التدخل الخارجي في ليبيا... طَرقٌ على باب مفتوح

بلاد الحسابات والمنافسات على الثروات

AFP
AFP

التدخل الخارجي في ليبيا... طَرقٌ على باب مفتوح

منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية التي أطاحت في العام 2011 بالزعيم الليبي معمر القذافي، الذي حكم البلاد طويلا، كان التدخل الأجنبي هو القاعدة– وليس الاستثناء– في الأزمة القائمة منذ فترة طويلة في الدولة الواقعة شمالي أفريقيا. ولا شك في أن الجهات الأجنبية قد استغلت، في بعض الأحيان، تفكك ليبيا واستفادت من هشاشة الدولة (غير الموجودة)، ولكن اللوم يقع أيضا على النخبة الحاكمة في ليبيا لميلهم الشديد نحو مقايضة سيادة بلادهم بثمن بخس. وعلى الرغم من التحالفات الإقليمية المتغيرة، يجب على المجتمع الدولي الاستمرار في استخدام الهيكلية التي وضعت في برلين لدعم وساطة الأمم المتحدة وتلبية تطلعات الشعب الليبي لإنهاء المرحلة الانتقالية الطويلة في البلاد.

ليبيا هي أرض المفارقات، فقد تأسست هذه الأمة على يد الأمم المتحدة عام 1951 لتنعم بعدها بثمانية عشر عاما من التحالفات الدولية القوية والعلاقات الدافئة، قبل أن تسقط في عام 1969 في بوتقة أربعة عقود من حكم رجل واحد أهوج ومتسلط، أصبحت ليبيا معه دولة منبوذة دوليا ترزح تحت ثقل عقوبات متعددة، وبات شعبها معزولا عن العالم بشكل متزايد. بدأ ذلك في التغير في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عندما غير الديكتاتور الليبي معمر القذافي توجهاته، وتخلى عن برنامجه لأسلحة الدمار الشامل وحملة الإرهاب التي ترعاها الدولة، والتي دعمها بإصرار لسنوات عديدة.

اقرأ أيضا: تفكك ليبيا... وعقدة الكتلة الصماء

ليبيا هي أرض المفارقات، فقد تأسست هذه الأمة على يد الأمم المتحدة عام 1951 لتنعم بعدها بثمانية عشر عاما من التحالفات الدولية القوية والعلاقات الدافئة، قبل أن تسقط في عام 1969 في بوتقة أربعة عقود من حكم رجل واحد أهوج ومتسلط، أصبحت ليبيا معه دولة منبوذة دوليا ترزح تحت ثقل عقوبات متعددة، وبات شعبها معزولا عن العالم بشكل متزايد. بدأ ذلك في التغير في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عندما غير الديكتاتور الليبي معمر القذافي توجهاته، وتخلى عن برنامجه لأسلحة الدمار الشامل وحملة الإرهاب التي ترعاها الدولة، والتي دعمها بإصرار لسنوات عديدة.

بدأت ليبيا في التفاعل مع العالم الخارجي، لكن هذا لم يكن كافيا لإنقاذ القذافي من الانتفاضة الداخلية التي أطاحت به عام 2011. ولم يكن بإمكان الثورة التي أطاحت بالقذافي أن تنجح لولا المساعدة العسكرية المباشرة المقدمة من حلف شمال الأطلسي (ناتو) وحلفائه العرب، والغطاء السياسي الداعم المقدم من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

ليبيا هي أرض المفارقات، فقد تأسست هذه الأمة على يد الأمم المتحدة عام 1951 لتنعم بعدها بثمانية عشر عاما من التحالفات الدولية القوية والعلاقات الدافئة، قبل أن تسقط في عام 1969 في بوتقة أربعة عقود من حكم رجل واحد أهوج ومتسلط

منذ عام 2011، كان التدخل الأجنبي في ليبيا سمة بارزة في الصراع الذي امتد بلا نهاية. إذ كان خلفاء السيد القذافي السياسيون والعسكريون من حديثي العهد في الساحة العالمية، وحاولوا الموازنة بشكل مخجل بين الشأن الداخلي والشأن الدولي، مستمتعين بالسياحة السياسية وساعين في عواصم الدول الأجنبية وراء الشرعية التي فشلوا في الحصول عليها من مواطنيهم.

