جديد "بلاك ميرور"... صور الفظاعة وتجلّياتها

موسم ثري ومتمرّد ومغامر

سلمى حايك في حلقة جون سيئة

جديد "بلاك ميرور"... صور الفظاعة وتجلّياتها

أخيرا أطلقت "نتفليكس" الموسم السادس من سلسلتها الشهيرة Black Mirror المرآة السوداء، وقد لا تكون هذه السلسلة شهيرة فقط، بل هي بالتأكيد أحد أشهر إنتاجات المنصة العالمية. حتى الذين لم يُشاهدوا السلسلة، لديهم فكرة عن عوالمها. لهذا لم يكن غريبا أن يتصدر العمل، فور طرحه، قائمة الأعلى مُشاهدة على المنصة، كما أخذ المتفاعلون على شبكات التواصل الاجتماعي يُسجلون انطباعاتهم حول الحلقات الخمس التي تُشكّل الموسم الجديد.

هناك مَنْ رأى أن هذا الموسم الأخير دون المستوى المأمول، مطالبا حتى بعودة "بلاك ميرور" الذي يعرفونه، وهؤلاء يشيرون إلى المواسم الأقدم نسبيا. وهناك مَنْ اشتبك بشدّة مع مزاج الحلقات الجديدة وقصصها.

ومع ذلك، فإننا نستطيع أن نتخيَّل الورطة التي وجد صُناع الموسم الجديد أنفسهم فيها حين قرروا تقديم تكملة للسلسلة، لا سيما البريطاني تشارلي بروكر، مُبتكر العرض، ومؤلف أغلب حلقاته. ماذا يُمكن أن يُضيف بروكر؟ ليس فقط إلى السلسلة الشهيرة التي صدمتنا في الكثير من حلقاتها، وقست علينا وعلى أبطالها، لكن أيضا، ماذا يُمكن أن يُضيف إلى عالم اليوم تحديدا من أفكار وكوابيس وفظائع؟ إن نبواءته السابقة عن مستقبل الذكاء الاصطناعي، كانت سوداوية وديستوبية في حينها، وتصورنا أنها ستحدث في يوم بعيد، في جيل أحفاد الأحفاد مثلا، لكنها اليوم صارت أقرب مما نتصوّر مع الأخبار المتتالية عن "تشات جي بي تي"، وزواج أحد أباطرة هذه الصناعة من روبوت مُخلَّق لامرأة، وغيرها من التطورات التي نسمع عنها في نشرات الأخبار، وتستدعي أحيانا تعليقات المُتخصصين الخائفين واستقالات أفراد منهم اعتراضا على هذا "الوحش" الذي بدأت تُبعث فيه الحياة، وقد يخرج عن السيطرة.

إننا على أي حال عُزّل تماما أمام هذه التكنولوجيا، لكننا عزّل أكثر أمام الحروب والصراعات ومراكب المهاجرين التي تغرق في عرض البحر. الواقع أن العالم صار أكثر فظاعة مما تُقدمه سلسلة "بلاك ميرور"، أو على الأقل لقد تزايد إحساسنا بهذه الفظاعة بسبب التطور التكنولوجي والإعلامي نفسه. ولنعد إلى السؤال: ما الذي كُنا نتخيل أن يُقدمه تشارلي بروكر، وزملاؤه من صُناع في الموسم الجديد؟

في محاولة للعثور على إجابة، ربما يكون علينا أن نتأمل كيف كان "بلاك ميرور" القديم، وكيف أصبح في موسمه الجديد؟

هناك مَنْ رأى أن هذا الموسم الأخير دون المستوى المأمول، مطالبا حتى بعودة "بلاك ميرور" الذي يعرفونه، وهؤلاء يشيرون إلى المواسم الأقدم نسبيا. وهناك مَنْ اشتبك بشدّة مع مزاج الحلقات الجديدة وقصصها


