"القانون الكبير والجميل"... عنوان إشكالي للاقتصاد الأميركي

سوق سندات الدين للولايات المتحدة ونسب العجز ستكشف عواقبه الكارثية

.أ.ف.ب
.أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترامب يحمل مطرقته بعد توقيعه على "القانون الكبير الجميل" في البيت الأبيض، واشنطن في 4 يوليو 2025.

"القانون الكبير والجميل"... عنوان إشكالي للاقتصاد الأميركي

احتفل الرئيس الأميركي دونالد ترمب في الرابع من يوليو/تموز بالذكرى الـ249 لاستقلال بلاده عن التاج البريطاني، وبتوقيع "مشروع القانون الكبير والجميل" (One Big Beautiful Bill Act - OBBBA). ورافق هذا الإعلان تحليق قاذفتي شبح من طراز "بي-2"، وهي من نوع الطائرات التي قصفت المنشآت النووية الإيرانية في 22 يونيو/حزيران المنصرم، وطائرات مقاتلة أخرى. كذلك أعلن ترمب في الكلمة التي ألقاها في المناسبة، دخول بلاده "العصر الذهبي"، إذ بات لديها "أكبر خفض ضريبي، وأكبر خفض للإنفاق، وأكبر استثمار بتاريخها في أمن الحدود". ولفت المشرعون الجمهوريون الذين تحلقوا حوله الى أن دعمهم كان حاسما في التصويت على القانون العظيم. ومن شرفة البيت الأبيض، قال ترمب "لم أر قط أشخاصا سعداء إلى هذا الحد في بلدنا، لأن العديد من الفئات تحظى بعنايتنا".

وكان قد سبق لرئيس مجلس النواب مايك جونسون أن خاطب مواطنيه وممثليهم، مطلع الشهر الجاري، مروجا أيضا لمشروع القانون بالقول: "إذا كنتم تؤيدون ضرائب أقل وأكثر عدلا وأجورا أعلى وغازا وغذاء بأسعار معقولة واستعادة كرامة العمل، فهذا القانون لكم. وإذا كنتم تؤيدون حدودا ومجتمعات أكثر أمانا وجيشا قويا، فهذا القانون لكم. وإذا كنتم تؤيدون المالية السليمة وخفض العجز، فهذا القانون لكم".

الخفوضات الضريبية يقابلها خفض في الخدمات

الهدف الرئيس من القانون الكبير هو تمديد الخفوضات الضريبية على الشركات والأفراد من معظم فئات الدخل التي سبق لترمب أن دفع لإقرارها خلال ولايته الأولى في عام 2017، وكان من المفترض أن تنتهي مفاعيلها هذه السنة. لكن القانون زاد الحسم الضريبي لجميع دافعي الضرائب، وقد أفاد في المقام الأول أصحاب الدخل المرتفع بحسب مختبر الموازنة في جامعة ييل.

لحظ القانون أيضا حسم بعض الضرائب المحلية من الإقرار الضريبي الفيديرالي، معظمها موقت، حتى عام 2028، مثل ضرائب العقارات، وذلك بحدود 40 ألف دولار، والدخل المكتسب من الإكراميات والعمل الإضافي، فضلا عن الفوائد المدفوعة على قروض شراء السيارات المصنوعة في الولايات المتحدة. كذلك رفعت الإعفاءات الضريبية بمقدار 1000 دولار للفرد و2000 دولار للأزواج و2200 دولار للولد، شرط امتلاك أحد الوالدين رقم ضمان اجتماعيا، وستة آلاف دولار لكبار السن الذين لا يتجاوز دخلهم السنوي 75000 دولار، وكذلك على الإرث إلى 15 مليون دولار للأفراد و30 مليون دولار للأزواج. ويقدر مجموع الخفوضات الضريبية السابقة وغيرها بنحو 4,5 تريليونات دولار.