وتشتكي النخبة الحاكمة في ليبيا بعد عام 2011 من التدخل الأجنبي، خصوصا إذا ما هدد هذا التدخل وضعهم الشخصي، ولكن الحقيقة في غالب الأمر أن الدول المتدخلة وجدت الباب مفتوحا أمامها، مدعوة من قبل الأطراف الليبية المتصارعة. أسس هذا النمط بشكل جزئي أثناء انتفاضة عام 2011، عندما قام أعضاء حلف "الناتو" وحلفاؤهم من العرب في الخفاء بإنشاء علاقات مع عدة مجموعات مسلحة تشكّلت لمحاربة قوات القذافي. وفي السنوات الست الماضية، برزت دول كثيرة كانت أقل مشاركة في الصراع الليبي عام 2011 - وهي روسيا وتركيا ومصر- بشكل أكبر إلى الواجهة.

AFP
قوات الأمن الليبية التابعة لرئيس الوزراء عبد الحميد دبيبة تشارك في عرض عسكري بمناسبة الذكرى السادسة لـ "تحرير سرت" من تنظيم "داعش"، في مدينة مصراتة شمال غرب البلاد، في 17 ديسمبر 2022.

 

استخدمت البلدان ذات المصالح الخاصة في ليبيا وكلاءها المسلحين على الأرض لتعزيز أولوياتها الوطنية المتنوعة والمتنافسة أحيانا. وتشمل هذه الأولويات مكافحة الإرهاب، ومعالجة مخاوف الهجرة، والسيطرة على موارد النفط، ومكافحة التطرف الديني، وتثبيط العمليات الديمقراطية، واستغلال ثروة ليبيا، أو تأمين قواعد استراتيجية داخل المناطق ذات الأهمية الجيوسياسية في البلاد. ويتناقض نهج المعاملات هذا، الذي يتسم بالمصلحة الذاتية والانتهازية، مع ولاية الأمم المتحدة التي تهدف إلى تسهيل السلام ومساعدة الشعب الليبي في إقامة حكومة تمثيلية ومؤسسات خاضعة للمساءلة.

"القصة المخابراتية" في ليبيا

في معظم الحالات، كانت العلاقات المبدئية، لا سيما بين الجماعات المسلحة الليبية والعناصر الأجنبية، تتم من خلال القوات الخاصة والقنوات الاستخباراتية، وهي عناصر كانت موجودة على الأرض أثناء الثورة والفوضى وفي الاضطرابات التي عصفت بليبيا في السنوات التي أعقبت نهاية القذافي العنيفة،أكثر من وجود نظرائهم الدبلوماسيين. حيث كانت هناك، ولا تزال إلى حد ما، نوعية من المعلومات ملأت المساحة التي تم فيها إجراء كثير من أعمال المجتمع الدولي. كما شهد الفصل الأخير من هذه "القصة المخابراتية" الغامضة زيارات متتالية في وقت سابق من هذا العام لمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ويليام بيرنز، ورئيس المخابرات التركية آنذاك هاكان فيدان، ورئيس المخابرات المصرية عباس كامل.

شهد الفصل الأخير من هذه "القصة المخابراتية" الغامضة زيارات متتالية في وقت سابق من هذا العام لمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ويليام بيرنز، ورئيس المخابرات التركية آنذاك هاكان فيدان، ورئيس المخابرات المصرية عباس كامل

استخدمت الدول التي لها مصالح في ليبيا وكلاءها المسلحين على الأرض لدعم أولوياتها الوطنية (والتنافسية): مكافحة الإرهاب، والهجرة غير الشرعية، والسيطرة على النفط، ومواجهة المجموعات الإسلامية المتشددة، ومنع  المد الديمقراطي، واستغلال ثروات ليبيا أو لتأمين القواعد على الأرض ذات القيمة الجيوستراتيجية في البلاد.

إن هذه المعاملات من "الدبلوماسية" الانتهازية تتعارض بشكل مباشر مع تفويض الأمم المتحدة، التي تم تكليفها بالوساطة لإحلال السلام ومساعدة الشعب الليبي في بناء دولته بحكومة تمثله ومؤسسات تخضع للمساءلة.

