معضلة امتياز الدولار

بنك انكلترا كان أول من نبه الى تشوهات النظام النقدي العالمي

معضلة امتياز الدولار

وضع اتفاق "بريتون وودز" في عام 1944 الدولار الاميركي في قلب النظام النقدي الدولي، لكن على نحو مشوّه. فقد التزمت الدول المشاركة فيه، والمنضمة اليه لاحقا، اعتماد أسعار صرف ثابتة بالنسبة إلى الدولار المقوّم على أساس 35 دولارا لأونصة الذهب الواحدة. في المقابل لم تلتزم الولايات المتحدة الأميركية إلا تحويل الدولارات التي تعرضها عليها هذه الدول، إلى ما يقابلها من ذهب، الذي تراكم لديها خلال الحربين الكونيتين.

عمل هذا النظام النقدي الذي كان "مركزيا" بشكل جيد لأكثر من عشرين عاما كإطار للتنظيم والاستقرار المالي والتعاون الوثيق بين الدول، حيث راقب صندوق النقد الدولي المنبثق عنه، الانضباط في استقرار أسعار الصرف وحسن تطبيقه. وكانت هناك حرية في انتقال رؤوس الأموال، وظل ميزان مدفوعات الولايات المتحدة التي تصدر الدولار، قريبا من التوازن.

لكن الأمور تغيرت مع بروز دولة الرفاهية في الولايات المتحدة، ومع حرب فيتنام، إذ لم تتم تغطية نفقاتهما من خلال الزيادات الضريبية، بل من تراكم "العجز المزدوج"، عجز الموازنة وعجز ميزان المدفوعات.

وكان الاقتصاديّ الأميركيّ - البلجيكي، روبرت تريفين، أول من لفت الى التشوه الأول، الذي سُمِّي لاحقا "معضلة بريتون وودز" (Bretton Wood Dilemma) أو (Bretton Woods paradox)، ومضمونها تحقيق أمرين متناقضين مع الوقت، هما، أولا، الاستقرار المالي والنقدي العالمي، وثانيا، إبقاء الولايات المتحدة عجزها لتوفير الدولار للعملاء غير المقيمين، تحت طائلة التسبب بركود عالمي في حال نضوب الدولار من الأسواق العالمية، وفقدان الثقة به إذا ما تم كبح العجز.

العقوبات المالية المتكررة هي الدافع الأساسي للتكتل من أجل وضع حد للتسييس المفرط للامتياز الذي يوفره "بريتون وودز" للدولار الأميركي

ظهر التشوه الثاني في  15 أغسطس/آب 1971، حينما قرر الرئيس الأميركي السابق، ريتشارد نيكسون، التحلل من التزام بلاده تحويل الدولار الذي يعرض عليها ذهبا، بهدف حماية احتياطاتها من المعدن الاصفر. ودخل العالم بأسره بعد قرار فك الارتباط، في ما اصطلح على تسميته نظام أسعار الصرف العائمة، حيث فقد أصله الملموس، أي الذهب، واستمر الدولار كملاذ آمن للسيولة والتسوية في العالم، مما يناقض الأساس الذي قام عليه اتفاق "بريتون وودز"، وهو أسعار الصرف الثابتة.
  
يعدد الاقتصادي باري أيكنغرين، في كتابه "الامتياز الباهظ: صعود الدولار وسقوطه ومستقبل النظام النقدي الدولي"، تشوهات عديدة ومتنوعة تبعت القرار التاريخي للرئيس نيكسون، أهمها الآتية:

- تقاضي الشركات الأميركية الدولار في مقابل صادراتها، وهي العملة التي تستخدمها لمكافأة موظفيها ومساهميها ومورديها، بينما يتعين على الشركات الأجنبية دفع تكاليف التحويل.
- عدم حاجة المصارف الأميركية إلى التحوط من تقلبات أسعار الصرف.
- تمتع الولايات المتحدة بميزة تفاضلية نسبة إلى الدول الأخرى، فحصولها على 100 دولار يكلفها ثمن طباعتها فقط، أما الدول الأخرى، فيتعين عليها تقديم سلع أو خدمات بقيمة 100 دولار. 
- استخدام القوانين الأميركية الدولار كوسيلة لفرض عقوبات نقدية واقتصادية ضد الدول المارقة والشركات والأفراد، في مقدمها قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة (FCPA)، وأداة هذه القوانين في التتبع، مكتب مراقبة الأصول الاجنبية (OFAC).