فظاعة بلا حدود

على الرغم من أن سلسلة "المرآة السوداء" ارتبطت في أذهان الكثيرين بالتأثير السلبي والمريع لتكنولوجيا المستقبل، فإن السلسلة التي صدرت إلى حدّ اليوم حسب موقع IMDB سبع وعشرون حلقة منها، قد تناولت ثيمات عديدة، تدور بشكل أو بآخر حول فكرة "الشر"، الشر الداخلي الذي لا يُمكن احتواؤه. ذلك الشر قد ينعكس على الطريقة التي نستخدم بها التكنولوجيا، أو الطريقة التي ننساق بها للإعلام، وقد يخرج هذا الشر من الخير، وقد ينقلب الخير شرا. لقد تخصصت "المرآة السوداء" في عكس الفظاعات الإنسانية حصرا، ودأبت على إقناعنا ألا خلاص منها.

والفظيع في اللغة حسب ما ينقل معجم اللغة العربية هو: "صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من فظُعَ وفظِعَ بـ/ فظِعَ من: شديد الشناعة؛ مُثير للغيظ والألم". ونقول "فَظُعَ الأمْرُ، أي اشْتَدَّتْ شَناعَتُهُ، وجاوَزَ المِقْدارَ في ذلك، كأَفْظَعَ". ولذلك يُقال " تحدَّثت وكالات الأنباء عن فظاعة هذه الجريمة". والواقع أن معظم حلقات "المرآة السوداء" يُمكن وصفها بهذه الصفة "الفظاعة"، وهي فظاعة تستهدف صدمتنا على أي حال، صدمة تضطرنا إلى إعادة التفكير في ما كُنا نعتقد من قبل أنه من المُسلمات، لكنها أيضا صدمة تُحقق الهدف التجاري الأسمى من هذا العمل وهو أسر المُشاهد أمام الشاشة وإجباره على المُشاهدة، إنه إجبار اختياري بلا شك، إن جاز هذا التعبير.

أما لماذا يُقبل المتفرجون على مشاهدة مثل هذه الفظاعات وغيرها، فقد نعثر على تفسير في كتاب "الفظيع وتمثيله" الصادر عن "دار الجديد" في بيروت سنة 2021 وفيه يُشرِّح الكاتب السوري ياسين الحاج صالح هذا الشعور فيقول: "يُثير الفظيع في النفس مشاعر يتمازج فيها الخوف والكره والنفور، وكذلك الانجذاب والفتنة". من المنطقي أن ينتابنا الشعور بالخوف إزاء ما نُشاهده من فظاعات سواء حقيقية أو مُمثلة، أما انجذابنا له فيبُرره ياسين الحاج صالح: "في الفظيع ما يشد ويفتن، ما قد ننشدّ إليه مثل المسحورين، ربما لأنه غريب... ولعل الفظيع يخاطب فينا من وجه آخر النزوع إلى الاستثنائي والعجيب والشاذّ، النادر في كل حال، رؤية ما لا يُرى عادة، ولأنه لا يُرى فهو موضوع لحكاية أو لتصوير، لفرصة ليست متاحة دوما في انتزاع انتباه الآخرين".

دافيس من حلقة لوك هنري

منذ الموسم الأول، في حلقة "النشيد الوطني" على سبيل المثال، نحن أمام الفظاعة الإعلامية، فالإعلام المكوَّن من طرفين (مُرسِل ومُستقبِل) هو الذي دفع في النهاية رئيس الوزراء البريطاني إلى الامتثال لطلب خاطفي الأميرة بمعاشرة خنزير على الهواء، ولحظة يُعلن فيها رسميا قرار الرجل، يرفع المُشاهدون في الحانات كؤوسهم فرحين بالانتصار، فمَنْ الذي ارتكب هذه الجريمة حقيقة، هل هو الخاطف أم مُتابعو عملية الخطف؟ في حلقة "الدب الأبيض"، من الموسم الثاني، نشاهد جانبا من فظاعة السلوك الجمعي عندما تستهدف شخصا بعينه، ولو كان مجرما، تُصبح البطلة، مجرد دُمية تتعذّب بلا نهاية ولا خلاص، تُستلب إنسانيتها في طقس احتفائي وجنوني، تلقى بشكل ما مصير اللواتي اتُهمن بممارسة السحر في العصور الوسطى، وتدفعنا الصدمة في النهاية إلى التساؤل عن الحد الفاصل بين الخير والشر؟

