من الخارج.

كان انتفاض قنبر فاعلاً رئيساً في المعارضة العراقية الخارجية، الناشطة في الولايات المتحدة الأميركية بالذات. وكان قنبر "مقرباً جداً" من زعيم المؤتمر الوطني العراقي أحمد الجلبي


ويرجع قنبر حدوث ذلك إلى تفريغ الدستور العراقي الراهن من كل مضامينه ومقاصده، من قِبل أحزاب الإسلام السياسي "الطائفية". فالدستور العراقي حسب قنبر كان الإطار الجوهري الساعي لإيجاد تحول نوعي داخل العراق، في مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق عام 2003، وكانت قوى الإسلام السياسي تدرك ذلك تماماً، فعملت بوعي وتصميم على إبقاء الدستور دون أية قيمة.

ويتذكر قنبر المراحل الأولى بعد إقرار الدستور، حينما كان يعمل مُشرفاً على قناة "آسيا" الرديفة للمؤتمر الوطني العراقي، وينشر مواد إعلامية توعوية بالدستور العراقي الجديد، فتلقى رفضاً وتنبيهاً من القيادي في القوى الإسلامية وقتئذ أبو مهدي المهندس؛ فالمضامين العلمانية والديمقراطية والمدنية والفيدرالية في الدستور، كانت محل قلق ورفض من تلك القوى.

السياسي العراقي المخضرم انتفاض قنبر

ويحدد قنبر محاكمة رئيس النظام العراقي السابق صدام حسين كإشارة إلى بداية "هجمة" القوى والأحزاب الإسلامية "الطائفية" على القيم والخيارات التي كان من المفترض أن يُبنى عليها العراق الجديد، مضيفاً "عرض الدكتور أحمد الجلبي، ومعه المؤتمر الوطني العراقي، أن يُحاكم صدام حسين بتهمة اغتيال قيادي حزب البعث 1979، بغية إيجاد شقاق بينه وبين ملايين البعثيين من أنصاره، أو محاكمته بتهمة اغتيال صهره حسين كامل حسن، لتفكيك أواصره العائلية والعشائرية والأهلية. لكن أحزاب الإسلام السياسي رفضت ذلك تماماً، وأصرت على احتكار المحاكمة بملف ذي بعدٍ طائفي، جزئي وصغير للغاية، مقارنة بباقي أفعال صدام حسين. لكنهم أصروا، بغية إثارة المشاعر الطائفية، وهو أمر تفجر تماماً خلال عملية الإعدام، والعبارات التي نطق بها منفذو الإعدام، مما أفرغ محاكمة صدام حسين، وتالياً محاكمة نظامه، من أية قيمة مضافة. وتالياً صار النظام الجديد مجرد وجه آخر للنظام القديم".

يصف قنبر العراق حاليا بأنه دولة "خالية من الثقل"، تتحرك دون أية حساسيات أو حسابات خاصة بداخله، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، بل يبقي تحركاته ويهندس استراتيجيته حسب إشارات وإرادات وفروض من الخارج


وحسب قنبر، حدث ذلك كمقدمة لإخراج الجلبي والمؤتمر الوطني العراقي وكل المدنيين من المشهد السياسي الرئيس في العراق، فكل هؤلاء كانوا محل رفض من قِبل إيران واستطالاتها في الداخل العراقي، ومنذ البداية. خصوصاً، وأن الجلبي كان يسعى دوماً لخلق وحفظ توازن استراتيجي بين إيران والولايات المتحدة داخل العراق، إلى حين تشييد العضد الداخلي في العراق. وهو ما كان مكشوفاً بالنسبة لإيران، ومحل رفض.

وقُبيل إسقاط النظام العراقي بعدة أشهر، كان أحمد الجلبي يتحرك بين واشنطن وطهران بشكل مكوكي، بغية اجتراح توافق أمني وقبول سياسي إيراني بالغزو الأميركي للعراق. كان ذلك بطلب من الإدارة الأميركية، بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول بأسابيع قليلة، ونجح الجلبي في تحقيق الأمر بعد عدة زيارات، كما يقول قنبر.