لم يكن الانفصال والخلل الوظيفي والإفلاس الأخلاقي في المجتمع الدولي تجاه ليبيا، أكثر وضوحا مما كان عليه الحال في ربيع عام 2019، عندما فشل مجلس الأمن- الذي تجاهل قراراته الخاصة وحظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة- في إدانة هجوم الرجل القوي خليفة حفتر على طرابلس. بينما كانت الأمم المتحدة تضع اللمسات الأخيرة على مؤتمر وطني مخطط بدقة، كان عدد لا يستهان به من الدول الأعضاء يقدمون دعما سياسيا وماديا وتكتيكيا لمحاولة حفتر الاستيلاء على السلطة بالقوة.

 

AFP

 

إلا أن الأفعال يمكن أن تكون لها عواقب غير مقصودة، إذ أثارت محاولة الانقلاب التي قام بها حفتر اهتماماً تركياً دفينا في ليبيا. كان الأتراك يراقبون بقلق الروس وهم يرسلون الآلاف من مرتزقة فاغنر إلى الخطوط الأمامية في طرابلس، بدعم مقدم من دولة عربية، حيث نسقوا تكتيكيا مع طائرات استطلاع صينية كانت تشغلها إحدى الدول العربية لإلحاق خسائر فادحة بقوات طرابلس. وأدى قرار أردوغان أواخر عام 2019 بمساعدة الحكومة المعترف بها من الأمم المتحدة في طرابلس إلى تغيير مسار الحرب. وفي مقابل عرض مساعدة الحكومة المعترف بها دوليا، حصل الأتراك من حكومة طرابلس على كثير من الاتفاقيات البحرية والعسكرية المثيرة للجدل.

وعندما أنهت أنقرة ترتيباتها مع حكومة طرابلس، أدخل الأتراك أسلحتهم المتطورة وآلاف المرتزقة السوريين. وتجاهل أردوغان دولتين عربيتين تعتبران الداعمتين الإقليميتين الأساسيتين لحفتر- وركز بدلا من ذلك دبلوماسيته في ليبيا على روسيا، خصم تركيا التقليدي. واستخدمت أنقرة وموسكو سلسلة من الاجتماعات الثنائية أواخر عام 2019 وأوائل عام 2020 للتوصل إلى تسوية مؤقتة، والأهم من ذلك لمحاولة التفوق على الاجتماع الدولي المغلق الذي تنظمه ألمانيا والأمم المتحدة.

واجه الاتفاق التركي - الروسي عقبة عندما فشل اجتماع 13 يناير/كانون الثاني 2020 مع الأطراف الليبية في موسكو في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وذلك بفضل عناد حفتر؛ إذ كان لا يزال يعتقد أن قواته يمكن أن تنتصر عسكريا. وبدلا من ذلك، عُقد الاجتماع الدولي الأكبر في 19 يناير/كانون الثاني 2020 في برلين، بحضور كل من المستشارة الألمانية السابقة انجيلا ميركل والأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش والرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، مما أسفر عن عملية برلين ومظلة واسعة لتسخير وتنسيق الجهود الدولية تحتها.

أدى قرار أردوغان أواخر عام 2019 بمساعدة الحكومة المعترف بها من الأمم المتحدة في طرابلس إلى تغيير مسار الحرب. وفي مقابل عرض مساعدة الحكومة المعترف بها دوليا، حصل الأتراك من حكومة طرابلس على كثير من الاتفاقيات البحرية والعسكرية المثيرة للجدل

لا تزال عملية برلين ومجموعات العمل الدولية الناتجة عنها هي البنيان الدولي لليبيا حتى يومنا هذا، على الرغم من القيود المفروضة على أعلى المستويات بسبب الانقسامات الدبلوماسية الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا.

وفي غضون ثمانية أشهر من دخول تركيا إلى جانب الحكومة المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، تم دفع قوات حفتر- التي كانت على أبواب طرابلس- إلى وسط ليبيا. وانتهى القتال في يونيو/حزيران من عام 2020 ووقعت الأطراف الليبية على وقف إطلاق النار الرسمي- الذي لا يزال ساريا- تحت رعاية الأمم المتحدة في أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام.

من جانبهم، قام الأتراك والروس بتقسيم البلاد وخلق حقائقهم الخاصة على الأرض، واحتلال القواعد الليبية والحفاظ على قواتهم المرتزقة (على الرغم من الطلب الليبي الرسمي، المنصوص عليه في اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020، برحيل الجميع. المرتزقة والقوات الأجنبية). منذ ذلك الحين، استخدمت روسيا مرتزقتها في شرق وجنوب ليبيا، جنبا إلى جنب مع حلفائها المحليين، لمساعدة قوات الدعم السريع في معركتها ضد الجيش السوداني عبر الحدود في السودان.