فظاعة التكنولوجيا هي ثيمة أخرى مُتكررة، طوال الحلقات، في "حياتك كاملة" نكتشف أن البديل لضعف الذاكرة الطبيعي الذي نشكو منه، أن نزوَّد ببطاقة ذاكرة اصطناعية، وتكون النتيجة انهيار حياة البطل بسبب التدقيق في التفاصيل. في "رئيس الملائكة"، تتحوّل الرقابة المُحببة والتي يتفاخر بها الآباء عادة إلى لعنة على الابنة، التي تُحرم من رؤية الحياة التي نعرفها، وتصير في النهاية وحشا جريحا على استعداد للانتقام ممن سلبت منها هذه الحياة تحت ذريعة حمايتها، وتلك ليست سوى أمها.

وراء كل فظاعة من تلك، تتخفّى الفظاعة الإنسانية، الجانب المظلم، شياطيننا الداخلية. في أوقات قليلة قدّمت لنا "المرآة السوداء" شعورا ناعما أو اختيارا بالصُحبة. كما في "سان جنبيرو" في الموسم الثالث، إذ بدا أننا نستطيع البقاء مع مَنْ نختار إلى الأبد حرفيا، كما يحلم العشاق عبر الأزمنة، لكنها فعلت ذلك في عالم بعيد وعزول لن نصل إليه. أو في "لحظة والدو" من الموسم الثاني التي قالت لنا إن الهشاشة والرقة والإبداع صفات لا ينبغي أن تتلوث أبدا بالسياسة، أو ربما أن العالم ببساطة مُنتصر عليها لا محالة. السياسة وصناعة البروباغندا المزيفة وغسيل أدمغة الجيوش لتنفيذ الفظاعات التي يريدها القادة كانت موضوع حلقة "رجال ضد النار" من الموسم الثالث، هنا يتجسّد المجاز في حقيقة، يصبح الأعداء الأقل شأنا بالنسبة للمُعتدي، مجرد صراصير ينبغي الفتك بها، وتضيع مجدّدا كل حميمية محتملة أو على الأقل تتراجع إلى الخلفية.

القسوة والصدمة والحيرة والكسر المباغِت للتوقعات هي التأثيرات النفسية التي ظلّ يُفضّل صُناع "المرآة السوداء" تركها علينا في أغلب الأحيان، وقد تكون رغبتهم هذه قد خفتت إلى حد ما في الموسم الأخير تحديدا، مُقارنة بالمواسم الأسبق، لكن هذا التخفيف من الحدّة قد يكون في ذاته كسرا صادما للتوقّعات التي ربَّاها مُحبو المرايا السوداء. في بعض حلقات الماضي رأينا مبالغات في ممارسة القسوة، بل ونشتبه حتى في درجة من الاستمتاع بممارستها سواء علينا كمُتفرّجين أو على الأبطال، يُمكننا أن نرى ذلك في الموسم الرابع مثلا في حلقة "المتحف الأسود" التي تدور حول الهوس بالألم عند الذات والآخر، والهوس بالفرجة على آثار هذا الألم على جسد المُدان اجتماعيا كوسيلة للتطهر، وكذلك في "اسكت ونفذ" التي تفترض أن هناك عقابا سيحلّ بالمتفرّجين على المحتوى البورنوغرافي وتسقط الشخصيات في فخ لا خروج منه، كالذي سقطت فيه شخصيات المسلسل الكوري الشهير Squid Game، ودوافع العصابة هنا مثل هناك غير مُعلنة، وإن كان واضحا أن أصحابها في "بلاك ميرور" يظنونها عادلة أكثر مما هي في "لعبة الحبار".

