الحوثيون يستعمرون اليمن "استعمارا داخليا"

أعمال الحوثيين في اليمن قد تنطوي على شيء من "إرادة الشر"

EPA/Majalla
EPA/Majalla

الحوثيون يستعمرون اليمن "استعمارا داخليا"

كلما جُمِعَ خبر إلى خبر عن أفعال الحوثيين اليومية في البلاد اليمنية التي يتسلّطون عليها، حتى ترتسم بوضوح صورة جماعة ينطوي ميلها وسلوكها على إرادة استعمار اليمن "استعمارا داخليا". وفكرة أو مفهوم "الاستعمار الداخلي" كان الباحث اليمني المعروف، وأستاذ الفلسفة في جامعة صنعاء، أبو بكر السقاف (توفي سنة 2022) قد استعاره من الأدبيات السياسية الغربية، ليفسّر أو يشرح به في تسعينيات القرن العشرين السلوك التسلّطي، الذي سلكته السلطة في اليمن الشمالي ورهطها العسكري، ازاء اليمن الجنوبي في زمن "الوحدة" البادئة سنة 1990 بين اليمنين.

الوحدة احتلال عسكري

في سنة 1994 سارع جيش اليمن الشمالي إلى شن حرب هجومية على الجنوب، بذريعة أنه يخطط للانفصال أو الانقلاب على "الوحدة"، التي- لصونها واستكمالها- استباح المهاجمون الشماليون الديار الجنوبية استباحة غُزاة، وأخضعوا أهلها بقوة السلاح. ومن أفعالهم الشبيهة بأفعال الحوثيين اليوم:

- طرد عشرات ألوف الموظفين والجنود الجنوبيين من وظائفهم الحكومية ورتبهم العسكرية. وذلك على نحو لا يختلف في شيء عن الاجتثاث الذي اتبع في العراق بعد الغزو الأميركي له سنة 2003، وعُرف بـ"اجتثاث البعث".

- مطاردة أو سجن أو اغتيال كل صوت يعترض على الحرب ونتائجها في الجنوب والشمال، وعلى التنكيل بالجنوبيين. فصوت كهذا يشكك في الوحدة، يرفضها ويدعو إلى الانفصال، إنما هو متآمر وخائن.

- جرت باسم الوحدة عمليات تجريد جنوبيين كثيرين من أملاكهم وأراضيهم، باعتبارهم انفصاليين. فصودرت أراضٍ جنوبية واسعة، واستولى عليها شماليون، وشُرّد ملاّكها الجنوبيون.

وبناء على هذه الأعمال وكثير من أمثالها بعد الحرب، قامت بين اليمنين وحدة قهرية شبه احتلالية، سماها أبو بكر السقاف استعمار الشمال للجنوب "استعمارا داخليا".

مجتمع الحرب الدائمة

قد ينطبق على أفعال الحوثيين في اليمن وجه من وجوه مفهوم آخر وضعته الباحثة الألمانية- الأميركية في فلسفة الفكر السياسي حنة أرندت (1906- 1975) وفسرت به نشأة الحركة الشمولية أو الكلانية النازية في ألمانيا بين الحربين العالميتين. ترى أرندت أن تلك الحركة تقوم على "إرادة الشر" لتفكيك المجتمعات، تذريرها وتدميرها وسحقها وردها إلى "توحش" سابق على الرابطة الإنسانية. وذلك لتوليد مجتمع جديد شمولي أو كلياني ماحق، يقوم على القسوة ويعبد القوة.

AFP
متمردون حوثيون يستقلون حافلة على متنها مدفع متوسط المدى خلال تجمع حاشد في العاصمة صنعاء في 24 يوليو 2015

وأعمال الحوثيين في اليمن، قد تنطوي على شيء من "إرادة الشر" هذه. وهي على الضد والنقيض مما اتخذته جماعتهم اسما للميليشيا العسكرية التي أنشأتها (أنصار الله). وهذه التسمية تناقض تماما ما يفعله يوميا في الديار اليمنية أولئك "الأنصار" الذين يرفعون الشر المتجسد في أعمالهم إلى مرتبة المقدس الذي يزعمون أنهم ينطقون باسمه وحدهم من دون سواهم من سائر خلق الله على الأرض.

