"باربي": الثورة والثورة المضادّة

هل وضع الفيلم الدمية النرجسية في مواجهة ذاتها؟

 Michelle Thompson
Michelle Thompson

"باربي": الثورة والثورة المضادّة

يبدو أن قدر الدمية باربي ألا تحظى بحياة هادئة أبدا، فمنذ ظهرت في أميركا للمرة الأولى عام 1959 والعالم يدور من حولها. بعينين لا مُباليتين، وشعر ذهبي وجسد بلاستيكي تشكَّل من مقاييس رشاقة تتجاوز الطبيعة البشرية، أوقعت الجميع في غرامها.

حققت باربي لمُصمّمتها روث هاندلر، وما زالت، ثروة هائلة، على الرغم من أن فكرتها الأولى لم تكن من بنات أفكار روث. كانت في رحلة إلى ألمانيا عندما تعرّفت على الدُمية "بيلد ليلي Bild Lilli. وخطر لها استنساخها في الولايات المتحدة، مستهدفة بذلك الطفلات اللواتي لم يكنّ حتى ذلك الوقت يلعبن بدمى تجسد نساء بل صغيرات مثلهن. سوى أن "ليلي" مُلهِمة روث البرلينية لم تكن مُصمّمة للأطفال، بل لأغراض اللهو الرجولي غير البريء، ولهذا جاءت الدمية على شكل امرأة مكتملة الأنوثة.

لتبرير هذا الاستنساخ، قرّرت روث أن تُغامِر بطرح مفهوم جديد للدمى. بدلا من أن يُختصر لعب البنات في التمرّن على دور الأمومة المقدّس، لماذا لا تبيعهن حلما يرافقهن منذ الطفولة إلى الشباب وربما يتحسّرن عليه أيضا في شيخوختهن، أن يكن على هيئة باربي الفاتنة. كان ظهور باربي ثورة من هذا الجانب، لكن من قلب هذه الثورة سرعان ما اندلعت ثورة مضادة. تبيّن أن باربي حرّرت الفتيات من قيد الأمومة، واستدرجتهن إلى فخ جديد، سجن المواصفات الشكلية المثالية للمرأة الحديثة.

أظهرت بعض الدراسات النفسية أن باربي ساهمت في تقليل الشعور بأهمية الذات عند الصغيرات اللواتي لعبن بها، بعد سن الرابعة. أمام هذا الاتهام، دافعت روث هاندلر عن نفسها، في حوار تلفزيوني معها، قائلة بلا مبالاة تضاهي لا مبالاة دُميتها: "إن نظرة النساء إلى أجسادهن سيئة من قَبل باربي". ظهرت هاندلر في صور فوتوغرافية لطفولتها بعينين حزينتين قلقتين، وحتى ابنتها باربرا، التي اشتقّت منها اسم باربي، لم ترحّب كثيرا بالدمية الصغيرة، ورفضت أن تلهو بها. وحدها باربي واصلت الابتسام والإشراق من دون أن تتغيّر نظرتها، كما ظلّت تُباع وتُصدَّر، هي وإكسسوارتها التي لا تنتهي إلى جميع أنحاء العالم. أمست هذه الدمية الشقراء، المرأة التي تريد الفتيات أن يكنّ مثلها، والفتيان أن يقترنّ بها، بغض النظر عن التنوع البيولوجي الطبيعي لأجساد النساء حول العالم.

إن موقفنا كنساء عربيات وإفريقيات من باربي أعقد من ذلك. صحيح أن هاندلر، وهي أيضا شريكة في مؤسسة "ماتل" المُنتِجة لباربي، قد صمّمت "باربيات" أخرى بألوان بشرة مغايرة ومقاييس جسدية أكثر تنوعا، وألوان شعر مختلفة، إلا أن باربي النموذجية ظلت هي المرجع، حتى بالنسبة إلى أولئك اللواتي لم تهبهنّ الطبيعة سماتها الباهرة.