الواقع أن العالم صار أكثر فظاعة مما تُقدمه سلسلة "بلاك ميرور"، أو على الأقل لقد تزايد إحساسنا بهذه الفظاعة بسبب التطور التكنولوجي والإعلامي نفسه

بعض السخرية لا يضر

مُبتكر "المرآة السوداء" تشارلي بروكر، وكاتب أغلب الحلقات، يقول في حوار يُمكن العثور عليه على يوتيوب إنه فضَّل أن يُضيف بعضا من خفة الظل إلى حلقات هذا الموسم الجديد. وكان قد صرّح لموقع Tudum "لدي دائما شعور بأن بلاك ميرور ينبغي أن يُقدم قصصا تختلف إحداها عن الأخرى، تُفاجئ المشاهدين وتفاجئني شخصيا وإلا ما الفائدة؟ ينبغي أن تكون سلسلة لا يسهل تصنيفها وألا تتوقف عن إعادة اختراع نفسها".

قد تكون السخرية اللاذعة هي إحدى المفاجآت الحقيقية لهذا الموسم، خصوصا في الحلقة الأولى والحلقتين الأخيرتين، سخرية تتفاوت درجتها بين الحلقات لكنها تظل حاضرة. هذا هو الخيار الإبداعي الجديد لمُبتكر السلسلة، وقد يكون فيه بعض من التكفير عن القسوة المفرطة التي وسمت المواسم السابقة من "المرآة السوداء". لكنها بكل تأكيد، أي السخرية، خيار لن يُرضي الجميع، فبطبيعة الحال هناك من بين المُشاهدين مَنْ سيطالب بجرعات ربما أكبر من الفظاعة وليس أقلّ. خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن اللجوء إلى العوالم المُرعبة قد يكون مفيدا في بعض الأحيان، في عملية التطهر من المشاعر السلبية والقلق، وإن كنت أميل شخصيا إلى اعتبار بعض حلقات "المرآة السوداء" فرصة لاستدعاء القلق وليس تفريغه.

إذن هل نقول إن هذا الموسم الأخير أقل فظاعة مما اعتدنا؟ وإن لم يكن فظيعا بما يكفي فأي الصفات إذن يُمكن أن نسبغها عليه؟

 

سُخرية منّا ومن "نتفليكس"!

يبدأ الموسم بحلقة "جون سيئة" وقد شحذ لها الصُناع كل وسائل جذب الانتباه، هي الحلقة التي يُفترض أن تورِّط المشاهدين في الفُرجة، وجرّهم لمشاهدة بقية الموسم، أو بقية المواسم إن لم يكونوا قد فعلوها فعلا. "جون" بطلة الحلقة هي سيدة عادية، ناجحة في ترسانة عمل لا يرحم، مُقبلة على الزواج من رجل لا يجمعها به الشغف الكافي، ما يجعلها تتردّد أحيانا في المضي قدما في العلاقة، خصوصا عندما يظهر عشيقها السابق، ويدعوها لقضاء بعض الوقت معه. هذه كلها نقاط تُشبهنا في حيواتنا العادية، هل هي حلقة عن العلاقات مثلا؟ لا. ذات يوم ستفتح "جون" وهي جالسة إلى جانب خطيبها منصة "ستريمبيري"، التي تُحاكي "نتفليكس" نفسها، لتجد حياتها أمامها على الشاشة. وفي سبيل استدعاء المزيد من الإثارة والمزيد من السخرية للحلقة، تؤدّي النجمة سلمى حايك دور جون، وهو ما يعني أن جون "السيئة" كما يُظهرها العرض ستحصد أعلى مشاهدة وبالتالي سيعرف الجميع ما تُخفيه جون عن خطيبها، وكيف تُسيء أحيانا إلى موظفيها.

التأثير الأول هو أننا كمُشاهدين سنضع أنفسنا مكانها، ونشعر بالرعب. ماذا لو فوجئنا أن حياتنا مُذاعة على الهواء، أن أسرارنا الصغيرة معروضة ومُكبَّرة إلى هذا الحد؟ هل سيأتي هذا اليوم أيضا؟ عندما تلجأ جون إلى القانون، تُخبرها المحامية "لا أستطيع أن أفعل شيئا، هذا ضمن ما وافقت عليه في الشروط والأحكام". ويبدو أن هذه السخرية من الشر التافه لجون، والشر العظيم لـ "نتفليكس"، لم تكفِ تشارلي بروكر، وإذا هو يُضيف عناصر أخرى مجنونة، فسلمى حايك ليست هي فعلا، إنها صورة منشأة بالذكاء الاصطناعي، وافقت النجمة الكبيرة على استخدامها، كما أن جون ليست جون نفسها، إنها صورة من شخصية أخرى تحدث في عالم مواز.

