حاكم البنك المركزي الذي يفتقده لبنان

عشية فراغ أهم منصب للسلطة النقدية والمصرفية في البلاد

حاكم البنك المركزي الذي يفتقده لبنان

يواجه لبنان استحقاقا كبيرا في الأيام المقبلة مع انتهاء الولاية الخامسة لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في 31 يوليو/تموز الجاري، فبعد ثلاثين عاما إما أن يختار حاكما جديدا لمصرفه المركزي، ينقذه من هول الكارثة التي اسقطته فيها انحرافات نقدية ومصرفية ومالية غير مسؤولة وغير مسبوقة، وإما أن يتولى نواب الحاكم الأربعة ادارة المصرف والشؤون النقدية والمصرفية للبلاد، أو أن يقدموا استقالتهم لمجلس الوزراء كما لوحوا في بيان أصدروه أخيرا، ومن ثم يكلفهم وزير المال تصريف الأعمال موقتا.

على الرغم من أن تعيين حاكم جديد يبدو متعذرا على ما تبقى من السلطة السياسية في البلاد، من المفيد معرفة الشروط الواجب توافرها في حسن الاختيار للمهمة العسيرة، ما هي مواصفات الحاكم الذي يحتاجه لبنان؟

يتطلب أولا توافر الشروط التي يفرضها قانون النقد والتسليف: الشهادات الجامعية والخبرة والصفات المعنوية. بالنسبة الى الشهادات الجامعية، ليس المرشح للحاكمية ملزما أن يكون متخرجا في كبرى الجامعات، من "كامبريدج" أو "أوكسفورد"، كما هي الحال في انكلترا، او من عصبة الـ "IVY League Schools" كما في الولايات المتحدة الأميركية، أو الـ"بوليتكنيك" و"المعهد الوطني للإدارة" (École Nationale D'Administration - ENA) كما في فرنسا. بل المهم، أن لا يكون شخصية مجهولة يتم إسقاطها كأمر واقع، وأن تكون له كتابات ومنشورات وآراء سابقة، وبرامج إصلاحية تستند إلى التجارب والبراهين، وتظهر ما يجب تفاديه، والتوجهات التي يتعين السير على هديها في حاكمية مصرف لبنان، بحيث يؤدي مجرد إعلان ترشيحه، إلى التحسن في أسعار الصرف ومؤشرات الأسواق.

يجب أن يكون مستقلا لا يأتمر من السياسيين، يحظى بالثقة، بحيث يؤدي مجرد الإعلان عن إسمه وترشيحه، إلى التحسن في سعر الليرة اللبنانية ومؤشرات الأسواق

بداية، يجب أن تكون لدى الحاكم العتيد خطة واضحة لضبط الانهيار في سعر صرف الليرة اللبنانية، تُعرض على مجلس الوزراء وتحظى بتوافق وطني يراعي الامكانات المتوافرة، بحيث يتحمل الجميع نصيبه في المساءلة والمسؤولية النقدية. فسلامة النقد هي، بحسب تعبير المستشار الألماني كونراد أديناور، "الشرط الأول للحفاظ على اقتصاد السوق والدستور الحر للمجتمع والدولة"، وهي أولا وأخيرا، مسألة ثقة، بحسب الاقتصادي الألماني والتر فانك. فالثقة في نظره، لا تقاس حصرا بالذهب والعملات الأجنبية ومحفظة الأوراق المالية، بل أيضا بقوة التماسك الداخلي للدولة وإزاء الخارج. 

لعل خير سبيل لاستعادة لبنان ثقة الخارج، هو التمثل بتجارب ناجحة في الخروج سريعا من العثرات، وآخرها التجربة الأيسلندية، وذلك بإطلاق خطط للتعافي من منطلق يعكس الإرادة لاستعادة دولة القانون من خلال تحديد المسؤوليات عما حصل وليس من منطلق التقاسم الزائف والمشبوه للخسائر.

EPA
منذ أكتوبر/تشرين اللأول 2019، ومبنى مصرف لبنان في منطقة الحمرا، حائط مبكى المودعين الذين تبخرت أموالهم وجنى أعمارهم في المصارف

من المفيد أيضا ان تتضمن المواقف السابقة للحاكم العتيد، إشارات داعمة لاستقلالية إدارة مصرف لبنان، تجنبا لتكرار التجربة المريرة بتحويله إلى صندوق مال تحت إمرة السياسيين. فالأسباب الموجبة لقانون النقد والتسليف، تذكر بوضوح أن"لا منح الامتياز ولا منح الرأسمال من قبل الحكومة يجب أن يجعلا من مصرف لبنان مصلحة تابعة للحكومة". فعلاقتهما يجب أن تترك للمصرف مجالا أكبر لـ"المبادرة والاستقلال والتعاون الوثيق"، وذلك من قبيل "الاستقلالية مع" وليس "الاستقلالية عن".