ومقدس الحركة الحوثية يتجسد في بث التوتر والريبة والخوف والرعب والتمييز والشقاق والعداوات والثارات، بين اليمنيين أفرادا وجماعات وفئات وقطاعات اجتماعية. وذلك كي تنشئ بالتعبئة والتحريض والتجنيد القسري والاعتقال والاغتيال مجتمع حرب دائمة يناقض المجتمع العادي، ويدمره ويسحقه.

وفي حشدها الأنصار والأتباع الموالين، وإخراجهم من المجتمع العادي المتعارف عليه، وتأطيرهم في منظمات موتورة، محور سياستها الاستيلاء والتنكيل، توهم الجماعة الحوثية الناس بتخليصهم من الفقر والجوع والمهانة. لكنها في الحقيقة تفرقهم في واقع أشد فقرا وجوعا ومهانة، فيما هي تصور لهم أنها منحتهم الحظوة والمكانة والمجد. أما من لا يستجيب لتصورها عن الحياة والعالم، ولا يُظهر لها الطاعة والولاء، فتراقبه وتترصده بوصفه مرتدا، خائنا وعميلا، عدوا لمقدساتها التي ليست سوى إرادة الشر وإنشاء مجتمع حرب دائمة.

في 1994 سارع جيش اليمن الشمالي إلى شن حرب هجومية على الجنوب، بذريعة أنه يخطط للانفصال أو الانقلاب على "الوحدة" التي- لصونها واستكمالها- استباح المهاجمون الشماليون الديار الجنوبية استباحة غُزاة، وأخضعوا أهلها بقوة السلاح

"الصرخة الخمينية"

وفقا لأخبار وتقارير صحافية نشرتها صحيفة "الشرق الأوسط"، تظهر بجلاء ممارسات الحركة الحوثية اليومية التي يكشف تتبعُها وتجميعها عن ترابطها، وعن مشروع المجتمع والدولة اللذين تريد الحركة بناءهما في اليمن؛ ففي الذكرى السنوية لإطلاقها "الصرخة الخمينية" في اليمن قبل 9 سنوات، جرّدت الجماعة الحوثية في 16 مايو/أيار الماضي حملة عامة في مناطق سيطرتها؛ أطلقت العنان لرجال ميليشياتها وأجهزتها وأنصارها لحض السكان جميعا على الاحتفال بالمناسبة والمشاركة في الشعائر والمواكب والحشود التي تنظمها. وهي تشعر غير المشاركين بأنهم مراقبون ومهددون، ويضمرون الشقاق.

وغاية ذلك زرع الريبة والخوف بين الناس، لإبقاء دبيب مجتمع الحرب ساريا لا يهدأ في النسيج الاجتماعي. أما المنصرفون إلى حياتهم وتدبير شؤون معاشهم، ساهين عن الذكرى السنوية المقدسة، فليسوا سوى متخاذلين ويثيرون الشك والريبة.

AFP
يمنيون يتسوقون في سوق بالعاصمة صنعاء في 22 يونيو 2023، قبيل عيد الأضحى

والشعائر الحوثية يجب أن تترسخ وتعم في الشوارع والمنازل والمساجد والمؤسسات العامة والخاصة، كي ينسى الناس أنهم يعيشون في مجتمع غير مجتمع الحرب وآلته التعبوية. ومن أدوات التعبئة:

- ضرورة حضور الندوات التي تقيمها الحركة في دوائر المجتمع.

- الاحتشاد في الأماكن العامة.

- الهتاف بالصرخة الخمينية، وباسم القائد الزعيم المؤسس عبدالملك الحوثي.