عند هذا الحدّ جائز أن نُصاب بالدوخة، لكن الصدمة تبقى هناك، حيواتنا المسروقة أو المُحتمل سرقتها هذه، ليست في حقيقتها أصلية. تقول جون مستاءة لسلمى حايك: "صدقيني لا أريد أن يرتبط اسمي بنفسي حتى!". هذا الاستياء الكبير من الحياة الشخصية، والعجز عن "لعب الدور الرئيسي فيها" حسب تعبير معالجة جون النفسية، أليس هو الذي خلق هذه السيادة الخارقة للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي؟ ألم نفرّط في حياتنا للتكنولوجيا، لأننا أصلا على استعداد للتفريط؟

آني ميرفي بطلة الحلقة الأولى من الموسم السادس جون سيئة

الشر مرة أخرى

تتقاطع الحلقة الثانية المعنونة "لوك هنري" مع الحلقة الأولى في الفكرة التي تقول إن المواد الفنية التي تتناول السيئ والفظيع هي صناعة المُتفرجين، بقدر متساو مع مُبدعيها، ومع المنصات التي تُنتجها. تقول "بيا" رفيقة المخرج الطموح وشريكته في عمله، حين يسمعان عن الجريمة التي وقعت في مدينته الهادئة "لوك هنري" قبل أعوام وتسبّبت في امتناع الناس عن زيارتها: "إنها جريمة فظيعة جدا، لا تُقاوم"، وتقصد بذلك أنه ينبغي صُنع فيلم عنها، لأن الناس يودون دائما مشاهدة الفظيع، وهو نفس ما قالت مسؤولة "ستريمبيري" في حلقة "جون سيئة". لا يكون دافيس الشاب الرقيق العائد إلى مدينته بعد أعوام طويلة من الغياب في سبيل تصوير فيلم تسجيلي بسيط مُتحمسا في البداية، لكنه يرضخ أمام الإغراءات التي تُقدمها له بيا، "سوف نعرض المشروع على منصة 'ستريمبري' وسيوافقون على إنتاجه، سوف تحصد الجوائز وتكون مخرجا شهيرا".

في حلقة لوك هنري نتذكر "صندوق بندورا". إن الفظيع قد يكون قريبا جدا منّا، ومع ذلك لا نُفكر في رؤيته، لكن أليس مُستحسنا أن نحتفظ بعمانا، وقد يؤدي الإصرار على رؤية الحقيقة إلى حدوث المزيد من الفظاعات؟ نعم سيُحقق دافيس هدفه، ويتمكن من رواية القصة، لكن على حساب موت معظم شخصيات هذه، وعلى حساب سُمعته الشخصية واتزانه النفسي ربما.

هذه الإدانة للمُتفرج لا تعني أن المنصات التي تروج لهذا النوع بريئة أيضا، لا لن يقع تشارلي بروكر في هذا الخطأ. يقف المهرجان الذي منح دافيس جائزته باحتفائية مبالغ ومشكوك فيها، يقف على طرف نقيض من الرسالة التي تركتها الأم لدافيس بكل ما معها من دلائل على الجرائم وذيّلتها بتوقيع مُربِك "من أجل فيلمك، ماما". إنه الفرق بين الفظيع البعيد الذي نستمتع بمشاهدته على الشاشة، وبين الفظيع الحقيقي الذي يقتل الناس معنويا وحقيقيا؟ فهل يُغيِّر ذلك من موقفنا منه؟