أما ترجمتها العملية، فهي أن يكون الحاكم المنقذ واعيا لحقه، لا بل لواجبه بعدم التبعية لمن له الفضل في تعيينه في منصبه، وفقا للتعليق الشهير للقاضي روبرت بادينتر، بعد انتهاء الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران من تلاوة قرار تعيينه رئيسا للمجلس الدستوري.

حكام مصارف مركزية دخلوا التاريخ

يسجل التاريخ باعتزاز، تصدي عدد من حكام المصارف المركزية لضغوط شتى من سلطات بلدانهم، لغايات عديدة، أهمها الحصول على التمويل القسري من مصارفهم، أمثال الفرنسي إميل مورو، والألماني يالمار شاخت، والأميركيين بول فولكر وجيروم باول، واللبناني إدمون نعيم. أفضل تعبير في هذا الإطار، ورد في نهاية تأبين كبير الاقتصاديين في البنك المركزي الأوروبي يورغن ستارك،  للحاكم الألماني هانس تيتماير، قال فيه إن خبرات وميزات الراحل العديدة توجت بشجاعته في قول "لا" عند اللزوم  لقوى الضغط العامة والخاصة.

 بناء عليه، فالمطلوب من الحاكم العتيد، التقيد بأحكام القانون في ما يخص توفير التمويل للحكومة، خصوصا أن هذه الأحكام مدروسة جدا وواقعية، فلا تنص على رفض التمويل للخزينة كليا، كما هي الحال في  الدول الأوروبية، لحثها على اعتماد سياسات مالية أكثر توازنا، الأمر الذي من شأنه أن يرفع تكلفة الاقتراض على القطاع العام، بل على جواز إقراض مصرف لبنان الحكومة في حالات الضرورة القصوى، والظروف الاستثنائية الضاغطة ضمن شروط، وفي إطار عقد تتم الموافقة عليه في مجلس النواب. وهي أمور جرى تجاوزها في العقود الثلاثة المنصرمة، حيث أخضعت السياسة النقدية لمصالح سياسية وانتخابية مما أودى بالبلاد إلى الكارثة الكبيرة التي تعاني منها.

المطلوب من الحاكم العتيد، التقيد بأحكام القانون في ما يخص توفير التمويل للحكومة، والتزام "قانون الممارسات السليمة من أجل الشفافية في السياسة النقدية" الصادر عن صندوق النقد الدولي

يجب أن تمارس الاستقلالية المنشودة لدى الحاكم المنقذ إزاء المصارف أيضا، إذ لا ينبغي أن يكون لها أي تأثير في إدارة مصرف لبنان وقراراته، خصوصا تلك المتعلقة بتمويلها الاستثنائي الذي يجب أن يعاد النظر فيه. بالتالي، على الحاكم العتيد أن لا يوافق عند استشارته، على تعيين مصرفيين نواب له، كمن يرضى "بجلب الذئاب لحراسة حظيرة الماشية"، على حد تعبير الاقتصادي الأميركي باري أيكنغرين. والمآسي الراهنة التي يعيشها لبنان أكبر دليل على صدق هذه المقولة.

معروف أن ثمن استقلالية مصرف لبنان هو التزام الشفافية والمحاسبة. لذا، فالمطلوب من الحاكم العتيد أن يكون مستعدا للتقيد بدقة بأحكام "قانون الممارسات السليمة من أجل الشفافية في السياسة النقدية" الصادر عن صندوق النقد الدولي، وهو أحد الشروط التي تسبق إبرام أي اتفاق اعتماد أو برنامج بين الصندوق ودولة ما. 

ويطالب القانون المذكور القيمين على المصرف المركزي العمل على تأمين تواصلهم مع الشريحة الأوسع من الرأي العام بأكبر قدر ممكن من الصراحة والدقة، وإعلامها بالأهداف والسياسات النقدية المعتمدة ومنطلقاتها القانونية والاقتصادية والمؤسساتية والاحصاءات والتقارير عن عمليات المصرف والنتائج المتوخاة وتاريخها. 

