موسم "هجرة العقول" من الجامعات الأميركية

موازنات تمويل العلوم والعلماء والأبحاث تقفل في أميركا وتفتح في أوروبا

Shutterstock
Shutterstock
موجة نزوح أكاديمية من أميركا إلى أوروبا

موسم "هجرة العقول" من الجامعات الأميركية

بعد سلسلة من الحروب الاقتصادية، بدءا من فرض التعريفات الجمركية والتنافس على المعادن النادرة والأسواق العالمية، وصولا إلى السعي للهيمنة على الممرات البحرية ومضائق التجارة الدولية، تستعر حرب أكاديمية-علمية، أميركية-أوروبية هذه المرة، على خلفية قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب تقليص موازنات الجامعات الأميركية بنسبة 15,3 في المئة، الذي يدخل حيز التنفيذ في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، مما سيجعل فصل الصيف يشهد موجة هجرة جماعية للعقول من الجامعات الأميركية، مع توجه الأدمغة من غرب المحيط الأطلسي إلى شرقه، في صراع شد الحبل بين حلفاء الأمس، حول استقطاب أفضل المهارات في مجالات الابتكار والابداع والعلماء.

هجرة أكاديمية غير مسبوقة في الافق

قدرت مجلة "نايتشور" (Nature) المتخصصة في العلوم، أن أكثر من 1200 من أصل 1650 مشاركا في استطلاع للرأي من كبار المهندسين والأطباء وعلماء الفضاء والمناخ، والفيزياء الفلكية، والطاقة، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الرقمية، وعلوم الأرض والمحيطات، يرغبون في مغادرة الجامعات الأميركية.

واعتبر المشاركون في الاستطلاع أن المناخ السياسي الراهن يشكل عائقا أمام البحث العلمي بسبب الضغوط والتدخلات التي تستهدف المجال الأكاديمي، بالإضافة إلى تقليص الاعتمادات المالية التي تحد من قدرة الجامعات والطلبة على تحقيق أهدافهم التعليمية والبحثية.

وأظهر تقرير مجلة "نايتشور" أن 80 في المئة من المشاركين (طلبة وأساتذة)، عبروا عن رغبتهم في مغادرة البلاد في أقرب فرصة، وهم يتهمون إيلون ماسك، مستشار الرئيس ترمب وداعمه في الحملة الانتخابية، بالوقوف وراء القرارات التي تستهدف الجامعات، وذلك في إطار برنامجه المثير للجدل لترشيد النفقات الفيديرالية بقيمة تريليوني دولار. يشمل هذا البرنامج تسريح آلاف الباحثين في الجامعات والمعاهد المختلفة عبر الولايات الخمسين، الذين يتلقون أجورهم من الموازنة الفيديرالية. كما عبر الباحثون والأستاذة عن قلقهم من تراجع حرية الأنشطة الأكاديمية، وتعقيد شروط وصول الطلبة الأجانب إلى المختبرات العلمية الأميركية.

سيشهد فصل الصيف موجة هجرة جماعية للعقول المبدعة من الجامعات الأميركية، مع توجه الأدمغة من غرب المحيط الأطلسي إلى شرقه، في صراع شد الحبل بين حلفاء الأمس

ينضم إلى هؤلاء طلبة آخرون مهددون بفقدان منحهم الدراسية في الموسم المقبل وفق القوانين الجديدة، أو غير مرحب بهم داخل جامعاتهم بسبب مواقفهم السياسية المتعلقة بقضايا داخلية أو نزاعات خارجية. وقد تكون كندا وأوروبا وأوستراليا، ومناطق أخرى من العالم، وجهة بديلة لآلاف الأكاديميين. هذه حالة نزوح جماعي للعلماء والطلبة غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة، التي لطالما كانت مركزا لاستقطاب العقول المتفوقة، بفضل جودة التعليم وحرية الإبداع والابتكار، وتسهيل الوصول إلى المنح والدعم الدراسي.

Shutterstock
ترمب يزيد الانقسام والتنافس الأوروبي الأميركي على قطاع التعليم الأكاديمي

صحيفة "لو تان" (Le Temps) السويسرية أفادت بأن طلبات الانتقال من الولايات المتحدة الأميركية إلى خارجها زادت بنسبة 30 في المئة خلال الربع الأول من السنة الجارية، مما يعكس حالة من القلق لدى الأساتذة والطلبة في تخصصات أكاديمية مطلوبة في الجامعات الأوروبية.