- تدوين شعارات الجماعة ووضع شاراتها على المركبات، وفي البيوت والمؤسسات وشوارع الأحياء. أما المساجد فتتحول في هذه المناسبة إلى أماكن احتشاد لحضور الخطب التحريضية التي يطلقها قادة الجماعة.

تستلهم الحركة في حملات التطهير "اجتثاث البعث". ويعلم الحوثيون أن ذاك الاجتثاث أدى إلى تقويض هيكل الدولة وتفكيك الجيش في العراق، ومهد لظهور "داعش" وإنشاء فصائل "الحشد الشعبي"

تطهير وتجنيد وحض على الإنجاب

ولصرخة مجتمع الحرب الحوثي تبعات متلاحقة لا تتوقف.

بعد يومين على المناسبة المقدسة، أي في 18 مايو/أيار، أطلقت الجماعة حملة تقصٍّ لمن تشك في ولائهم لها. ودليلها في ذلك عدم مداومتهم على حضور ندواتها ومحاضراتها الأسبوعية. وقصاص هؤلاء فصلهم من وظائفهم في الدوائر الحكومية. وكانت الحركة الحوثية قد استبقت حملتها التطهيرية هذه، بإصدارها أمرا بالفصل بين الجنسين من موظفي تلك الدوائر.

وتستلهم الحركة في حملات التطهير "اجتثاث البعث". ويعلم الحوثيون أن ذاك الاجتثاث أدى إلى تقويض هيكل الدولة وتفكيك الجيش في العراق، ومهد لظهور "داعش" وإنشاء فصائل "الحشد الشعبي". وهذه أيضا من المثالات التي تستلهمها الحركة في بناء ميليشياتها وأجهزتها في اليمن، على أنقاض الدولة اليمنية.

وفي مقابل طرد يمنيين وتطهيرهم من الدوائر الحكومية، يعمل الحوثيون على تجنيد مهاجرين أفارقة فروا من بلادهم (كينيا والصومال) إلى اليمن، هربا من الجفاف والتصحر. وحملات التجنيد هذه تفتح لها الحركة الحوثية في معقلها، محافظة صعدة، مراكز لدورات تعبوية وتدريبية مكثفة تنتهي بزج المجندين في مهمات قتالية ضد اليمنيين. كما أقدم جهاز "الأمن الوقائي" الحوثي- حسب تقرير منظمات دولية نقلته صحيفة "الشرق الأوسط" يوم 11 مايو/أيار الماضي- إلى خطف 300 لاجئ أفريقي في اليمن، وإخضاعهم لدورات تعبوية واستخدامهم في القتال.

وفي تقرير آخر ("الشرق الأوسط" 19 مايو/أيار المنصرم)، تقوم الجماعة الحوثية بحملات حض المجتمع اليمني على مضاعفة الإنجاب، وعدم تبني سياسات تنظيم الأسرة باعتبارها من مخلفات الغزو الثقافي الغربي. وقد عمدت إلى إقفال مراكز الصحة الإنجابية التي تساعد النساء في استخدام وسائل منع الحمل، وتقوم برعايتهن في حال حملهن. علما أن 520 ألف امرأة يمنية من الحوامل يعانين من مشكلات صحية. وبين كل 100 ألف حالة ولادة في اليمن، هناك 400 امرأة من الحوامل يتوفين مع أجنتهن أثناء الوضع.

لكن هذه الوقائع ليست سوى عيّنة جزئية من ممارسات الحوثيين في شهر واحد. وهناك من أمثالها ألوف الوقائع المتواترة والمستمرة بكثافة مضاعفة، كلما أشرقت الشمس صباحا على اليمن الذي تجاهد الحركة الحوثية لتدمير ما تبقى من مجتمعه، وإرساء مجتمعها الحربي فيه واستعماره استعمارا داخليا.

font change

مقالات ذات صلة