المغرب تضيء بريطانيا

أطول خط كهربائي تحت المحيط الأطلسي لتزويد المملكة المتحدة بالطاقة المتجددة كلفته 22 مليار دولار

إيوان وايت
إيوان وايت

المغرب تضيء بريطانيا

تشهد العلاقة بين المملكة المتحدة والمملكة المغربية شهر عسل غير مسبوق منذ أكثر من 120 عاما، رمزت إليه مشاركة الأميرة للا مريم شقيقة الملك محمد السادس، في احتفالات تتويج الملك البريطاني تشارلز الثالث في لندن. وكانت لجنة الحوار الاستراتيجي بين البلدين قد اجتمعت أخيرا في دورتها الرابعة، في الرباط، برئاسة وزير الدولة البريطاني للشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا والأمم المتحدة في وزارة الخارجية والكومنولث والتنمية اللورد طارق أحمد، ووزير الخارجية ناصر بوريطا، مما يعكس قوة العلاقات التاريخية الثنائية وعمقها، بحسب بيان مشترك.

هذا التقارب تغذيه حاليا برودة وأزمة عميقة في العلاقات مع فرنسا، الحليف التقليدي، وتداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا، والتهافت الدولي على خيرات القارة الأفريقية، وحاجة لندن إلى حليف موثوق به في شمال أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط، المنطقة التي تشهد استقطابا خارجيا استثنائيا بين القوى الكبرى، في وقت يعيش الاتحاد الأوروبي حالة عدم يقين وتراجع اقتصادي وتشرذم داخلي.

ارتفعت المبادلات التجارية بين لندن والرباط إلى ثلاثة مليارات دولار عام 2022، مستفيدة من الوضع الجيوستراتيجي الإقليمي الجديد بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت)، ومن وضع "الشريك المتميز" للمغرب داخل السوق الأوروبية لجهة المنافع الجمركية، مما يسمح للشركات البريطانية بالتوسع في المغرب وباقي المنطقة المغاربية، بعد تخلصها من البيروقراطية الإدارية في بروكسل، والبيروقراطية البرلمانية في ستراسبورغ.

التقارب بين الرباط ولندن تغذيه برودة وأزمة عميقة في العلاقات بين المغرب وفرنسا، وتداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا، والتهافت الدولي على خيرات القارة الأفريقية، وحاجة لندن إلى حليف موثوق به في شمال أفريقيا

مصاحبة ملك أفضل من مرافقة رئيس

خلال السنوات الأخيرة، تسارعت وتيرة الزيارات الرسمية المتبادلة بين المملكتين المتحدة والمغربية، ومعها توقيع عشرات الاتفاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية والمالية والزراعية والمناخية والثقافية والعلمية والسياحية، وكذلك الأمنية والعسكرية الاستراتيجية.

هناك مثل قديم يقول: "مصاحبة ملك أفضل من مرافقة رئيس". بهذه الحكمة، تسترجع لندن بعضا من حصتها التي استولت عليها فرنسا في اتفاق عام 1904 الذي كان يقضي بالتخلي عن المغرب في مقابل الوجود في بلاد النيل وقناة السويس. وتفيد الدراسات التاريخية بأن العلاقة بين الجانبين قديمة عمرها 800 سنة، وتعود إلى عام 1213 في عهد الملك جون في بريطانيا ودولة الموحدين التي كانت تحكم كل المغرب العربي والأندلس من مراكش. وتحولت العلاقات إلى تحالف عسكري بين الملكة إليزابيث والملك أحمد المنصور الذهبي الذي انتصر على البرتغاليين في معركة الملوك الثلاثة (وادي المخازن) عام 1578، وكانت شبه الجزيرة الأيبيرية الكاثوليكية (إسبانيا والبرتغال) خصما لدودا لبريطانيا والمغرب على السواء، لأسباب دينية وتجارية طيلة القرنين السادس عشر والسابع عشر.

إيوان وايت

"نحن أصدقاء قدامى وحلفاء دائمون"، قال اللورد ستيوارت بولاك خلال زيارة وفد برلماني للرباط الشهر الماضي عن حزب المحافظين، وحرص على زيارة مدينة العيون في الصحراء الغربية، في إشارة سياسية إلى دعم السيادة المغربية على هذه المناطق الجنوبية. وتدرك لندن أن دعم المغرب في ملف الصحراء يفتح كل الأبواب أمام الشركات البريطانية، وفقا لصحيفة "تايمز".