اقتطاعات بقيمة 163 مليار دولار

تتضمن موازنة الولايات المتحدة للسنة المالية 2026 اقتراحا بخفوضات تصل إلى نحو 163 مليار دولار من الإنفاق الموجه إلى التعليم والتدريب، من خلال نقل بعض الصلاحيات  والمسؤوليات مثل الإشراف والتمويل، الى الولايات، بما فيها احتياجات المعاهد والمدارس والجامعات من  الكوادر التربوية والمدرسين.

اقترح الرئيس ترمب في موازنة 2026، خفوضات واسعة في إنفاق التعليم العالي الفيديرالي، ودعا إلى إلغاء بعض برامج المنح الدراسية الجامعية. كما تم تقليص موازنة الصحة والخدمات الانسانية (Health and Human Services) بنسبة 26 في المئة، لتصل النفقات الإجمالية للصحة إلى نحو 94 مليار دولار فقط، العام المقبل. وتسعى الإدارة بحسب بيان إلى "زيادة الفاعلية وتقليص حجم الحكومة الفيديرالية". وسينخفض تمويل المعاهد الوطنية للصحة (National Institutes for Health) بنسبة 40 في المئة، من 47 مليار دولار إلى 28 مليار دولار فقط.

بعض الكليات تستخدم التمويل الفيديرالي لدعم أيديولوجيات يسارية متطرفة

وزيرة التعليم الأميركية ليندا مكماهون

وقالت وزيرة التعليم ليندا مكماهون إنه "سيتم إنهاء العمل بعدد من الوكالات، وتحويل بعض المسؤوليات إلى الولايات، وإعداد خطة مدروسة لتفويض الوظائف الأساسية إلى كيانات أكثر ملاءمة".

وأضافت "يجب أن يعيد هذا الإصلاح توزيع التمويل للمؤسسات التي تخدم أكثر الطلاب ذوي الدخل المنخفض، وتقديم دعم لاكتساب فرص مهنية لتحسين نتائج التوظيف". وانتقدت ارتفاع تكاليف التعليم الجامعي، مشيرة إلى أن بعض الكليات تستخدم التمويل الفيديرالي لدعم "أيديولوجيات يسارية متطرفة"، مضيفة أن هذا الوضع يخفي صراعا سياسيا بين الجمهوريين والديمقراطيين داخل الجامعات الأميركية.

جامعات عريقة ستواجه شح التمويل

اقترح الرئيس دونالد ترمب اقتطاع ملياري دولار من موازنة جامعة هارفارد العريقة، التي تخرج منها نخبة الحكام في تاريخ الولايات المتحدة، و400 مليون دولار من موازنة جامعة كولومبيا الشهيرة، التي تملك فروعا في عدد من الولايات وتقدم مجموعة واسعة من التخصصات. وشمل التقليص جامعة هوارد بنحو 64 مليون دولار، وهي واحدة من أبرز المؤسسات الأكاديمية التاريخية للمواطنين السود في البلاد. 

كما سيتم خفض موازنة الفيزياء الفلكية 70 في المئة، وموازنة الجيوفيزياء والمناخ 50 في المئة، وعلم الكواكب والفضاء 30 في المئة، وموازنة بحوث "ناسا" 24 في المئة. وتراجعت موازنة البحث في علوم الفضاء من 7,5 مليارات دولار إلى أقل من 4 مليارات دولار. واقترح ترمب خفض 195 مليون دولار من موازنة برنامج "الاحتياجات الأساسية لطلبة ما بعد الثانوية" (FIPSE).

وأضاف الرئيس ترمب "أن الكليات والولايات يجب أن تكون مسؤولة عن تمويل البرامج المبتكرة نفسها". وبحسب المدافعين عن المشروع المالي الجديد، تهدف خطة الادارة الأميركية إلى تحفيز الابتكار، توفير شروط تنافسية عالمية خاصة مع الصين في كل المجالات.