آخر العقوبات التي اتخذتها الولايات المتحدة، تجميد احتياطات روسيا من النقد الأجنبي لدى مصارفها، ومنعها من استخدام نظام الـ"سويفت" في معاملاتها الدولية بسبب حربها على أوكرانيا، ونجم عن ذلك توقف العمل على أراضيها ببطاقات دفع عالمية مثل "فيزا" و"ماستركارد". وجارت الولايات المتحدة في هذا الأمر دول الاتحاد الأوروبي وسويسرا.

وقد بدا لكثيرين عند مناقشة أخبار الاحتجاجات على العقوبات، أن الأخيرة هي الدافع الأساسي للتكتل من أجل وضع حد للتسييس المفرط للامتياز الذي يوفره "بريتون وودز" للدولار الأميركي. وصدرت دعوات عديدة من مسؤولين ومفكرين وخلال اجتماعات محلية مبكرة كاجتماع "سميثسونيان" (The Smithsonian meeting)، أو دولية، مثل اجتماعات مجموعة الخمس (G5) ومجموعة العشر (G10) منذ الثمانينات الماضية، ودعت جميعها الى عملية إصلاح للتشوهات التي طرأت على "بريتون وودز".

فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين دعا باكرا في مؤتمر الأمن الدولي في ميونيخ في فبراير/شباط 2007، إلى مزيد من التعددية القطبية في العلاقات الدولية. كما أعرب عن مخاوفه في شأن استخدام الدولار الأميركي كعملة احتياط  دولية أساسية، واقترح رفع استخدام عملات أخرى  مثل اليورو والرينمنبي  في المعاملات الدولية.

كذلك تحدث كلٌّ من الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، والرئيس السابق للحكومة البريطانية غوردن براون، عن الأمل في إرساء "بريتون وودز" جديد يقوم على اتفاق متعدد الطرف، وينجح في تأمين استقرار نقدي ومالي عالمي خلال القرن الحادي والعشرين.

وفي عام 2009، أعلن حاكم البنك المركزي الصيني زو زياشوان، عن أسفه لعدم الأخذ بخطة "كينز" التي تناسب، في رأيه، العالم المتعدد القطب الذي قام بعد عام 2008. وتابع "إن أي عملة وطنية هي غير صالحة أن تكون عالمية بسبب معضلة "تريفين"، في إشارة إلى التكلفة الكبيرة لامتلاك عملة الاحتياط العالمية. وفي توجه مماثل، أعلن المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي، دومينيك ستروس-كان، "أن "كينز" قدم الاقتراح المناسب في وقت مبكر، والآن حان الوقت لتطبيقه".

احترام معيار الذهب الذي خدم العالم جيدا، سيخدم العالم جيدا مرة أخرى

بول فولكر، الحاكم السابق للاحتياطي الفيديرالي

وكان بنك انكلترا سباقا في نشر دراسة رصينة في ديسمبر/كانون الأول عام 2011، عن إصلاح النظام النقدي والمالي الدولي، أشارت بشكل مفصل، بالاحصاءات والبيانات، إلى تشوهات  النظام  النقدي "اللامركزي" الذي ساد بعد أغسطس/آب 1971. إذ أوضحت الدراسة أن النمو بات أبطأ وأكثر تقلبا، وزادت الانكماشات الاقتصادية، وارتفعت تقلبات التضخم ومعدلاته، ونتجت اختلالات كثيرة في الحساب الجاري والتخلف عن السداد، وارتفعت المديونية، وتراجع الانتاج، وتضخمت العمالة، وتفاقمت الأزمات النقدية والمصرفية (من الولايات المتحدة في السبعينات، إلى أميركا اللاتينية في الثمانينات، فالأزمة المكسيكية ثم الآسيوية ثم أزمة الرهونات العقارية في مطلع القرن الحالي).

أما الاقتراحات التي خلصت اليها دراسة بنك انكلترا لتجاوز التشوهات، فتلخصت في ثلاثة أنواع من الإصلاحات، الأول فردي يمكن لكل دولة تنفيذه دون تنسيق مع الآخرين، مثل تطوير الأسواق المالية، وتمديد آجال استحقاق أدوات الدين وتخفيف تمركز الأخطار، والثاني مشترك بين فريقين أو فرقاء عدة لتبادل المعلومات والتكاليف، والثالث يتطلب تنسيقا دوليا فاعلا وملزما.

يقول بول فولكر، الحاكم السابق للاحتياطي الفيديرالي، الذي ذاع صيت نجاحه  في مكافحة موجات التضخم العاتية التي ضربت بلاده أواخر السبعينات "إن من السهل الكلام عن أخطاء بريتون وودز، لكن الإصلاحات المعقولة أمر صعب للغاية"، داعيا إلى "احترام معيار الذهب الذي خدم العالم جيدا، والذي سيخدم العالم جيدا مرة أخرى".

font change