العالم العربي أيضا اخترع، أو على أقل تقدير، روّج لدمى صغيرة على غرارها، بعضها جاء بثياب متحفّظة تناسب بعض ثقافاته، لكنها ظلّت في النهاية نسخا من "باربي". لم تعد باربي تدلّ على باربي فقط، بل على كل الدمى المشابهة، وهذا يعني أنها تسويقيا وإعلانيا حققت نجاحا عالميا منقطع النظير.

أمست هذه الدمية الشقراء، المرأة التي تريد الفتيات أن يكنّ مثلها، والفتيان أن يقترنّ بها، بغض النظر عن التنوع البيولوجي الطبيعي لأجساد النساء حول العالم

في الأعوام الأخيرة، أمكن لنا أن ننسى باربي قليلا. أولا، لأننا فهمنا تأثيرنا عليها. وثانيا، لأننا أدركنا إلى أي حدّ تخدم الدمية الجميلة منظومة الاستهلاك الأميركية. من أجل الوصول إلى صورة باربي، تنفق النساء الأموال على مستحضرات التجميل وعملياته ومنتجاته التي لا تنفد، ومع ذلك يبقى تطابقهن مع باربي حلما صعب المنال. إن باربي ليست صورة فحسب، بل أسلوب حياة ينبغي اتباعه، من اللامبالاة بالآخرين والثراء الفاحش والشباب الدائم. كان وعينا بباربي، جزءا من وعينا المستمر والمؤلم بأنفسنا، وبالأفكار التي سوّقت لنا صور الأنوثة والجمال، وكلها في النهاية تخدم الرأسمالية، وفي قول آخر البطريركية العالمية.

 

أزمات باربي الوجودية

لكن أليس من الظلم أن تُحمَّل دُمية صغيراء صمّاء، كلّ هذا الغضب الذي يتجاوزها شخصيا؟ هل كانت باربي، الدمية الوحيدة التي طعنتنا في ظهورنا ونحن غافلات/ غافلين؟ لمَ لا نضعها في حجمها الطبيعي؟ لمَ لا نتركها في حالها، تعيش أيامها الأخيرة في سلام وهدوء، لاسيما أن الواقع، شئنا أم أبينا، يقول إن أنماط اللهو الطفولي قد تغيّرت؟ الآن يجلس الأطفال أمام الشاشات لساعات طويلة، وحتى اللعب صار يجري افتراضيا. يغصّ الإنترنت بألعاب للبنات، يُنفقن فيها جل الوقت وهن يغيرن أزياء نماذج نسائية يخترنها بأنفسهن.

تتابعت الأزمات الوجودية على الدمية الهشة، وأجبرتها على التراجع وتغيير الاستراتيجية.

Alamy

في كتابها Mes bien chères soeurs أو "شقيقاتي العزيزات جدا"، الصادر عام 2019 عن دار نشر "سوي"، تتحدث الكاتبة النسوية الفرنسية كلويه ديلوم عن الهبوط التاريخي الذي واجهته شركة "ماتل" في مبيعات الدمية باربي عام 2015، ظلت المبيعات كبيرة، إنما انخفضت بنسبة حوالي 20% عن الماضي، وذلك على الرغم من أن مصانع باربي الأساسية في الصين ظلّت تدفع أجور زهيدة للعاملين والعاملات بها. لمواجهة هذا الانخفاض، قرّرت الشركة أن تبتكر "باربي زومبي"، التي تمصّ دماء الآخرين ولا تموت أبدا. لعلها تضيف بعضا من الإثارة للدمية الساكِتة، وباتت باربي تصيح، والحديث ما زال لديلوم، من وراء غطاء علبتها الشفافة: "أبي لماذا تخليت عني؟".

لكن ذلك لم يكن كافيا. فكر مسؤولو شركة "ماتل" في المزيد من الحيل. حتى ذلك الوقت، وباستثناء الأغنية الشهيرة التي حققت نجاحا عالميا مطلع الألفية I am a barbie girl، لم تبد باربي مُلهمِة للحكايات. إن عوالمها في النهاية محدودة، والزمن على النقيض من هيئتها الشابة، لم يعد في صالحها. أعلنت "ماتل" عن عدة مشاريع سينمائية للدعاية وتخليد أسطورة باربي، كانت الأسماء المرشحة فيها تنسحب عاجلا أم آجلا. إلى أن تحمّست مارغو روبي للعب دور باربي، هي التي تشبه إلى حدّ ما الدُمية الفاتنة، وتستطيع أن تُجسّدها على الشاشة. كما قررت روبي أن تشارك إنتاجيا في العمل. وانضمّ إلى الفريق المخرجة الشابة غريتا غيرويغ ونواه بومباك كاتبا. اتفق الجميع على منح باربي قُبلة الحياة.  