وأردف: "كان ثمة انقسام ضمن القيادة الإيرانية بشأن الموافقة على الغزو الأميركي للعراق. فالتيار المرتبط بقائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني كان يرفض التوافق مع الأميركيين، لأنهم كانوا يتخوفون من التبعات السياسية المستقبلية لبناء نظام ديمقراطي ومدني في العراق، وانعكاساته على إيران. كذلك لأن العلاقات الاستخباراتية والاقتصادية بين النظام العراقي السابق وإيران كانت في أوج ازدهارها. لأن النظام العراقي كان ضعيفاً للغاية، وتقريباً يوافق على كل ما يُطلب منه إيرانياً. التيار الآخر ضمن القيادة الإيرانية كان يقوده الرئيس الإيراني الأسبق والقيادي في مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني. بقي التناقض بين الطرفين مستمراً لشهور، إلى أن تمكن الجلبي من مقابلة الولي الفقيه علي خامنئي، وأقنعه، فأجبر سليماني على الموافقة".

اشتهر أحمد الجلبي بمعارضته لحزب البعث الحاكم في العراق قبل الغزو الأميريكي، وخاصة صدام حسين 

كان الخلاف الداخلي الإيراني مطابقاً لما يناظره في الولايات المتحدة نفسها، على مستوى القيادة، حسبما يسرد انتفاض قنبر في لقائه مع "المجلة".

وبينما كانت مؤسسات الحكم الأميركية "التقليدية"، مثل وزارتي الدفاع والخارجية، وتحديدا جهاز المخابرات، تعرض وتفضل أن يحدث التغيير السياسي في العراق عبر انقلاب عسكري داخلي، يتم فيه استبعاد الرئيس صدام حسين وشخصيات محددة من المقربين منه، وتنصيب شخصية مقربة من الولايات المتحدة في سدة الحكم، مع الإبقاء على الهياكل الرئيسة في الدولة العراقية، الجيش والجهاز البيروقراطي والمؤسسات الاقتصادية. وكان السياسي العراقي وزعيم حركة الوفاق العراقية إياد علاوي من أصحاب تلك الرؤية السياسية والدافعين نحوها، حسبما يقول قنبر.

 

خاضت المعارضة العراقية درباً طويلاً لتحقيق ما كانت تسعى إليه، بعدما كانت محل نبذ ومقاطعة من قِبل كل دوائر ومؤسسات الحكم الأميركية، خصوصاً بعد الزيارة الشهيرة لوزير الخارجية العراقية الأسبق طارق عزيز إلى الولايات المتحدة عام 1984


 

على الضفة النظيرة، فإن تيار المحافظين الجدد من القياديين في الإدارة الأميركية، حيث كان للجلبي علاقة تداخلية شديدة معهم، مثل دونالد رامسفيلد، وريتشارد بيرل، وبيرنارد لويس، وفؤاد عجمي، فقد كانوا يخططون لمشروع سياسي قائم على "الغزو الشامل"، يحطم البنية التحتية للنظام العراقي السابق، ويشيد واحدة أخرى من جديد.

يسترجع قنبر فاعلية الجلبي، وكيف أنه أقنع الإدارة الأميركية بأن المشروع الأول ليست له أية حظوظ للنجاح، لأن النظام العراقي مبني أساساً على "المناعة تجاه الانقلابات العسكرية الداخلية"، مما رجح كفة المعسكر الثاني ضمن الإدارة الأميركية. خصوصاً بعد فشل كثير من محاولات الانقلاب العسكرية، التي أدارتها وساهمت فيها الاستخبارات الأميركية، في وقت  نجح فيه "معسكر الجلبي" في إصدار "قانون تحرير العراق" من الكونغرس الأميركي عام 1998.

وحسب سرد قنبر، وقبل سنوات كثيرة من ذلك، كان أحمد الجلبي ذا دور رئيس في رسم استراتيجية المحافظين الأميركيين الجدد تجاه العراق؛ فمختلف هذه الشخصيات كانت مناهضة و"كارهة" للنظام الإيراني على الدوام، ويسعون بكل الوسائل للإطاحة به، كـ"ثأر" لإسقاط نظام الشاه الإيراني عام 1979، الذي كان حليفاً مقرباً من الولايات المتحدة. فسعى الجلبي بشكل حثيث لأن يقنع طبقة المحافظين الجدد بأن إسقاط النظام في العراق، وخلق كتلة وسلطة "عربية شيعية مقربة وحليفة من الولايات المتحدة"، سيكون تحقيقاً نسبياً لذلك المسعى، واستجابة للمصالح القومية الأميركية، فاقتنعوا.  