في السنوات الأخيرة، تسارعت وتيرة الزيارات الرسمية بين لندن والرباط، ومعها توقيع عشرات الاتفاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية والزراعية والمناخية والثقافية والعلمية والسياحية، وكذلك الأمنية والعسكرية

الجنوب المغربي خيار بريطاني

تخطط بريطانيا حاليا للتعاون مع المغرب في بناء أكبر شبكة للكهرباء تعمل بالطاقة المتجددة، تتوافق مع خطة انتقال الطاقة وتحديات التغيرات المناخية، بكلفة تقدر بـ 22 مليار دولار. وهو أكبر مشروع من نوعه في مجال نقل الكهرباء الحرارية المستخرجة من الألواح الشمسية ومزارع الرياح. وتفيد وثائق حكومية أن "لندن مهتمة بإنشاء كابلات بحرية للتزود بالطاقة الكهربائية النظيفة الصديقة للبيئة، من جنوب المغرب"، لتحقيق أمن الطاقة للمملكة المتحدة، والانتقال إلى الطاقة الخالية من الكربون عام 2035، انسجاما مع الطموح العالمي لتحقيق الحياد الكربوني في 2050، وتوسيع نشاط الاقتصاد الأخضر في إطار التزامات اتفاق باريس في "كوب 21" حول التغيرات المناخية.

أنشأت وزارة أمن الطاقة البريطانية فريق عمل تقنيا لبحث تفاصيل مشروع مد 4 كابلات تحت المحيط الأطلسي بطول 3800 كيلومتر، لتغطية استهلاك أكثر من سبعة ملايين منزل في بريطانيا بحلول 2030.

وقال سيمون موريش الرئيس التنفيذي لشركة "إكس لينكس"(Xlinks) التي تتولى إنجاز المشروع في المغرب: "إن تعزيز أمن الطاقة هو مصلحة وطنية حيوية، بالتعاون مع بلد صديق موثوق به، لتحقيق أهداف بريطانيا في طاقة نظيفة صديقة للبيئة، تساعد في تأمين الانتقال إلى مصادر متجددة كافية من الطاقة الكهربائية المنخفضة التكلفة من خلال كابلات تحت البحر لتوصيل 3,6 غيغاواط حرارية من رابط توتر عال(HVDC)، يحتاجها الأمن الاقتصادي للبلاد في أفق 2027". وتخطط "إكس لينكس" لتوليد 10,5 غيغاواط خالية من انبعاثات الكربون في منطقة كلميم في الصحراء الغربية، من خلال 12 مليون لوحة شمسية و530 مروحة لإنتاج الطاقة في مزارع الرياح داخل مساحة تزيد على 650 ميلا مربعا داخل منطقة كلميم، بحسب معطيات الشركة البريطانية.

أنشأت وزارة أمن الطاقة البريطانية فريق عمل تقنيا لبحث تفاصيل مشروع مد 4 كابلات تحت المحيط الأطلسي بطول 3800 كيلومتر، لتغطية استهلاك أكثر من 7 ملايين منزل في بريطانيا بحلول 2030

طاقة نظيفة ودائمة

يُعتبر التنافس على إنتاج طاقة غير تقليدية، أحد رهانات "إكس لينكس" لتخزين 20 غيغاواط/ساعة في بطاريات من الجيل الجديد، لتوفير 20 ساعة يوميا من الكهرباء "الخضراء"، أيا كانت الظروف المناخية. وبحسب الدراسة التقنية الخاصة بالمشروع، فإن بريطانيا مجبرة على تحويل نظام الطاقة لديها بوتيرة أسرع، لتعزيز تنافسية الصناعات المحلية، وتوفير كهرباء دائمة للمنازل بأسعار منخفضة. 

يملك المغرب نسبة إشعاع أفقي يوازي ضعفي نظيره البريطاني، ويزيد 20 في المئة على معدل دول غرب البحر الأبيض المتوسط. وفي قدرته تزويد بريطانيا بالكهرباء حتى في فترات انخفاض هبوب الرياح وضعف الإشعاع الشمسي في شمال أوروبا، بما يضمن للشبكة البريطانية استقرارا في جودة الخدمات وتقليص تكلفة النقل الكهربائي. وسيتم بناء محطة استقبال للطاقة في منطقة ألفردسكوت شمال سواحل ديفون، انطلاقا من محطات الإنتاج قرب سواحل مدينة طانطان جنوبي المغرب.

ويشمل المشروع مد أربعة خطوط "كابلات" تحت المحيط الأطلسي في جوار السواحل المغربية وبعمق 700 متر أي نحو 2300 قدم تحت البحر، وتمر قرب سواحل البرتغال وإسبانيا وفرنسا، وهي لن ترتبط بأي شبكة أخرى لتكون حصرية للشبكة الوطنية البريطانية  (National Grid GB). وتعاقدت "إكس لينكس" لبناء مصنع إنتاج الكابلات الحرارية تحت البحر في مدينة هانترستون في اسكتلندا، لتزويدها بالمعدات الضرورية للمشروع الذي سيحتاج نحو 90 ألف طن متري من الفولاذ البريطاني. والمشروع هو أضخم وأطول مشروع لمد الكهرباء تحت البحر، ويشمل تكنولوجيا متطورة في تغيير التوتر العالي إلى التيار المتناوب، من أجل ربطه بالشبكة البريطانية ومعايير شبكة شمال أوروبا. علما أن المغرب يرتبط بالشبكتين الإسبانية والبرتغالية في مجال الكهرباء الحرارية.

