المملكة المتحدة إلى حقبة جديدة بعد تتويج الملك تشارلز الثالث

طقوس تتويج أسطورية وتحديات معاصرة

Axel Rangel Garcia
Axel Rangel Garcia

المملكة المتحدة إلى حقبة جديدة بعد تتويج الملك تشارلز الثالث

يعتبر اضطرار الملك تشارلز الثالث، المتوج حديثا، لخلافة الحكم المثالي والمطول لوالدته الراحلة الملكة إليزابيث الثانية، التحدي الأكبر الذي يواجهه. إذ إن الأخطاء التي ارتكبتها الملكة خلال حكمها الذي استمر سبعين عاما كانت نادرة للغاية، ولم يكن حزنها العميق الذي كانت تشعر به قبيل وفاتها العام الماضي متعلقا بأمتها فحسب، بل كان متعلقا بالعالم الواسع.

وهذه خطى سيصعب على الملك تشارلز اتباعها. وبينما يحرص الملك تشارلز على تمييز عهده عن عهد والدته، فإنه سيحتاج إلى أن يعمل بحذر، خاصة في المجال الحساس المتعلق بمراعاة الحياد السياسي الصارم الذي يعد مطلبا دستوريا للملكية البريطانية.

لقد حرصت والدته طوال فترة حكمها على عدم الكشف عن معتقداتها السياسية أو مشاعرها الشخصية. وكانت في الوقت ذاته الأكثر شهرة وخصوصية في بريطانيا خلال فترة حكمها. فلم تكن اهتماماتها المعروفة، ورعايتها للجمعيات الخيرية المختلفة واهتمامها بكلاب الكورغي وسباق الخيل، أمورا مسيسة أو مثيرة للجدل.

أما ابنها فكان يتمتع بسمعة عامة مختلفة تماما. إذ كان الملك تشارلز، قبل توليه العرش، يعبر عن آرائه بصراحة في ما يتعلق بالقضايا الخلافية حول الهندسة المعمارية والزراعة والصحة والبيئة، التي كان بعضها مرتبطا بالمناقشات السياسية والثقافية الجارية.

وفي عام 2015، نشرت صحيفة «الغارديان» رسائل تظهر أن الأمير تشارلز كان قد ضغط على حكومة توني بلير مباشرة بشأن قضايا تهمه بشكل شخصي، بما في ذلك قضايا متعلقة باهتمامه بالطب البديل. إن محاولة الملك تشارلز أن يكون أكثر تدخلا من والدته في المجال السياسي قد تدفع الناس إلى النفور منه.

لقد حرصت والدته طوال فترة حكمها على عدم الكشف عن معتقداتها السياسية أو مشاعرها الشخصية. وكانت في الوقت ذاته الأكثر شهرة وخصوصية في بريطانيا خلال فترة حكمها.

رؤية دبلوماسية

إلا أن تشارلز، ومنذ أن أصبح ملكا، أشار إلى استعداده  لتبني نهجا أكثر دبلوماسية بما يتعلق بواجباته الملكية. وكان أول مؤشر على ذلك هو إعلانه عدم حضور قمة التغيّر المناخي Cop 27، والتي عقدت العام الماضي في منتجع شرم الشيخ المصري، حيث قام، وقبل انعقاد المؤتمر، باستضافة حفل استقبال فقط.

ونظرا لكون قضيتي تغير المناخ والبيئة هما من أقرب القضايا إلى قلب الملك، فإنه كان يخطط لحضور القمة لمواصلة حملته الطويلة لإقناع قادة العالم باتخاذ إجراءات ضد الاحتباس الحراري.

وقال تشارلز الثالث في خطابه الأول بصفته الملك: "بالتأكيد ستتغير حياتي مع الاضطلاع بمسؤولياتي الجديدة. ولن أتمكن من تكريس جل وقتي وطاقتي للجمعيات الخيرية والقضايا التي أهتم بها اهتماما كبيرا، ولكنني أعلم أن هذا العمل المهم سينتقل إلى أيد أمينة أخرى."

ومع أن وجود الملكة الراحلة كان مصدرا للاستقرار، إلا أن المجتمعات التي يحكمها النظام الملكي البريطاني– في كل من البلدان الأربعة في المملكة المتحدة والدول الأربع عشرة الإضافية في الكومنولث، المؤلف من 54 دولة، قد تغيرت كثيرا على مدار حكمها.

Reuters
الملك تشارلز الثالث في طريقه إلى قصر باكنغهام في لندن قبل مراسم تتويجه.

وسيتعين على الملك تشارلز اتخاذ خيارات جديدة تتعلق بمعنى كونه ملكا معاصرا، تماما كما فعلت والدته بتكيفها مع الظروف المتغيرة بسرعة في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية. هذا يعني أن فترة ولايته على العرش ستتحدد من خلال كيفية استجابته للتوترات الجديدة في العلاقة بين الدول ذات السيادة وشعوبها.