يرى الاتحاد الأوروبي في الخلاف القائم بين الإدارة في واشنطن وقادة الجامعات والطلبة، فرصة لتقليص فجوة التفوق الأميركي في مجال البحوث والاكتشافات العلمية والطبية

 يشكك مكتب ميزانية الكونغرس (CBO) في جدوى الخفوضات المقترحة في الموازنة الفيديرالية المقبلة، ويحذر من تأثيراتها الجانبية. وسيكون هذا الموضوع محل نقاش وجدل أثناء عرض مشروع الموازنة الفيديرالية أمام مجلسي النواب والشيوخ في الخريف المقبل. وفقا لتوقعات مكتب الموازنة، فإن نفقات الحكومة الفيديرالية سترتفع الى 86 تريليون دولار بين عامي 2025  و2034، وهذا المبلغ الضخم يوازي حاليا ثلاثة أرباع الناتج الإجمالي العالمي، مما يجعل اقتراح إيلون ماسك خفض الموازنة بمقدار تريليوني دولار سنويا، لا يبلغ سوى 2,3 في المئة من إجمالي الإنفاق المتوقع على مدى عشر سنوات.

أزمة بين الجامعة والسياسة

 وقال أساتذة جامعيون متقاعدون لوسائل إعلام أميركية إن "هناك أزمة بين الجامعة والسياسيين تشبه ما حدث في سبعينات القرن الماضي، عندما كان يخرج عشرات الآلاف من الطلبة لمعارضة الحرب في فيتنام. يومها كانت الحكومات تنفق على التسلح والدفاع أكثر من إنفاقها على التعليم". اليوم، عادت بعض هذه القضايا للظهور مجددا، وسط تنافس في مجالات متعددة، وهي معادلة أثارت جدلا طويلا.

وفي عام 2024، بلغ إجمالي موازنة التعليم في الولايات المتحدة قرابة 286 مليار دولار، وهي ستقلص بشكل دراماتيكي وتشمل جميع مراحل التعليم، ومنها المنح والمساعدات التي قدمتها الحكومة الفيديرالية للطلبة الجامعيين، مما يجعل برامج المنح المختلفة أحد العوامل الجاذبة لعشرات الآلاف من الطلبة المتميزين في العالم للتوجه إلى أميركا.

أ.ب.
تجمع لطلاب جامعة هارفرد احتجاجا على قرار الرئيس الأميركي ترمب وقف تمويل الجامعة، 27 مايو 2025

على الصعيد العالمي، بلغت نفقات التعليم 5,8 تريليونات دولار في عام 2022. وتُقدر نفقات التعليم في الولايات المتحدة بنحو 6 في المئة من الناتج الإجمالي، ما  يضعها في مصاف الدول الاسكندينافية من حيث الإنفاق على التعليم. ومع ذلك، يقول أساتذة  متضررون من قرارات خفض موازنة التعليم "صحيح أن الثقة بين الحكومة والجامعات تتضاءل، لكن الجمهور لا يزال يكن تقديرا كبيرا للعلماء".

فرصة أوروبية لتقليص الفجوة

يرى الاتحاد الأوروبي في الخلاف القائم بين الإدارة في واشنطن وقادة الجامعات والطلبة، فرصة لتقليص فجوة التفوق الأميركي في مجال البحوث والاكتشافات العلمية والطبية، وأيضا الرد على القيود المفروضة على الصادرات الأوروبية  إلى الأسواق الأميركية  تحت ذريعة تقليص عجز الميزان التجاري الذي يميل لصالح الاتحاد الأوروبي بـ 236 مليار دولار في عام 2024.

تعالوا إلى أوروبا لنبني معاً جامعات من دون قيود، من خلال العلم وحرية البحث والابتكار

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

تُعتبر نفقات البحث العلمي في دول الاتحاد الأوروبي متواضعة، إذا ما قيست بمثيلتها في شمال القارة الأميركية، حيث تبلغ 2,25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو، بينما تصل إلى 3,44 في المئة في الولايات المتحدة. وتتفاوت النسب بين الدول الأوروبية، حيث تصل إلى 3,31 في المئة في السويد، و2,9 في المئة في بريطانيا، و2,23 في المئة في فرنسا. في المقابل تنفق الصين 2,56 في المئة، واليابان 3,41 في المئة من ناتجهما المحلي على البحث والتطوير العلمي.  

"إختر أوروبا للعلوم"

رصد الاتحاد الأوروبي مبلغ 500 مليون يورو خلال الفترة من 2025 إلى 2027 لجذب علماء وخبراء وباحثين من أميركا عبر مبادرة "إختر أوروبا للعلوم" ( Chose Europe for Science)، التي تقودها فرنسا وألمانيا. ويعتبر هذا المبلغ متواضعا بالنظر الى حاجة أوروبا لتضييق الفجوة مع التفوق العلمي الأميركي أو حتى الصيني. لذلك، يتطلب الأمر تعزيز الحوافز المادية والامتيازات الأكاديمية لجذب الطلاب والباحثين من مختلف أنحاء العالم، الذين تتنافس عليهم القوى الكبرى.