بريطانيا مجبرة على تحويل نظام الطاقة لديها بوتيرة أسرع لتعزيز تنافسية الصناعات المحلية، وتوفير كهرباء للمنازل بأسعار مخفضة

الريادة المغربية

صنفت منظمة الطاقة الدولية المغرب ضمن أربع دول في العالم في مجال تطوير الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر، حيث يعمل على 120 مشروعا، منها 60 مشروعا قيد التنفيذ لإنتاج 52 في المئة من احتياجات الكهرباء، بالاعتماد على مزارع الرياح والألواح الشمسية، خصوصا في محطة وارزازات، الكبرى في العالم. وتغطي تلك المشاريع حاليا نحو 38 في المئة من الاستهلاك المحلي، لا سيما في المدن الكبرى مثل مراكش.

ووفقا لوثيقة بريطانية، تتوافر في المغرب سواحل طويلة على المحيط الأطلسي، يمكن إنتاج طاقة رياح مخفضة التكلفة من خلالها، بالإضافة إلى صحارى شاسعة في الجنوب لإنتاج الطاقة الشمسية، وهو وضع مثالي لتطوير مشاريع طاقة متجددة يمكنها تأمين طاقة رخيصة وبجودة عالية، وتسمح بتوليد 10 ساعات من الكهرباء حتى في فترات الشتاء.

ديانا استيفانا روبيو

وتطمح شركات بريطانية إلى تطوير أنظمة تخزين الطاقة في بطاريات ليثيوم من الجيل الثالث، التي يمكن تخزينها وشحنها ونقلها لأغراض الطاقة، بما فيها تسيير العربات والطائرات واليخوت. وهذا جزء ثان من شراكة الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر، التي تنخرط فيها ألمانيا عبر شركة "هايدروجينيوس" التي تطمح إلى تصدير 500 طن يوميا من الهيدروجين الأخضر نحو أوروبا. ويقع المشروع الألماني على مسافة قريبة من المشروع البريطاني في ضواحي مدينة طانطان البحرية، حيث يجري إنتاج 15 غيغاواط من الأمونياك الأخضر الذي تحتاجه المصانع الألمانية.

تطمح شركات بريطانية إلى تطوير أنظمة تخزين الطاقة في بطاريات ليثيوم من الجيل الثالث، التي يمكن تخزينها وشحنها ونقلها لأغراض الطاقة، بما فيها تسيير العربات والطائرات واليخوت

الداعمون للمشروع

اجتازت شركة "إكس لينكس" امتحانها المالي الأول بجمع 30 مليون جنيه إسترليني الشهر الماضي لإطلاق الخطوات التنفيذية للمشروع. وانضمت شركة "طاقة" الإماراتية، إحدى أكبر شركات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المطورة للطاقات المختلفة، إلى ممولي المشروع، ومنحت تمويلات بقيمة 113 مليون درهم إماراتي (نحو 31 مليون دولار) كما ساهمت شركة "أكتوبوس إينرجي غروب" بمبلغ خمسة ملايين جنيه إسترليني، وهذه إشارة إلى تنوع المساهمين والمشاركين في المشروع من جهات بريطانية وخليجية، إضافة إلى الدعم المغربي. واعتبر المدير العام لمجموعة "طاقة"، جاسم حسين ثابت، أن مساهمة شركته في المشروع البريطاني- المغربي تؤكد "التزامنا بالمساهمة في خفض انبعاث الكربون مع المحافظة على أمن إمداد الطاقة، ونحن نعمل كذلك على مشروع تحت البحر واسع النطاق في أبوظبي، كما نمتلك وندير واحدة من أكبر محطات الطاقة الشمسية الكهروضوئية في العالم".

من جهته، أشار غريغ جاكسون، مؤسس مجموعة "أكتوبوس إينرجي" ورئيسها ومديرها العام، إلى أن "هذه الشراكة بين "إكس لينكس"، و"طاقة"، و"أكتوبوس" تتيح لنا تطوير أحد أكثر مشاريع الطاقة تميزا في العالم. إنها صناعة عالمية جديدة، ويمكن أن تكون المملكة المتحدة وشركاؤها أول من يقوم بتفعيلها، مما يساعد في جعل بريطانيا رائدة في التحول إلى الطاقة المتجددة المخفضة التكلفة".

انضمت شركة "طاقة" الإماراتية، إحدى أكبر شركات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى ممولي المشروع بنحو 31 مليون دولار

في البدء كان الشك

يعود أول مشاريع الطاقات المتجددة في المغرب إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2009، عندما أطلق العاهل المغربي محمد السادس في مدينة وارزازات، وبحضور وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك هيلاري كلينتون، خطة طموحة للانتقال إلى الكهرباء النظيفة بتكلفة 11 مليار دولار. يومذاك، لم يكن كثير من الناس في العالم يراهن على إنتاج الطاقة الكهربائية من الشمس والرياح، لكن التحدي الذي فرضته الحرب الروسية على أوكرانيا، جعل أوروبا أمام خيار صعب، بين تجاوز حصار الغاز وصقيع الشتاء من جهة، وبين تأمين طاقة نظيفة لمستقبل الأجيال المقبلة من جهة ثانية.

font change

مقالات ذات صلة