هل تنجح ألمانيا في التحول إلى قوة عسكرية كبرى؟

يتعهد القادة الألمان بتحويل البلاد إلى قوة عسكرية قادرة على تحمل مسؤولية الدفاع عن أمن أوروبا فهل يتحقق ذلك؟

AP
AP

هل تنجح ألمانيا في التحول إلى قوة عسكرية كبرى؟

شكل الصراع في إقليم دونباس بين الانفصاليين والحكومة الأوكرانية، بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014، متغيرا منهجيا وضع احتمالات نشوب حرب برية واسعة النطاق في أوروبا على محمل الجد. وقد تفاقمت المخاوف مع الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في فبراير/شباط من العام الماضي، حيث وصف المستشار الألماني أولاف شولتز الهجوم بأنه "نقطة تحول" في تاريخ أوروبا وألمانيا، مضيفا أنه "ليس هناك أدنى شك في أن بوتين يريد بناء إمبراطورية روسية"، وتساءل شولتز أمام البرلمان: "ما هي القدرات التي نحتاجها لمواجهة هذا التهديد؟"، معلنا عن إطلاق صندوق بقيمة 100 مليار يورو لدعم الجيش الألماني، مما سيضع ألمانيا وللمرة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية في الترتيب الثالث أو الرابع للإنفاق العسكري في العالم.

وفي خروج غير مألوف عن الاستراتيجيات الألمانية في استخدام القوات المسلحة، أعلن وزير الدفاع بوريس بيستوريوس، الذي كان يزور ليتوانيا مطلع الأسبوع الماضي مع الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، أن ألمانيا ستنشر قوة عسكرية دائمة في ليتوانيا، وأن برلين بصدد إحداث "نقطة تحول" لدورها في الدفاع والأمن الأوروبي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وتوسيع نطاق التزاماتها حيال دول البلطيق الأعضاء في الناتو. وأضاف بيستوريوس: "نعترف صراحة بمسؤوليتنا والتزامنا كدولة عضو في الناتو لديها أكبر اقتصاد في أوروبا بالدفاع عن الجناح الشرقي للحلف".

لقد أدى التشكيك في مزايا وقدرات القوات العسكرية في ألمانيا بعد الحرب الباردة إلى خيار الذهاب نحو عملية طويلة لنزع السلاح، بحيث أصبحت ألمانيا الدولة التي تجمع الاقتصاد الأول والجيش الأضعف في أوروبا. الآن يتعهد القادة الألمان بتحويل البلاد إلى قوة عسكرية قادرة على تحمل مسؤولية الدفاع عن أمن أوروبا فهل يتحقق ذلك؟

تفاقمت المخاوف مع الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في فبراير/شباط من العام الماضي، حيث وصف المستشار الألماني أولاف شولتز الهجوم بأنه "نقطة تحول" في تاريخ أوروبا وألمانيا

ألمانيا ومحاولة الخروج من ذاكرة الحرب العالمية الثانية

يستعيد استخدام ألمانيا للقوات العسكرية- لدى معظم دول العالم- صورا مقلقة للحقبة النازية التي عاشتها البلاد، كما أن التجارب المتكررة لتورط جنود ألمان في قضايا بارزة من التطرف اليميني، لم تسهم في تخفيف حدة هذا الانطباع. لقد سادت خلال السنوات الأخيرة حالات من التطرف في صفوف القوات الخاصة في الجيش الألماني، كما اتُهم تنظيم "مواطنو الرايخ" الذي ضم كثيرا من الجنود الألمان السابقين بالتخطيط لانقلاب عنفي للإطاحة بالحكومة وتنصيب "ملك" على ألمانيا.

