الرهن العقاري في بريطانيا قنبلة موقوتة

EPA
EPA
سيدة تحدق في الأسعار أمام أحد مكاتب وكلاء العقارات في لندن في 26 يونيو/حزيران الماضي، بعد ارتفاع معدلات الرهن العقاري إلى أعلى مستوى لها منذ سبعة أشهر الى 6,23 في المئة

الرهن العقاري في بريطانيا قنبلة موقوتة

يخيم على المملكة المتحدة اليوم جو متشائم من إمكان حدوث ركود اقتصادي في البلاد، مع إعلان بنك إنكلترا رفع سعر الفائدة الأساسي بمقدار نصف نقطة مئوية اضافية. فقد تحوّل، فجأةً، اهتمام المعلقين الذين يفضلون عادةً مناقشة مصائر السياسيين، إلى التركيز على بعض القضايا الاقتصادية لقول شيء ما، أي شيء، يبدو متماسكا حول الوضع المعقد الذي يجد البريطانيون أنفسهم فيه.

تحدث السير كير ستارمر، زعيم حزب العمال، مرارا في البرلمان، عن "عقوبة الرهن العقاري" التي فرضتها الحكومة، في إشارة إلى العبء المالي الإضافي على مالكي المنازل وشُراتها المحتملين نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة. وإذا كان كلامه ينكأ جروح هذه القضية الحساسة، إلا أنه قد يكون تأخر قليلاً في هجومه هذا. فمع ترقب الارتفاع الثالث عشر لمعدل الفائدة على نطاق واسع، اعتاد البريطانيون فعليا على فكرة أن تكون الأزمة الأخيرة "قنبلة موقوتة" للرهن العقاري، تهدد أي فرد يحتاج إلى الحصول على أول قرض عقاري أو إلى إعادة تمويل رهن قائم.

تأتي هذه الأزمة تتويجا لمعضلة ارتفاع التضخم التي تعاني منها المملكة المتحدة، وهو سبب التحرك الأخير للبنك المركزي في المقام الأول، و"أزمة تكلفة المعيشة" التي يبدو أنها ستستمر حتى الانتخابات العامة المقبلة بعد ثمانية عشر شهرا على أبعد تقدير.

وكما توقع المتشائمون في لندن، عمد بنك إنكلترا إلى رفع سعر الفائدة بمقدار نصف نقطة، ليصل إلى 5 في المئة، وهو مستوى لم نشهده منذ عام 2008، والذي يعد عتبة تحول مالي ومصرفي. يأمل البنك المركزي من خلال تشديد السياسة النقدية، التخلص من الضغوط المتزايدة لارتفاع الأسعار داخل الاقتصاد. إلا أن التضخم في المملكة المتحدة يثبت عناده، وهو يعتبر حاليا الأسوأ بين دول مجموعة السبع. وهو فشل في الانخفاض في مايو/أيار الماضي، مع بقاء معدل مؤشر أسعار المستهلك السنوي عند 8,7 في المئة، متجاوزا بشكل كبير هدف الـ2 في المئة الذي وضعته الحكومة.

التضخم في المملكة المتحدة مستمر، وهو الأسوأ بين دول مجموعة السبع. لم ينخفض مع بقاء معدل مؤشر أسعار المستهلك السنوي عند 8,7 في المئة

من غير المرجح أن يؤدي هذا القرار إلى تحسين صورة البنك أو صورة محافظه، أندرو بيلي، الذي نال نصيبه من النقد من أعضاء البرلمان المحافظين لتعامله ببطء شديد مع رفع معدل الفائدة، حيث افترض أن ارتفاع التضخم هو مسألة موقتة. علاوة على ذلك، ألمحت الحكومة إلى أنه قد يعاد النظر في استقلالية البنك المركزي، عندما قدم مستشار ليز تراس، كواسي كوارتنغ، خلال فترة ترؤسها مجلس الوزراء، ما عُرف حينها باسم "الموازنة المصغرة".

EPA
تكثر في لندن لافتات عرض المنازل للبيع، الصورة في 26 يونيو/حزيران الماضي.

جذور الأزمة

وإذا كان من السهل جعل البنك المركزي كبش فداء، إلا أن أسس رفع معدل الفائدة معقدة وخاضعة للنقاش. إذ يُعزى التضخم المحتدم في بريطانيا لأسباب مختلفة، من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلى جائحة كوفيد-19، واضطرابات سلسلة التوريد، والقدرة التفاوضية المؤثرة للعمال نظرا إلى النقص في العمالة، والمدخرات التي استطاع البريطانيون جمعها خلال فترات الإغلاق، والتي ساهمت في إبقاء ارتفاع الطلب على الرغم من ارتفاع الأسعار.

بغض النظر عن أصل المشكلة، الذي يمكن أن يتعلق بكل ما سبق، فإن التأثيرات على الأسر البريطانية مقلقة للغاية، سواء بالنسبة للأفراد الذين تملكوا منازل حديثا، أو أولئك الذين يرغبون في تجديد الرهن العقاري. تشير بيانات بنك إنكلترا لعام 2023 إلى أن مالكي المنازل ذات الرهون العقارية القائمة على معدل فائدة ثابت، سيتحتم عليهم تسديد مبلغ متوسط إضافي بقيمة 3000 جنيه إسترليني، مما يكبد الأسرة المتوسطة، زيادة شهرية تتراوح بين 750 و1000 جنيه إسترليني لقسط الرهن العقاري.