رسخ الأتراك أنفسهم بقوة في غرب ليبيا، مع وجود عسكري واستخباراتي وسياسي وتجاري مترامي الأطراف. كما أنهم يحققون تقدما كبيرا في شرق ليبيا حيث يُعقد منتدى أعمال تركي وخطط جارية لفتح قنصلية تركية في بنغازي

 وفي غضون ذلك، رسخ الأتراك أنفسهم بقوة في غرب ليبيا، مع وجود عسكري واستخباراتي وسياسي وتجاري مترامي الأطراف. كما أنهم يحققون تقدما كبيرا في شرق ليبيا حيث يُعقد منتدى أعمال تركي وخطط جارية لفتح قنصلية تركية في بنغازي. وليس هناك شك في أنه من بين جميع القوى الأجنبية، فإن الأتراك هم الذين يمارسون النفوذ الأكبر على الأرض في ليبيا اليوم.

وقد شهدت السنوات الثلاث التي أعقبت هزيمة حفتر عمليات إعادة تنظيم كبيرة في منطقة الشرق الأوسط/ شمال أفريقيا، وتحسنت العلاقات في الأشهر الستة الماضية بين القاهرة وأنقرة بشكل كبير.

كما كانت مصر، التي كانت في السابق عدوا قويا لحكومة طرابلس، قد تلقت في ديسمبر الماضي وديعة من المصرف المركزي الليبي بقيمة 700 مليون دولار، إذ تواجه مصر شحا دولاريا وأزمة نقص في العملات الأجنبية هي الأسوأ منذ سنوات.

وفي حين أن موسكو تراقب ليبيا ولا يوجد ما يشير إلى أنه سيتم استدعاء مرتزقتها، فإنها بخلاف ذلك منشغلة بغزوها الفادح لأوكرانيا. لقد أزالت الولايات المتحدة العالم العربي من أولوياتها، وعادت إلى دعم أميركا قصير النظر في القرن العشرين لـ "الاستقرار"، وهو تطور في السياسة رحب به حكام مسيطرون في المنطقة.

ونادرا ما شهد المرء من قبل تداخلا ضئيلا بين ما يسمى المصالح الاستراتيجية لأميركا وقيمها الديمقراطية. كما أن الألمان والفرنسيين مشغولون بأوكرانيا بينما يواصل الإيطاليون نهجهم الخاص في التعامل مع ليبيا، مع إعطاء الأولوية لجهود مكافحة الهجرة.

ولسوء الحظ، فإن ما يضيع في كل هذه المكائد الدولية والإقليمية هو أصوات الشعب الليبي، ولا سيما 2.8 مليون شخص يواصلون الدعوة إلى إنهاء المرحلة الانتقالية التي استمرت اثني عشر عاما في ليبيا من خلال انتخابات رئاسية وبرلمانية على أساس دستوري متفق عليه بالتراضي.

ولسوء الحظ، فإن ما يضيع في كل هذه المكائد الدولية والإقليمية هو أصوات الشعب الليبي، ولا سيما 2.8 مليون شخص (ممن يحق لهم حق الانتخاب من أصل حوالي سبعة ملايين نسمة) يواصلون الدعوة إلى إنهاء المرحلة الانتقالية التي استمرت اثني عشر عاما في ليبيا من خلال انتخابات رئاسية وبرلمانية على أساس دستوري متفق عليه بالتراضي.

ويحتاج المجتمع الدولي، في أقل تقدير، إلى احترام رغباتهم ودعم سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والمساءلة في ليبيا. ليست هناك حاجة للبدء من الصفر فيما يتعلق بالبنيان الدولي، وتحديدا عملية برلين ومجموعات العمل المرتبطة بها. ولا تزال العوامل التي شكلت الأساس الذي تم تصميم العملية على أساسه قائمة: مجلس الأمن عديم الفعالية، ومقاربات نفعية للدول الفاعلة، هذه المظلة الدولية ضرورية أيضا لدعم وساطة الأمم المتحدة والضغط على الأطراف الليبية.

font change

مقالات ذات صلة