لقد اعتمدت البروباغندا الروسية بشكل دائم على الترويج لمحاولات العودة إلى النازية في مواجهة التطلعات الألمانية. ففي العام 1955 أعيد تأسيس الجيش الألماني (Bundeswehr) استجابة للمخاوف الأميركية والبريطانية حيال غزو سوفياتي محتمل لألمانيا الغربية، وكانت غالبية ضباطه من القوات المسلحة الألمانية النازية (Wehrmacht) ومن تنظيم (SS) الأمني الذي أنشأه أدولف هتلر عام 1925. وقد صور القادة السوفيات في ذلك الحين إعادة تأسيس الجيش الألماني على أنه "نزعة انتقامية فاشية"، و"عودة إلى الهتلرية". وبالتوازي جاءت مقاومة إعادة التسلح من قبل شريحة كبيرة من سكان ألمانيا الغربية المنهكة من الحرب والذين يخشون، كما هي الحال الآن، أن يستفز ذلك روسيا. ومع ذلك، نما الـ(Bundeswehr) بفضل التجنيد الإلزامي، ليضم ما يقارب 500 ألف جندي وليصبح أحد أكبر الجيوش في حلف الناتو خلال الحرب الباردة.

ولطالما احتلت ألمانيا موقعا متميزا للغاية في العالم، باقتصاد يعتمد على التصدير على نطاق واسع بما في ذلك الدبابات والغواصات، حيث تصنف بين أكبر مصدري الأسلحة في العالم. لكن التفوق الاقتصادي يبقى خارج الاستخدام في مواجهة التهديدات الأمنية المتصورة، حيث تسمح ألمانيا للحلفاء بأخذ زمام المبادرة. لقد أرسل القادة الألمان قواتهم إلى أفغانستان لكنهم تجنبوا إلى حد كبير الإشارة إلى أنها "حرب"، رغم مشاركة جنودهم في المواجهات هناك للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.

أدى التشكيك في مزايا وقدرات القوات العسكرية في ألمانيا بعد الحرب الباردة إلى خيار الذهاب نحو عملية طويلة لنزع السلاح، بحيث أصبحت ألمانيا الدولة التي تجمع الاقتصاد الأول والجيش الأضعف في أوروبا

يستند تجنب ألمانيا تطوير قواتها العسكرية إلى مسلمة قوامها دفاع مضمون من قبل القوة العظمى البارزة في العالم، الولايات المتحدة، في إطار حلف شمال الأطلسي. لطالما انهمك الرئيس دونالد ترامب بشكل خاص في ما اعتبره عبء الدفاع عن ألمانيا، ولم يكن وحده الذي فشل في إقناع الألمان وحلفاء أوروبيين آخرين بتعزيز جيوشهم وتحقيق هدف الإنفاق الدفاعي لحلف الناتو البالغ 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

ألمانيا وسقوط شعار "التغيير من خلال التجارة"

في 12 سبتمبر/أيلول 2022، أعلنت كريستين لامبرخت، وزيرة الدفاع الألمانية السابقة، أمام مجلس العلاقات الخارجية في برلين أن ألمانيا يجب أن تكون على استعداد لأن تصبح "قوة رائدة" داخل أوروبا. وأقرت لامبرخت في حينه أن هذا قد يبدو غريبا على الألمان، لكن "القلق يحجب شيئا أساسيا وهو أن ألمانيا تتصدر بحكم الأمر الواقع حتى عندما لا تريد ذلك، هي تقع في وسط الكتلة، ولديها الاقتصاد الأكبر في الاتحاد الأوروبي والعدد الأكبر من السكان، وتتمتع بتأثير لا يمكن التغاضي عنه على استقرار أوروبا وأمنها، على الرغم من أنها حاولت في كثير من الأحيان تجنب هذا الدور".