تعود جذور الأزمة الراهنة على الأرجح إلى زمن كواسي كوارتنغ، حين أدت محاولات خفض الضرائب وتحفيز النمو إلى ارتفاع مفاجئ في عائدات السندات الحكومية، حيث استشعرت الأسواق تهورا من الحكومة في تنفيذ إجراء كهذا. وفاقم من مخاوف الناس، إحجام وزارة الخزانة عن إخضاع خطتها للنمو لتدقيق مكتب مسؤولية الموازنة.

تشير بيانات بنك إنكلترا أن مالكي المنازل ذات الرهون العقارية القائمة على معدل فائدة ثابت، سيتحتم عليهم تسديد زيادة شهرية تتراوح بين 750 و1000 جنيه إسترليني لقسط الرهن العقاري

وأوردت صحيفة "غارديان" في أحد مقالاتها مثلا عن مقترض أطلقت عليه اسمه داني، قال إن مستشاره للرهن العقاري حاول التواصل مع جميع عملائه عقب إعلان "الموازنة المصغرة"، لتنبيههم إلى أزمة تكلفة الرهن العقاري التي من شأنها القضاء على القدرة المالية لملايين المواطنين. 

وأضاف أن المستشار المذكور عمد إلى تصنيف العملاء في ثلاث مجموعات: أولئك الذين لم يستجيبوا للتحذيرات أو قللوا أهميتها، ومجموعة أخرى شكّل التحذير صدمة عنيفة لهم بحيث باتوا عاجزين عن التصرف، وأولئك الذين استجابوا سريعا وأحسنوا التصرف.

الإحباط الذي عبّر عنه داني وآخرون، يتخطى سياسة ليز تراس، ليشمل أعضاء حزب المحافظين السبعين ألفا الذين اختاروها، أولئك الذين لا يعانون من ضغوط الرهن العقاري ويصعب عليهم الشعور بالآلام المالية التي يواجهها الآخرون. 
يبدو أن الحكومة لا تسعى إلى تذكير المواطنين بما أثير أيام تراس، بقدر رغبتها في تسعير العار الذي تسبب به بوريس جونسون.

EPA
انخفضت أسعار المنازل في المملكة المتحدة بنسبة 1 في المئة في المتوسط، وهو أول انخفاض سنوي منذ 2012 وفقا لشركة هاليفاكس للرهن العقاري. وتظهر الصورة الملتقطة بطائرة درون المنازل في شرق لندن، في 16 يونيو/ حزيران الماضي.

هل تتحمل المصارف أعباء رفع الفائدة؟

إذاً، ما العمل؟ في الوقت الراهن، بينما تنتقد الحكومة بنك إنكلترا، لا تبدو هي نفسها واثقة من مسار عملها. من ناحية أخرى، اقترح حزب العمال خطة شاملة من خمس نقاط، لا تشمل تقديم مساعدة مالية مباشرة إلى ذوي الرهون العقارية، بناء لاقتراح الديموقراطيين الليبيراليين، خوفا من أن يؤدي إجراء كهذا إلى تقويض الآثار المستهدفة من وراء رفع الفائدة لمكافحة التضخم.  

بدلاً من ذلك، تطالب خطة حزب العمال المصارف بالسماح للمقترضين بتسديد قيمة الفائدة فقط، وتمديد فترة سداد الرهن العقاري، وحرية العودة عن هذه الإجراءات في أي وقت، على أن توفر المصارف فترة سماح لستة أشهر على الأقل قبل أن تشرع في استعادة الممتلكات، مع الأخذ في الاعتبار تجنب أي تأثير سلبي على التصنيفات الائتمانية للمقترضين.

وكانت روشانارا علي، وهي نائبة عن حزب العمال، اشتكت خلال برنامج "ذا تايك" (The Take) على قناة "سكاي نيوز" من أن المصارف الكبرى تستفيد من ارتفاع أسعار الفائدة، إلا أنها في المقابل تحجم عن تمرير هذه الإفادة إلى المدخرين لديها. فمن الغريب حقا أن تتخذ تدابير مكافحة التضخم منحى كهذا، حيث يعاقب المقترضون، ولا يكافأ الآخرون. أما إذا أعطي الناس حافزا حقيقيا للإحجام عن الإنفاق واللجوء إلى الادخار عوضا من ذلك، فمن البديهي أن نشهد هدوءا اقتصاديا.

من الطبيعي أن يميل الحزب العمال إلى استهداف المصارف التجارية، نظرا إلى موقفه التاريخي. يُذكَر أن رئيس الوزراء السابق غوردون براون، الذي كان على رأس حزب العمال، هو من منح بنك إنكلترا استقلاليته. هذا عدا أن الحزب لم يغفر للمصارف دورها في تأجيج الأزمة المالية في عام 2008.

حتى أن جون ماكدونيل، مستشار الظل السابق في عهد جيريمي كوربين، اقترح أن تتحمل المصارف عبء ارتفاع أسعار الفائدة من خلال خفض معدلات الفائدة للمقترضين وتغطية العجز من أموالها الخاصة. وفي حال لم تلق هذه المناشدات آذانا صاغية، فيطالب ماكدونيل أن تكون الحكومة صارمة وتفرض ضريبة أرباح إضافية على القطاع .

لكن فرصة حدوث ذلك، تبقى بكل تأكيد ضئيلة في ظل الحكومة الحالية، التي كانت، حتى أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مستعدة لسحق الاقتصاد في سبيل تحقيق النمو ... ولا سيما نمو المكافآت في القطاع المصرفي.

font change

مقالات ذات صلة