AFP
في 20 مارس/آذار من عام 2003، غزت الولايات المتحدة والقوات المتحالفة معها العراق وأطاحت بنظام صدام حسين.

يعود قنبر إلى السنوات الأولى لغزو العراق، وبعد الفشل والارتباك الشديد الذي أصاب الحكم الأميركي المباشر للعراق، شعر "معسكر الجلبي" في الإدارة الأميركية بالإرهاق؛ مما دفع المؤسسات الأميركية "التقليدية"، المناوئة للجلبي أساساً، لقيادة "الحملة المضادة" لمشروعه، والتقوا في ذلك مع التيار الإيراني الذي كان يسعى لأن يقلب الطاولة داخل العراق، ويفرغ التغيير السياسي في العراق من مضامينه، ويستولي على العراق في مرحلة ثانية.

وحسب قنبر، فقد التقت الإرادة الأميركية "المتحفظة" على الغزو، والساعية لإيجاد مخرج للقوات الأميركية مما كانت تعتبره مأزقاً، التقت موضوعياً بنظيرتها الإيرانية الراغبة في الانقضاض السياسي والأمني على العراق، عبر استبعاد الجلبي، وتحطيم الهندسة السياسية المخطط لها قبل عملية الغزو، التي كانت تتوخى بناء دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية.

فشلُ العراق في تحقيق تلك "المعايير"، يعني عودة العراق فعلياً إلى مرحلة ما قبل إسقاط النظام، لأنه يعني الإطاحة بإرث من "النضال" السياسي الذي خاضته قوى المعارضة العراقية في مناهضة الشمولية العسكرية والآيديولوجية، كما يشرح قنبر في حديثه مع "المجلة"، وتالياً العودة إلى الزمن الشمولي، تحت هيمنة أحزاب الإسلام السياسي الطائفية، وبإرادة خارجية.

لقد خاضت المعارضة العراقية درباً طويلاً لتحقيق ما كانت تسعى إليه، بعدما كانت محل نبذ ومقاطعة من قِبل كل دوائر ومؤسسات الحكم الأميركية، خصوصاً بعد الزيارة الشهيرة لوزير الخارجية العراقية وقتئذ طارق عزيز إلى الولايات المتحدة عام 1984، ولقاءه مع الرئيس الأميركي جورج بوش، قبل توليه رئاسة أميركا، واتفاق الطرفين على بناء وشائج سياسية وعسكرية متينة، وقد اشترط النظام العراقي وقتئذ مقاطعة الإدارة الأميركية لأي طرف عراقي معارض، بل وممارسة ضغوط عليهم، الأمر الذي حدث فعلياً وتفصيلاً.

يذكر قنبر أن ذلك استمر حتى مرحلة غزو النظام العراقي للكويت عام 1990، فحدث تفاؤل ما في الأوساط السياسية العراقية المعارضة، لكنه ما لبس أن تراجع تماماً، بعد التحريض الأميركي للعراقيين على الانتفاض ضد النظام، وهو ما حدث عام 1991، لكن التخلي الأميركي عن المنتفضين العراقيين أصاب قوى المعارضة بهزة سياسية ووجدانية.

ويتابع قنبر، مسترجعاً مؤتمر فيينا في شهر يونيو/حزيران 1992، حينما اجتمعت القوى السياسية العراقية في أوسع منصة سياسية لتحدد رؤيتها لما قد يخرج العراق من محنته التاريخية، المتواصلة عبر حلقات متتالية منذ الانقلاب العسكري عام 1958، حيث اتفقت مختلف الجهات على المبادئ، المدنية والديمقراطية والفيدرالية.

ولولا نضال العراقيين طوال سنوات كثيرة منذ ذلك المؤتمر، وبذلهم الكثير من التضحيات في سبيل تحقيق تغيير حقيقي في بلدهم، حسبما يذكر قنبر، لما كان للنظام العراقي أن يسقط. لكن، وبعد حدوث الإسقاط، تبدو الأشياء وكأنها ترجع إلى ما كانت عليه، عبر تفريغ تلك المضامين السياسية والوطنية والدستورية من جوهرها، وبتوافق بين إرادتين، داخلية وخارجية. 

font change

مقالات ذات صلة