قابيل وهابيل

تنتمي الحلقة الثالثة المعنونة "ما وراء البحر"، وبصورة أقل "لوك هنري" إلى عوالم "بلاك ميرور" المألوفة. تحديدا أجواء الموسمين الثالث والرابع، وهما الموسمان الأعلى تقييما من وجهة نظر كثير من متابعي السلسلة. هذه حلقة مُرضية في مستوى الفظاعة لمُحبيها، ليس وراءها فكرة نقدية بعينها. الفارق فقط أنها لا تذهب إلى المستقبل، إنما تعود إلى الماضي، أعوام الستينات وظهور الهيبيز، مع ذلك فهي ستينات موازية أكثر منها حقيقية. ففكرة أنه يوجد نسختان من شخص واحد، إحداهما على الأرض والأخرى في الفضاء، والتنقل يحدث بواسطة تقنية معينة، تُفعّل بمفتاح شخصي، لا تمت بصلة بالتأكيد لأعوام الستينات الحقيقية.

كليف من حلقة ما وراء البحر

تنهض "ما وراء البحر" على سرد ناعم، يحتال بالأغنيات، وعنوان الحلقة نفسه مأخوذ من أغنية قديمة، والأجواء الحالمة والرقصات البطيئة، لكن الفظاعات تظهر فجأة، لتقلب حياة البطلين كليف ودافيد رأسا على عقب. صحيح أننا لا نشهد هذه الفظاعات رؤى العين، لكننا نشاهد آثارها، الدماء على الأرض والقلوب المحطمة التي يسكنها الشرّ بالتدريج. ثيمة أخرى مشتركة مع "بلاك ميرور" الماضي، هي العزلة التامة والمُرعبة. هي عزلة داخل عزلة. عزلة البطلين اللذين يعيشان في أسطوانة في الفضاء وحيدين، وهما على الأرض كذلك يعيشان كغريبين ومعزولين في المجتمع الكبير. يرتبط مصير أحدهما بالآخر، وهذا فقط ما يجعلهما يمتنعان رغم الصراع الذي يشتد بينهما عن أن يقتل أحدهما الآخر، ليصبحا استدعاء صريحا لقصة "قابيل وهابيل". فقط لنتخيّل أن قابيل قد قضى على الحياة على الأرض، ولم يقض على هابيل، وأن عداوتهما ستمتد إلى الأبد.

 

الموسم الأخير من "بلاك ميرور" مُختلف في فظاعته عن المواسم السابقة شكلا ومضمونا، رغم محاولته إرضاء جميع الأذواق، ويبدو مثل حركة تمرّد جريئة من مبدعه على عمله السابق، بحثا عن تأثير جديد

مُستذئبون

"ميزي داي" هي الحلقة الرابعة من هذا الموسم، وهي أقصر حلقاته، وأغربها، وأكثرها مدعاة للحيرة. تحدث في الماضي، حيث ما زال مصورو البابارتزي يستخدمون أجهزة تصوير ثقيلة يصعب إخفاؤها، ولا توجد هواتف ذكية. تختفي النجمة الشهيرة ميزي داي، من موقع تصوير أحد أفلامها، ويطلب مشغلو المصورين منهم أن يحصلوا لها على صورة شخصية بأي ثمن. يذهب أربعة في مهمة البحث، تسبقهم بو، التي تسببت من قبل في فضائح ومآس لمن التقطت صورهم.

هناك قصتان داخل هذه القصة، الأولى التي يوهمنا تشارلي بروكر وشركاه أنه يرويها لنا. وهي قصة حادثة السيارة التي ارتكبتها ميزي داي في طريقها وهي مخدّرة، والتي جعلتها تبتعد عن الأضواء بسبب الإحساس بالذنب. والثانية التي يفاجئنا بها في النهاية، وهي أنها لم تبتعد بسبب الإحساس بالذنب لكن لأنها أصيبت بداء المُستذئبين، بسبب هذه الحادثة. هل خطر على بالنا أن "بلاك ميرور" يُمكن أن تتكلم عن خرافة المُستذئبين؟ قد تكون هذه الحلقة سخرية من الأسطورة، ومن توقعاتنا أثناء المشاهدة وحتى من المرآة السوداء نفسها. إنها استهانة بشكل ما بنا أيضا. شبه مزحة. تحتفظ بإصابتنا ببعض التوتر، وبنقدها الصريح لفكرة انتهاك الحياة الشخصية بالتصوير، وهي فكرة لم تعد تتوقف في عصرنا الحالي على البابارتزي، بل صارت السوشيال ميديا وسيطرتها تجسيدا جديدا ووحشيا لها. كل شيء يُصوّر ويُعرض، لا أحد يبحث عن إذن.