ومع ارتفاع مستوى العدائية في خطاب بوتين، استمر شعار "التغيير من خلال التجارة" في تحديد سياسة ألمانيا الخارجية تجاه روسيا، وأن التبادل الاقتصادي بين الدولتين من شأنه أن يدفع نحو التحول الديمقراطي أو يمنع على الأقل الأعمال العدوانية. وبحلول عام 2015، تزايدت طموحات بوتين التوسعية بشكل واضح، ومع ذلك دعم المسؤولون الألمان خط أنابيب "نورد ستريم-2" الجديد الذي ينقل الغاز الطبيعي إلى ألمانيا مباشرة عبر بحر البلطيق، متجاوزا خطوط الأنابيب الحالية في أوكرانيا (تم افتتاح "نورد ستريم-1"، الذي يتبع المسار نفسه في عام 2011). تابع الألمان المشروع على الرغم من التحذيرات الأميركية من نتائج اعتماد ألمانيا على الغاز الروسي، وقد أبدى كثير من قادة دول أوروبا الشرقية قلقهم من خطورة خط الأنابيب الجديد الذي سيعرض أمن أوكرانيا للخطر، ويعزلها ويحرمها من رسوم عبور مربحة لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا.

dpa
المستشار الألماني أولاف شولتس (في المنتصف) في صورة تذكارية مع قيادات في سلاح الجو الألماني. قررت ألمانيا العام الماضي زيادة ميزانية القوات المسلّحة في مواجهة توسّع روسيا

لقد ساهمت عائدات المشتريات الألمانية من الوقود الأحفوري في تمويل التطور العسكري لروسيا، كما في رفع منسوب الحذر لدى دول أوروبا الشرقية مثل بولندا وأوكرانيا- اللتين عانتا من المحنة الجغرافية الكبيرة المتمثلة في الوقوع بين ألمانيا وروسيا، في ظل حكم كل من هتلر وستالين. لقد شبه وزير الدفاع البولندي آنذاك، رادوسلاف سيكورسكي، خطط بناء أول خط أنابيب "نورد ستريم" باتفاق مولوتوف- ريبنتروب لعام 1939 (اتفاقية عدم اعتداء بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي والتي قسمت أوروبا الشرقية إلى مناطق نفوذ). وقال سيكورسكي في مؤتمر أمني في بروكسل: "بولندا لديها حساسية خاصة تجاه الممرات والصفقات فوق رؤوسنا. كان ذلك في القرن العشرين. لا نريد أن يتكرر ذلك".

يستعيد استخدام ألمانيا للقوات العسكرية- لدى معظم دول العالم- صورا مقلقة للحقبة النازية التي عاشتها البلاد، كما أن التجارب المتكررة لتورط جنود ألمان في قضايا بارزة من التطرف اليميني، لم تسهم في تخفيف حدة هذا الانطباع


وفي مراجعة للسلوك الألماني تجاه روسيا تظهر التجربة التاريخية اعتماد تكييف القوة الناعمة بدلا من التهديد باستخدام القوة الصلبة. كان "التغيير من خلال التجارة" امتدادا لسياسة الحرب الباردة في ألمانيا الغربية، وهي سياسة التقارب مع روسيا التي وضعتها الحكومة الاشتراكية الديمقراطية في نهاية الستينيات، وسط مخاوف من اندلاع حرب نووية. وعلى الرغم من احتفاظ ألمانيا الغربية بعد ذلك بجيش قوي لردع الغزو السوفياتي، فإن قادة ألمانيا الغربية كانوا يعتقدون أن اعتماد التبادل الاقتصادي كان حاسما في منع نهاية العالم، وعلى هذا الأساس تم بناء خطوط الأنابيب لنقل الغاز الطبيعي السوفياتي إلى ألمانيا.

وعلى مر السنين، وبالرغم من القلق الذي أبداه الرؤساء الأميركيون حيال اعتماد ألمانيا بشكل كبير على السوفيات وتوفير الإيرادات لجيشهم، استمرت ألمانيا في النظر إلى هذه السياسة على أنها أداة فعالة لإنهاء الحرب الباردة.