على الحاكم العتيد أن يكون مستعدا للمثول في أي وقت أمام السلطات السياسية، حكومة ومجلسا نيابيا، للمحاسبة، وحتى أمام الجمهور، كونه يتعاطى شؤونا عامة، دون أن يكون منتخبا من الشعب. وهذا يفترض الانفتاح على تحمل الانتقادات والرد عليها وعرض الاقتراحات المقابلة لتجاوز الإخفاقات أو المعوقات في حال وجودها. 

بادر ستانلي فيشر، كبير الاقتصاديين الأسبق لدى البنك الدولي والنائب الأول السابق للمدير العام لصندوق النقد الدولي، إلى ذلك، وهو الذي استدعته الحكومة الاسرائيلية ومنحته الجنسية لقيادة مصرفها المركزي. ففاجأها بعد أشهر قليلة من تقلده مهامه بالطلب منها دعوة الكنيست الى اجتماع بهدف مناقشة صلاحيات الحاكم  في المصرف المركزي. 
وعند سؤال أحد النواب موجها كلامه الى فيشر قائلا: كل الصلاحيات في يدك فماذا تريد أكثر من ذلك؟ فكان جوابه أن هذا تحديدا هو العيب والقصور، طالبا إصلاحه. وكان اقتراحه إعادة توزيع الصلاحيات بين مرجعيات يتم اختيار أعضائها من مرشحين توافق عليهم جهات أكاديمية مستقلة، واحدة لاتخاذ القرار وأخرى للتنفيذ وثالثة مستقلة للرقابة الداخلية تكون على تواصل مع المراقبين الخارجيين للمصرف. 

قيادة إعادة الهيكلة

حاكم البنك المركزي العتيد مدعو أيضا إلى قيادة إعادة هيكلة عميقة مماثلة في داخل مصرف لبنان نفسه، لمعالجة الخلل الكارثي الذي أفضى اليه تركيز الصلاحيات فيه. وتتطلب عملية تطوير المصرف أن يتم اختياره من بين رجال قانون أظهروا دراية عميقة بالتطورات المعاصرة في إدارة المصارف المركزية، وكذلك المصارف التجارية بشكل عام، نظرا إلى طرح إعادة هيكلة جذرية للقطاع المصرفي اللبناني المتعسر.

والأفضل في نظر البعض، أن يتميز الحاكم بخلفية ثقافية فرنسية محافظة، خصوصا بعدما أثبتت التجارب أن انفلاش الأمور على صعيد المالية العامة والنقد قد حصل عند تبوؤ شخصيات ذات خلفية ثقافية انكليزية، تمرست بعمليات البورصات والمال، مقاليد الأمور في السلطتين المالية والنقدية.

EPA
واجهة مبنى مصرف لبنان في حماية عناصر من الجيش اللبناني في مواجهة المتظاهرين ومنهم عناصر من الأمن العام يطالبون بتعديل رواتبهم بعد التضخم الهائل في لبنان في يناير/كانون الثاني 2023

أخيرا، من الضروري أن يكون الحاكم العتيد مشهودا له بأعلى درجات الاستقامة والمناقبية، فيعيد ذكرى ممارسات قدوة افتقدها مصرف لبنان، في مقدمها إصرار الحاكم السابق لمصرف لبنان، الدكتور إدمون نعيم، فتح حساب شخصي لدى أحد أصغر المصارف اللبنانية، لإبعاد أي شبهة بالتحيز عنه، وأن يكون الحساب بالليرة اللبنانية حصرا. وكانت حجته أن اللبنانيين كيف سيصدقون ادعاءات حاكم أنه يعمل للحفاظ على ليرتهم في حين أن حساباته الشخصية بالدولار وبالعملات الأجنبية وموزعة في مصارف دول العالم؟

قد يكون من الصعب الوقوع على مرشح لبناني تتوافر لديه كل المواصفات المطلوبة في الظرف الحرج الراهن. لذا، لا شيء يمنع من الافادة من تجارب دول أخرى في استدعائها شخصيات أجنبية موثوقا بها لقيادة مصارفها المركزية موقتا، في مقدمها انكلترا، التي استدعت الحاكم الكندي مارك كارني، واسرائيل التي استدعت ستانلي فيشر. قد يكون ذلك أفضل دليل يقدمه لبنان الى الخارج عن عزمه الأكيد للعودة إلى الانضباط المالي. 

font change

مقالات ذات صلة