ومع أن وجود الملكة الراحلة كان مصدرا للاستقرار، إلا أن المجتمعات التي يحكمها النظام الملكي البريطاني– في كل من البلدان الأربعة في المملكة المتحدة والدول الأربع عشرة الإضافية في الكومنولث، المؤلف من 54 دولة، قد تغيرت كثيرا على مدار حكمها.

عصر جديد ومختلف

لا يخلف ملك بريطانيا الجديد، والذي يعد أكبر ملك يجلس على العرش (73 عاما)، أحد أكثر العهود شهرة في التاريخ فحسب، بل يرث شعبا يكافح أزمة غلاء معيشي وحربا في أوكرانيا أدت إلى مشكلة كارثية في إمدادات الطاقة، إضافة إلى تساؤلات شعبية من مختلف الأجيال ومختلف دول الكومنولث عن أهمية وجود ملكية دستورية في العالم الحديث.

وعلى الرغم من ذلك، سيكون الاهتمام بالأمور الداخلية من أهم أولويات تشارلز. حيث ابتليت العائلة المالكة بصراع داخلي وفضائح في السنوات الأخيرة. إذ تسبب تورط الأمير أندرو المزعوم في فضيحة اعتداء جنسي، اتهم فيها بممارسة الجنس مع فتاة قاصر تبلغ من العمر 17 عاما فقط،  في جلب العار على العائلة المالكة خلال السنوات الأخيرة للملكة.

وعلى الرغم من قيام دوق يورك بنفي هذه الاتهامات إلا أنه اضطر إلى دفع مبلغ 12 مليون جنيه إسترليني لفيرجينيا جوفري بدلا من مواجهة محاكمة مدنية في نيويورك. كما أنه اضطر إلى التخلي عن كافة واجباته الملكية ومناصبه العسكرية.

واضطر الأمير هاري أيضا إلى التخلي عن مناصبه العسكرية عندما استقال من منصبه الملكي. ويبدو أن الشعور بالمرارة والاغتراب عن بعض أفراد العائلة المالكة بعد نشره مذكراته في كتاب مثير للجدل، بعنوان "الاحتياطي" قد دفع دوق ودوقة ساسكس، اللذين انتقلا للعيش في كاليفورنيا، للهجوم على أفراد العائلة المالكة في العديد من المقابلات مع وسائل الإعلام الأميركية بسبب طريقة تعامل أفراد العائلة معهما.

Reuters
الطريق إلى الشرفة الملكية الشهيرة في قصر باكنغهام، ساعات قبل إطلالة أفراد العائلة المالكة خلال حفل التتويج.

 

ومع أن وجود الملكة الراحلة كان مصدرا للاستقرار، إلا أن المجتمعات التي يحكمها النظام الملكي البريطاني– في كل من البلدان الأربعة في المملكة المتحدة والدول الأربع عشرة الإضافية في الكومنولث، المؤلف من 54 دولة، قد تغيرت كثيرا على مدار حكمها.

الاستقلال عن التاج البريطاني

يواجه كيان الكومنولث اليوم تهديدا وجوديا محتملا. فباعتبارها رئيسة للكومنولث، كانت الملكة الراحلة أيضا ملكة على جامايكا ونيوزيلندا وبابوا- غينيا الجديدة- وكندا وتوفالو وأستراليا وأكثر من ستة بلدان أخرى.

ويعتبر تعداد السكان في هذه الدول مجتمعة أكبر من تعداد السكان الذين يعيشون في المملكة المتحدة، ويخضعون جميعهم اليوم لحكم الملك الجديد، الذي يواجه مزيجا من الحركات المناهضة للملكية والحركات الجمهورية التي كانت تسعى لحشد التأييد.

لذا، تبقى مسألة ما إذا كانت هذه الدول ستقبل الملك الجديد كما قبلت والدته من قبل مسألة غير واضحة حتى الآن. فقد تحول العديد من المستعمرات البريطانية السابقة إلى جمهوريات قبل أن تتولى المكة إليزابيث العرش أو في السنوات الأولى من حكمها، خلال حقبة الإنهاء السريع للاستعمار في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بما في ذلك الهند وباكستان وجميع المستمعرات الأفريقية، وقد ارتبط النظام الملكي البريطاني في العديد من هذه الأماكن بأسوأ مظاهر الإجحاف في الإمبراطورية.

AFP
متظاهر في ميدان "ترافالغر" وسط لندن يرفع لافتة تندد بالنظام الملكي وتطالب بإلغائه. 