أنجانا فسان وهي تلعب شخصية نيدا في حلقة شيطان 79

المُهاجرِة البصيرة!

تلتقي الحلقة الختامية لهذا الموسم "شيطان 79" بحلقته الأولى في أنها تعتمد بدرجة كبيرة على الإضحاك والسخرية لكن هذه المرة ليست من المشاهدين. ربما تكون من النظام المعادي للمهاجرين في الغرب، من عماه وتعصّبه وعجزه عن تأمّل شروره. تلتقي هذه الحلقة أيضا وإلى حد ما مع حلقة "اسكت ونفذ" في فكرة أن هناك مُستحقين للعقاب أو لوقوع الفظاعة عليهم، وتتطرّف في أنه قد يكون من الواجب التضحية بهم. لكنها مثل الثلاث حلقات التي تسبقها تحدث في الماضي، تحديدا عام 1979. تنهض الحلقة على شخصية "نيدا"، وهي بائعة في محل أحذية من أصول هندية، تظهر أجنبيتها في لون بشرتها وفي نوع الطعام الذي تتناوله وتزعج رائحته زميلتها في العمل. إن شخصية نيدا، ومُمثلتها "أنجاندا فسان"، قد تكون أكثر الشخصيات عادية، وأقربها عاطفيا من المشاهدين، وسط حلقات هذا الموسم الأخير. فهي إنسانة عادية، تخلص في عملها، لكنها تُعاقب باستمرار، فقط لأنها ليست ابنة البلد. وبالرغم من نوبات الغضب التي تنتابها من استمرار المعاملة العنصرية لها، وخيالاتها التي ترى فيها أنها تنتقم لنفسها، إلا أن لها قلبا عطوفا حقا، وتتفر من الفظاعة بكل صورها.

ومع أنها لا تختار الفظاعة، فإن الفظاعة تختارها. إنها "بلاك ميرور"، كما أن حياتنا ليست جنة! على غرار "أن ما يحدث داخلك سيحدث حولك يوما ما"، يخرج لنيدا ذات يوم شيطان اسمه "غاب" من حجر تعثر عليه في مخزن عملها. وترتفع السخرية، عندما تُصاب نيدا بالرعب ويحاول هذا الشيطان إقناعها أنه طيّب، وأن عليها ألا تخاف منه. ثم يقرّر في سبيل تهدئتها أن يبدّل شكله الشيطاني بشكل رجل، رجل أسمر البشرة خفيف الظل يرتدي ملابس مضحكة.

تطور نيدا الوحيدة علاقة حُب-كراهية مع هذا الشيطان. وتحاول مرة الامتثال لأوامره باختيار ضحايا مناسبين، أو التمرّد عليه باختيار ضحايا تعرف هي أنهم مصدر للشرور في هذا العالم. اللعبة التي يلعبها تشارلي بروكر هنا مزدوجة. فالتلاعب البصري بحواف الصورة، يجعلنا نتشكك أن هذا الشيطان ليس سوى ظلّ في عقل نيدا نفسها. لكن عندما تقترب النهاية، يكسر توقعنا هذا ويُرينا نهاية أخرى مُخيفة لعالمنا الحقيقي هذا، إن لم يستطع التصدي للكراهية.

إن الموسم الأخير من "بلاك ميرور" مُختلف في فظاعته عن المواسم السابقة شكلا ومضمونا، رغم محاولته إرضاء جميع الأذواق، ويبدو مثل حركة تمرّد جريئة من مبدعه على عمله السابق، بحثا عن تأثير جديد على مُشاهديه الشغوفين. موسم ثري رغم كل شيء ومُغامِر أيضا.   

font change

مقالات ذات صلة