ماذا تغير؟

عندما غزت روسيا أوكرانيا في فبراير/شباط 2022 كان الجيش الألماني يتألف من قوة قديمة قوامها حوالي 183 ألف جندي لا يفتقرون إلى الأسلحة والذخيرة الثقيلة فحسب، بل إلى أساسيات كثيرة. وفي يوم الغزو كتب اللفتنانت جنرال ألفونس ميس، قائد الجيش الألماني، على شبكة (Linkedin)، معبرا عن إحباطه: "الجيش الذي أتشرف بقيادته مكشوف إلى حد كبير. هذا لا يُشعر بالرضا!".

وفي أبريل/نيسان اعترف الرئيس فرانك فالتر شتاينماير، وهو ديمقراطي اشتراكي شغل منصب وزير الخارجية في عهد أنغيلا ميركل وكان مهندس سياسة ألمانيا تجاه روسيا، بارتكاب أخطاء، وقال للصحافيين في برلين: "لقد تمسكنا بالجسور التي لم تعد روسيا تؤمن بها والتي حذرنا شركاؤنا منها، لقد فشلنا في بناء منزل أوروبي مشترك يضم روسيا".

كانت ألمانيا من أكثر الدول التي تأثرت بشكل أساسي بالغزو الروسي حيث قوضت أسعار الطاقة الباهظة الصناعات الألمانية. لقد فقدت مقولة "التجارة من أجل التغيير" مصداقيتها مما دعا ليس فقط إلى وضع مسألة السياسة الخارجية لألمانيا تجاه روسيا قيد البحث بل أيضا علاقة ألمانيا الحالية مع الصين، الشريك التجاري الأكبر لألمانيا. ففي الوقت الذي يعمل فيه الرئيس شي جينبينغ على تعزيز سلطته، وتقوم الصين ببناء قواتها المسلحة وتهدد بعمل عسكري ضد تايوان، يسعى قادة ألمانيا للبحث عن مصادر طاقة جديدة ويقدمون المسوغات لاستخدام القوة الصلبة.

لقد أفضى البيان الختامي للقمة الأوروبية التي أنهت اجتماعاتها في بروكسل بتاريخ 30 يونيو/حزيران 2023 إلى التأكيد على المخاطر المرتفعة على الأمن الأوروبي لا سيما بعد تموضع مجموعة "فاغنر" في بيلاروسيا واحتمالات تسلل مقاتليها إلى البلدان الأوروبية المجاورة ودورها في تحريك تدفقات الهجرة من أفريقيا باتجاه دول الاتحاد الأوروبي لا سيما دول البلطيق، وهذا ما سيلقي تبعات إضافية على ألمانيا حيال ما تعهدت به لتعزيز الأمن والدفاع في دول الجناح الشرقي للناتو.

لطالما اعتاد الأكاديميون النظر إلى ألمانيا على أنها "دولة مهيمنة ومترددة". لقد أدى التهديد الروسي في خمسينيات القرن الماضي إلى عودة الجيش الألماني خلال الحرب الباردة، اليوم ولمرة جديدة يؤدي التهديد الروسي إلى تنشيط تلك العودة والى بروز دلائل على قبول متزايد داخل ألمانيا للحاجة إلى استخدام القوة العسكرية، وهو ما يشكل تحولا في مسار البلاد التاريخي. فهل يؤدي التزام ألمانيا بحماية دول البلطيق وتعزيز الدفاع عن الجناح الشرقي للناتو إلى الانتصار على "عقدة تجنب القيادة" التي لازمتها بعد الحرب العالمية الثانية؟ وهل يقدم الوضع الدولي المضطرب فرصة لألمانيا للعودة إلى المسرح الدولي كقوة كبرى؟

صحيح أن التردد الألماني في العودة له علاقة كبيرة بالتجربة النازية، لكن من السذاجة الاعتقاد بأن هذا هو ما يفسر كل شيء تماما.

font change

مقالات ذات صلة