يوجه القانون ضربة قاصمة للبنية التحتية البحثية التي دعمت الريادة التكنولوجية الأميركية من خلال خفض تمويل المساعدات والمنح العلمية بما بين 44 إلى 55 في المئة

للتعويض عن العجز المتأتي من الخفوضات الضريبية، تضمن القانون تعديلا في شروط الاستفادة من برنامجي "مديك إيد" (Medicaid)، وهو برنامج التأمين الصحي العام الذي يعتمد عليه أكثر من 71 مليون شخص من ذوي الدخل المنخفض والإعاقة، و"سناب" (SNAP) الذي يقدم المساعدات الغذائية من خلال قسائم (كوبونات) طعام لنحو 40 مليون أميركي. ويقدر مكتب الموازنة في الكونغرس أن نحو 12 مليون شخص قد يفقدون تغطيتهم الصحية وأن 4,7 ملايين شخص سيخسرون مشاركتهم في برنامج "سناب" خلال الفترة 2025-2034 بسبب خفوضات الرعاية.

في المقابل، يخفف كيفن هاسيت، كبير المستشارين الاقتصاديين للرئيس ترمب، من وقع هذه التعديلات مدعيا أن "هناك صناديق خاصة بديلة لضمان التغطية الصحية في المناطق الريفية"، وأن القانون "سيكافح الهدر والاحتيال وإساءة الاستخدام" في نظام "مديك إيد".

ضربات قاصمة بالجملة منها للتكنولوجيا

يلغي القانون أيضا وتدريجيا الحوافز الضريبية التي تدعم مشاريع الطاقة النظيفة المتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح. ويمنح بدلا من ذلك إعفاءات ضريبية لشركات الفحم والنفط. ويحرم الشركات، التي قد تكون لسلاسل توريدها روابط مع "كيان أجنبي مثير للقلق" مثل الصين، من الحوافز. كما يلغي القانون الخفوضات الضريبية على تركيب الطاقة الشمسية أو خيارات الطاقة النظيفة الأخرى وتحديثها في المساكن، وكذلك الإعفاء الضريبي للأشخاص الذين يشترون سيارات كهربائية جديدة أو مستعملة في نهاية سبتمبر/أيلول المقبل بدلا من نهاية عام 2032.

ويوجه القانون ضربة قاصمة أيضا للبنية التحتية البحثية التي دعمت الريادة التكنولوجية الأميركية من خلال خفض تمويل المساعدات والمنح العلمية بنسبة 44 في المئة إلى 55 في المئة. وستكون ثمة عواقب وخيمة لهذه الخفوصات ولارتفاع معدل الضريبة التصاعدي الجديد إلى نحو 8 في المئة على جامعات النخبة التي تحقق أعلى نسبة دخل من الهبات لكل طالب مثل هارفارد وكولومبيا، في وقت يعِد فيه الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية بدفع عجلة الابتكارات ذات الآثار البعيدة المدى على الأمن القومي والاقتصاد والمناخ.

فرض القانون عددا من الضرائب على المهاجرين أهمها ضريبة بمعدل 1 في المئة على تحويل الأموال إلى أقاربهم في دول أجنبية، وقيّد حصولهم على خفوضات ضريبية على أقساط التأمين الصحي

والولايات المتحدة هي الوجهة المفضلة للباحثين المولودين في الخارج، حيث يأتي الكثير منهم إليها كطلاب ويستقرون لتعليم الجيل التالي من الباحثين أو لتأسيس أعمال. وقد كانت مساهمات هؤلاء المهاجرين في الإنتاجية الأميركية هائلة، حيث قدرت دراسة حديثة أنهم مسؤولون عن نحو 36 في المئة من الابتكار الأميركي الذي بات في خطر مع تشويه إدارة ترمب للمهاجرين بوصفهم "غزاة" وتشديد شروط منحهم التأشيرات، بما في ذلك التدقيق في منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.

عشرات المليارات لترحيل المهاجرين

خصص القانون مبالغ طائلة لمكافحة الهجرة وترحيل المهاجرين غير الشرعيين: 46 مليار دولار لاستكمال بناء الجدار الحدودي بين الولايات المتحدة والمكسيك، و45 مليار دولار لتمويل 100 ألف سرير في مراكز احتجاز المهاجرين، ومليارات أخرى لتوظيف 10 آلاف موظف إضافي في حلول عام 2029 في دائرة الهجرة والجمارك، أكبر وكالة إنفاذ قانون فيديرالية، ولتعزيز شرطة الحدود.