 

في البدء كانت الدمية

بحملة دعائية ضخمة وممتدّة بدأ عرض الفيلم حول العالم. صحيح أنه لم يُعرض بعد في معظم الدول العربية، إلا أن المشاهِدات والمشاهِدين لجأوا للشبكة العملاقة، وقد ترك لهم فيها القراصنة روابط لمُشاهدة الفيلم مع تأخر عرضه عربيا بلا سبب واضح أو مُعلن.

يبدأ الفيلم بمشهد كبير وساخر يُمثل نزول "باربي" على الأرض، مشهد تُحاكي فيه غيرويغ فيلم ستانلي كيوبريك "أوديسة الفضاء 2001"، لكن بدلا من القردة التي تكسر العظام، ثمة طفلات صغيرات يكسرن دُماهن القديمة استعدادا للعهد الجديد. مع عبارة مُستفزة للغاية: "في البدء كانت الدمية".

منذ هذا المشهد الأول، يختلط السرد بالدعاية، ويرتبك الخطاب السينمائي. ينتقل الفيلم بعد ذلك مباشرة إلى عالم "باربي لاند" حيث تعيش باربي في بيتها الشهير، مُحاطة بأنماط أخرى متعددة من باربي، الشقراء والسمراء والنحيفة والممتلئة إلخ. يتطلعن شوقا للحظة استيقاظ باربي النشيطة. وإن كان الفيلم يبدو مهووسا من بدايته إلى نهايته بإظهار هذا "التنوع"، فإنه لا ينفي من جانب آخر أفضلية "باربي" النمطية أو المثالية. عالم "باربي لاند" لا يضمن المساواة، لا بينها وبين الدميات الأخريات ولا بينها وبين الرجال.

 تعيش باربي، في صورتها المفردة والمتعدّدة في ما يشبه جنة عدن. يشاركها فيها كين، وحضوره ثانوي ومُكمّل لها. هو أيضا ثمة نسخ متعددة منه، أبرزهم على الإطلاق النسخة التي يلعبها ريان غوسلينغ، دمية لشاب تافه وسريع الانقياد. يعيش الجميع في سعادة وهناء، وفي رقص وغناء، يصبح فيه "اليوم مثل الغد، مثل بعد غد". إلى أن تُبتلى باربي فجأة ببعض الخصال الإنسانية، من دون سابق إنذار تداهمها أفكار الموت وما يستتبعها من كآبة، ثم تتغير قدماها، وتصيران مفلطحتين.

كان وعينا بباربي، جزءا من وعينا المستمر والمؤلم بأنفسنا، وبالأفكار التي سوّقت لنا عن الأنوثة والجمال، وكلها في النهاية تخدم الرأسمالية، وفي قول آخر البطريركية العالمية

طبعا يصدم هذا التغيير صديقات باربي أو بمعنى أصح وصيفاتها، وينصحنها بزيارة "ويرد باربي" أو باربي الغريبة الأطوار، تلعب دورها كيت ماكينون. إنها تسكن وحيدة على الهامش من هذه الجنة، ومنبوذة بشكل ما، بعد أن حلَّت بها لعنة كالتي تواجهها باربي النموذجية. تؤدي باربي الغريبة الأطوار دور العرافة، أو الساحرة التي توجّه البطل وتساعدها في اختبارها. انتهى زمن الجنة، على باربي الآن أن تهبط إلى الأرض وتبحث عن الصغيرة التي تسيء اللعب بدميتها، لأن مشاعر هذه الصغيرة الإنسانية السلبية تتداخل مع كينونة باربي. تقول لها "ويرد باربي": ثمة شق بين العالمين، عالم باربي والعالم الحقيقي، وأنتِ مسؤولة بشكل ما عما حدث وعليك الآن إصلاحه".