أ.ف.ب.
"إختر أوروبا للعلوم" شعار مؤتمر عن التعليم في أوروبا، جامعة السوربون، باريس، 5 مايو 2025

إلى ذلك، شرعت جامعة إكس مارسيليا في استقبال المجموعة الأولى من الباحثين الأميركيين، كما أعلنت باريس تخصيص 100 مليون يورو إضافية في موازنة البحث العلمي للسنة المقبلة بهدف استقطاب مزيد من العقول المبدعة، وسد الفجوة المسجلة في التخصصات العلمية ذات الصلة بالتكنولوجيا الرقمية والسيبرانية وعلم الفضاء والمناخ والعلوم الحياتية.

في خطاب ألقاه أمام حشد من السياسيين والأكاديميين وشخصيات من عالم الفكر والابداع في جامعة السوربون في باريس، وجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رسالة إلى طلبة ما وراء المحيط الاطلسي، قائلا: "تعالوا إلى أوروبا لنبني معا جامعات من دون قيود. إن فرنسا ترحب بأصحاب المبادرات، الذين يسعون إلى الاستقلالية والتنافسية والسيادة، من خلال العلم وحرية البحث والابتكار".

أوروبا تسعى إلى تضمين حرية البحث العلمي ضمن التشريعات الأوروبية، إستجابة للتهديدات المتزايدة التي تواجه استقلالية الجامعات حول العالم

أورسولا فان ديرلاين، رئيسة المفوضية الأوروبية

كان هذا التصريح بمثابة إشارة ضمنية من الرئيس الفرنسي إلى أن الإدارة الاميركية الجديدة تمارس نوعا من "الرقابة والتمييز" في مجال البحث والاكتشاف، التي لا تتوافق مع الأهواء السياسية أو القناعات الشخصية. والحقيقة الأخرى أن هذا التنافس على جذب العقول والموهوبين يُعتبر بمثابة رد اعتبار لأوروبا التي تجد نفسها في مواجهة تحديات عدة، منها صراع عسكري مع فلاديمير بوتين، وقلق تكنولوجي من شي جين بينغ الصيني، وعلاقة متوترة مع دونالد ترمب.

Shutterstock
أوروبا تشهد هجرة عكسية من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الأميركية

بدورها، قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان ديرلاين إن "أوروبا تسعى إلى تضمين حرية البحث العلمي ضمن التشريعات الأوروبية، إستجابة للتهديدات المتزايدة التي تواجه استقلالية الجامعات حول العالم.  لطالما كانت أوروبا مهدا لاستقلالية الجامعات وحرية البحث العلمي، وسنواصل الحفاظ على هذا الإرث".

أضافت أن هذه الرسالة موجهة إلى الداخل والخارج على حد سواء، في وقت يشهد فيه عدد من دول العالم الحر تراجعا في حرية الإبداع والتفكير، تحت غطاء سياسات حمائية انعزالية، تشمل مجالات سياسية وتجارية وثقافية ودينية، هدفها حماية مصالحها، من خلال دمج سلطتي المال والسياسة، والسعي لإبعاد سلطة العقل والعلم، الخصم الأول للمحافظين.

 علماء دول الجنوب تحتاجهم أوروبا

يتوقع محللون أن تشهد الشهور والسنوات المقبلة حربا جديدة بين حلفاء الأمس، تتمحور حول استقطاب العقول والكفاءات والمهارات، استعدادا لمعركة تنافسية عالمية جديدة، محورها التفوق العلمي، الذي يُعد المدخل الأساس للتفوق الصناعي والعسكري والسيبراني.

 تتمتع دول الجنوب النامية بميزة ديمغرافية واضحة، إذ يُنسب إليها العدد الأكبر من العلماء والخبراء والمهندسين والأطباء الجدد، الذين ينحدرون من قارات آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. في المقابل، تعاني أوروبا من انخفاض معدلات النمو السكاني، مما يجعلها في أمس الحاجة إلى استقطاب الكفاءات المهاجرة أكثر من أي وقت مضى، مع الإشارة إلى أن ظاهرة "هجرة العقول" قد تعرقل التنمية في الدول المصدرة لهذه الكفاءات، إذ تُحرَم من الاستفادة من استثماراتها في التعليم والتدريب، مما يؤثر سلبا على تطورها العلمي والاقتصادي. 

font change

مقالات ذات صلة