أ.ف.ب.
الرئيس الأميركي دونالد ترمب، يعرض وثيقة "القانون الكبير الجميل" للضرائب والانفاق العام، في البيت الأبيض 4 يوليو 2025

في المقابل، فرض القانون عددا من الضرائب على المهاجرين أهمها ضريبة بمعدل 1 في المئة على تحويل الأموال إلى أقاربهم في دول أجنبية، وقيّد حصولهم على خفوضات ضريبية على أقساط التأمين الصحي، ومنع من حصل على اللجوء أو وضع محمي مؤقت من الاستفادة من هذه الخفوضات.

جدير بالذكر أن مجموع المهاجرين يمثل نحو ثلث القوى العاملة في مجال الترفيه والضيافة ونحو 75 في المئة من القوى العاملة الزراعية. وسيعيق نهج ترمب الصارم تجاه الهجرة، نمو القوى العاملة، وبالتالي نمو الاقتصاد، إذ سيرفع التكاليف ويقلل ربحية الأعمال في جميع القطاعات المتضررة. ومن خلال تقويض النمو المحتمل، سترتفع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، المرتفعة أصلا.

تقدر هيئة الموازنة في الكونغرس، وهي جهة غير حزبية، أن القانون سيضيف نحو 3,4 تريليونات دولار إلى عجز الموازنة الفيديرالية خلال العقد المقبل

وشمل القانون، بالإضافة إلى حماية الحدود، إنفاقا كبيرا على خطط تتعلق بالأمن القومي، فخصص مبلغ 150 مليار دولار للجيش بهدف تعزيز قدراته البحرية، بالإضافة إلى تمويل "القبة الذهبية"، مشروع ترمب للدفاع الصاروخي.

زيادة في الدين العام

تقدر هيئة الموازنة في الكونغرس، وهي جهة غير حزبية، أن القانون سيضيف نحو 3,4 تريليونات دولار إلى عجز الموازنة الفيديرالية خلال العقد المقبل، خلافا لادعاء البيت الابيض أن العجز سينخفض بأكثر من 1,4 تريليون دولار بسبب تحفيز النمو.

وستتخطى نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في حلول عام 2030، ما كانت عليه في نهاية الحرب العالمية الثانية عندما كانت الولايات المتحدة تتمتع بتركيبة سكانية أكثر تجانسا. لكن الاقتصاد الأميركي اليوم، على عكس فترة ما بعد الحرب، غير مهيأ للنمو بما يكفي لتخفيف عبء الديون. من هنا، خفضت "موديز"، وهي وكالة تصنيف رئيسة، الدرجة الائتمانية للولايات المتحدة من Aaa إلى Aa1، بعد أن بلغ دينها العام ذروته عند 122 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. إلا أن هذا التحذير لم يزعزع ترمب وحلفاءه الذين يحتجون بأن القانون سيمول ذاتيا بفضل النمو، وهذا ما ارتكز عليه رهان عام 2017، وكان رهانا خاسرا. كما يذكر ذلك بدرس ثمانينات القرن العشرين عندما أدت الخفوصات الضريبية للرئيس الراحل رونالد ريغان إلى ارتفاع العجز على الرغم من النمو الداعم.

.أ.ف.ب

جدير بالذكر أن القانون رفع سقف الدين بمقدار 5 تريليونات دولار، ومن المؤكد أنه لن يتم التقيد به. فمنذ عام 1960، رفع الكونغرس أو علق أو غيّر شروط سقف الدين 78 مرة. وفي ولايته الأولى، شهد ترمب زيادة في الدين الفيديرالي بلغت نحو 8 تريليونات دولار، وارتفع بشكلٍ حاد نتيجة خفوصات ضريبية وإنفاق طارئ، وكل الدلائل تشي بأن الأمر سيتكرر مع "القانون الكبير والجميل".