 

توقعات كبيرة

إلى هذا يعدنا سيناريو الفيلم بمعالجة موضوع باربي بطريقة مُبتكرة. ولن نقول نسوية. في حوار الإعلامية سارا فرغسون مع مارغو روبي وغريتا غيرويغ، سألتهما باختصار: هل تعتبران باربي فيلما نسويا؟ ارتبكت غريتا إلى حد ما، لكن مارغو كانت أكثر ثباتا، وقالت بصراحة: لا، باربي ليس فيلما نسويا.

ومارغو لم تكن متواضعة في هذه الإجابة، بل قالت صدقا. إننا نتوقع أن تذهب باربي إلى العالم الحقيقي، عبر رحلة مفروشة بالألوان والفكاهة، كي تعالج ما أحدثته هناك. ويُقنعنا الفيلم، عندما يتسلل كين ذاهبا معها في سيارتها من دون رضاها، أن مشهد الهبوط العكسي لآدم وحواء الدمى على الأرض، هدفه تفسير أو حل معضلة ما. إن لم تكن معضلة باربي، فربما شيئا من معضلتنا نحن.

Alamy

إلا أن الارتباك يزداد وضوحا بدءا من هذا التطور. لا توجد شخصيات حقيقية في "باربي" تتطوّر أو تدفع الأحداث إلى الأمام، فكين نمطي وسريعا ينبهر بما يقرأه عن سيطرة الرجال على العالم الأرضي، ومدير شركة باربي بموظفيه نمطيين وكاريكاتوريين وهم يحاولون سجن باربي في قفص بلاستيكي وتقييدها كي يعيدوها إلى عالمها.

يتبعثر الفيلم في أكثر من اتجاه، اتجاه بحث باربي عن مالكتها، ثم اكتشافها أن مالكتها الحقيقية ليست طفلة بل امرأة ناضجة عالقة في وحدتها، ثم في عودة باربي وكين والبشريين بشكل معكوس إلى الجنة أو "باربي لاند"، ثم الفساد الذي يجرّه كين على أرض "باربي لاند"، والانقسام الذي يحدثه هناك. حتى نتوه تماما ونسأل أنفسنا: ماذا كانت المشكلة بالضبط؟

حتى المشاهد الإنسانية القليلة التي قدّمها الفيلم، كتأثُّر باربي بالسيدة العجوز الجالسة في هدوء تقرأ، عندما تهبط لأول مرة إلى الأرض، وقولها لها: أنتِ جميلة. ثم مشهد لقائها بروث مُصمّمتها، داخل ممرات الشركة، لترشدها إلى طريق الهرب من المدير. ضاع تأثير مثل هذه المشاهد الدافئة نوعا ما، وسط المطاردات المجانية هربا من كين وألاعيبه ومدير الشركة ورجاله، ومع التأثير المُحبِط للخطاب الساذج الذي تقوله الأم أمام دميات باربي الأخرى، كي تعيد إليهن الوعي بأهميتهن، بعد أن استلبه منهن كين.

هل جاء "باربي" ليقول لنا المعلوم سلفا بالضرورة من أن حياتنا الإنسانية أثمن من حياة باربي الدمية، بإحباطاتها وقلة جماليتها؟ أم أن هذه النتيجة المباشرة لشعور صناعه بأنه أيا كان ما سيقدمونه، فسوف يحقق نجاحا عالميا باهرا، طالما شحذوا أدوات الدعاية الهائلة، واشتغلوا بسيمفونية الألوان التي رأيناها على الشاشة ودرجات الفوشيا الممتعة بصريا، واستثمروا حنين الطفولة العاطفي؟

كان الحري بالدمية باربي، أن تكون موضوع حلقة من حلقات مسلسل "بلاك ميرور"، هذه المرة ليس عن سلوكيات الدمية المغلوب على أمرها، بل ربما عن أفكار صانعيها ومُحرِكيها.

font change

مقالات ذات صلة