 

يواجه كيان الكومنولث اليوم تهديدا وجوديا محتملا. فباعتبارها رئيسة للكومنولث، كانت الملكة الراحلة أيضا ملكة على جامايكا ونيوزيلندا وبابوا- غينيا الجديدة- وكندا وتوفالو وأستراليا وأكثر من ستة بلدان أخرى.

وتزايدت الدعوات في العام الماضي لإصدار بيانات اعتذار ودفع تعويضات من قبل النظام الملكي لدوره التاريخي في تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي. وكانت أستراليا، التي تولت حكمها مؤخرا حكومة جديدة ذات توجه جمهوري، من الأعضاء الرئيسيين في الكومنولث الذين أعلنوا طموحهم في الإطاحة بالملك من رئاسة الدولة.

ومع ذلك، فإن لدى الملك فلسفته الخاصة حول تغيير العلاقة بين الأمم، خاصة في خضم المحادثات حول أهمية وجود ملك في الأراضي الكاريبية الناشئة. وذهب الملك العام الماضي إلى باربادوس ليشهد انتقال السلطة بعد قرون من الحكم البريطاني. وأطلعت جامايكا الأمير وليام في زيارته العام الماضي برفقة أميرة ويلز حول نيتها أن تكون الدولة التي تلي باربادوس في اتخاذ تلك الخطوة. كما أعلنت أنتيغوا وبربودا بعد أيام من وفاة الملكة أنها ستستقل عن التاج أيضا في غضون ثلاث سنوات.

وفي يوليو/تموز من العام الماضي، أخبر الملك تشارلز قادة الكومنولث في رواندا أن الأمر متروك للأعضاء ليقرروا ما إذا كانوا سيبقون على الملك في رئاسة الدولة، مضيفا أن "مثل هذه الترتيبات يمكن أن تتغير بهدوء ودون ضغينة".

إنه مستعد بالفعل لمواجهة التغييرات المستقبلية دون نية سيئة. (ومن المثير للاهتمام، أن هناك دولا تسعى بنشاط للانضمام إلى الكومنولث، آخرها أربعة أعضاء، وهم رواندا وموزمبيق والغابون وتوغو، لا يملكون أية روابط تاريخية  مع الإمبراطورية البريطانية، بل إن آخر اثنتين منها كانتا مستعمرتين فرنسيتين في السابق.)

في يوليو/تموز من العام الماضي، أخبر الملك تشارلز قادة الكومنولث في رواندا أن الأمر متروك للأعضاء ليقرروا ما إذا كانوا سيبقون على الملك في رئاسة الدولة، مضيفا أن "مثل هذه الترتيبات يمكن أن تتغير بهدوء ودون ضغينة".

 

AFP
مجموعة من المحتفلين بتتويج الملك يرتدون أقنعة لأفراد العائلة المالكة خارج قصر باكنغهام.

إن تقليل عدد أفراد العائلة المالكة الذين يقومون بواجبات رسمية يعني أيضا تقليل عدد الأشخاص الذين يتم تمويلهم من خلال المنحة السيادية، وهي الأموال العامة المستخدمة لتغطية نفقاتهم. هذا، إلى جانب حفل التتويج، الذي لم تتجاوز مدته نصف مدة حفل تتويج والدته، وهو ما يظهر أن الملك تشارلز، قد فهم أزمة غلاء المعيشة الحالية في المملكة المتحدة.

ولطالما اهتم الملك بالتنوع، إذ ضم حفل التتويج الخاص به موسيقيين من أقليات عرقية. وقد تأخر تنظيم الحفل نفسه بسبب رغبة الملك في إدراج أدوار لأشخاص من ديانات أخرى غير المسيحية. وفي عام 2015، قال الملك تشارلز إنه سيحتفظ بلقب الملك التقليدي المدافع عن الإيمان، لكنه رأى في نفسه حاميا لجميع الأديان.

وعلى الرغم من كون الملكة الراحلة تعتبر مصدر إلهام للملك تشارلز، إلا أنه تحدث سرا وعلانية عن رغبته في بناء إرثه انطلاقا من نجاحاتها، وهو محظوظ بأن يكون ابنه الأكبر، أمير ويلز، إلى جانبه. وبصفته أحد المقربين الموثوقين للملك، ستتاح للأمير وليام الفرصة للتعلم من والده.

وفي الوقت المناسب، ستصبح تحديات الملك تشارلز أيضا تحديات للأمير وليام. ويتمتع كل من الأب والابن بفرصة إلهام بعضهما بعضا والوصول معا إلى رؤية مشتركة، وجعل العائلة المالكة المصغرة فعالة ومرنة. ومن خلال قيامهما بذلك، فإنهما يأملان في ضمان استمرارية النظام الملكي لأجيال عديدة قادمة.

font change


مقالات ذات صلة