معارضة "القانون الكبير والجميل"

المعارضة الحادة التي تلقاها "القانون الكبير والجميل"، جاءت في الدرجة الأولى من الديمقراطيين. ففي خطاب مؤثر استمر 8 ساعات و45 دقيقة، ألقاه زعيم المعارضة في مجلس النواب، حكيم جيفريز، عارض بشدة القانون واصفا إياه بـ"القانون البغيض المقزز والشنيع الذي يمزق برنامج "ميديك إيد"، ويحرم الأطفال وكبار السن والمحاربين القدامى من الطعام، ويكافئ أصحاب المليارات بإعفاءات ضريبية هائلة". وأضاف "سيموت الناس بالآلاف عاما بعد عام نتيجة الهجوم الجمهوري على الرعاية الصحية للشعب"، منهيا بـ"أنه لم يتخيل يوما الوقوف في مجلس النواب للقول بأنه بات مسرحا لجريمة ترتكب على أرضه". وبالتالي، ليس مستغربا أن يعارض الديمقراطيون مشروع القانون بالإجماع.

هناك قنبلة موقوتة وزلزال اجتماعي حقيقي يلوح في الأفق في إحدى أغنى دول العالم

سيرج جومين، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة ليبرتي

وكانت هناك أيضا معارضة للقانون من قبل عدد من الاختصاصيين، منهم سيرج جومين، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة ليبرتي، والمتخصص في شؤون الولايات المتحدة، إذ اعتبره "قنبلة موقوتة" و"زلزالا اجتماعيا حقيقيا يلوح في الأفق في إحدى أغنى دول العالم".

وأبدى تفهمه لغضب إيلون ماسك، الممول الأهم والأكبر لحملة ترمب الذي قاد وزارة الكفاءة "دودج" (DOGE) بهدف تقليص حجم الإدارة الأميركية لخفض العجز المالي للبلاد، وفقد أعصابه عندما واجه قانونا يتعارض تماما مع هذه الاستراتيجيا، إذ سيزيد العجز الأميركي بشكل كبير وسيقود البلاد الى الإفلاس. وهو، أي ماسك، محق: فمعظم الاقتصاديين يتفقون على أن هذا القانون سيتسبب في زيادة الدين وسيجبر الولايات المتحدة على الاقتراض مستقبلا بأسعار فائدة أعلى من اليوم، مع كل العواقب التي يمكن تصورها للأجيال المقبلة. وستكون مصداقية الولايات المتحدة المالية على المحك في المرحلة المقبلة ومن ورائها استقرار النظام المالي الدولي.

أ.ف.ب.
أحد مكونات التوربينات الأساسية كتب عليها "بفخر صنعت في أميركا"، خارج شركة TPI، في نيوتن بولاية أيوا، 2 يوليو 2025

يقول كنيث روغوف، أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفرد، "إن مهرج البلاط هو من كان يتجرأ في العصور الوسطى على التصريح بالايماء أو بالمباشر بالحقائق غير المريحة للملك"، والمتوقع أن يتولى هذا الأمر سوق سندات الدين، فيكون أصدق إنباء من تغريدات صاحبي منصتي "إكس" و"تروث سوشال". تشير الـتوقعات إلى أن القانون سيرفع العجز المالي من 6,4 إلى 7 في المئة أو أكثر من الناتج المحلي الاجمالي، مما سيرفع أسعار الفائدة الطويلة الأجل على نحو تصاعدي. ويرى ترمب أن حل المشكلة هي بالضغط على الاحتياطي الفيديرالي لحمله على خفض أسعار الفائدة القصيرة الأجل.

أما معارضوه، فيرون أنه ما لم ينزلق الاقتصاد إلى حالة من الركود، فلن يكون أمام الاحتياطي الفيديرالي مجال كبير لخفض أسعار الفائدة دون تأجيج التضخم، ولن يؤدي ارتفاع التضخم إلا إلى زيادة وتيرة ارتفاع أسعار الفائدة الطويلة الأجل وأسعار الفائدة على الشركات والمستهلكين، وسيستيقظ العالم على واقع أن خفوضات ترمب "الكبيرة والجميلة" كانت في الحقيقة كارثية وسامة للاقتصاد الأميركي وللدولار ولشعار "لنجعل أمريكا عظيمة من جديد" (MAGA) على حد سواء.  

font change

مقالات ذات صلة