ما لا يرويه "باربي" عن نساء (ورجال) عصرنا

المواعظ والكلمات اللطيفة لن تنقذ الكوكب

Mona Eing/Michael Meissner
Mona Eing/Michael Meissner

ما لا يرويه "باربي" عن نساء (ورجال) عصرنا

العالم الحقيقي هو العالم الذي يتألم فيه الناس، ويشقون، ويتعرّضون للظلم والقهر واللامساواة، وقد يلقون فيه، أو تُلقى على رؤوسهم، القنابل النووية. أما عالم "باربي" فالحياة فيه "بقى لونها بمبي" كما تقول أغنية سعاد حسني (1943-2001) الشهيرة، التي كانت شأنها شأن مارلين مونرو (1926-1962) مثالا للفتاة الجميلة، "الكاملة" في كلّ شيء، مظهرا وشخصية، الفتاة الحلم، لا الواقع. وكان الإيطالي كارلو كولودي صاحب "مغامرات بينوكيو" (1883) قد رسم خطّا واضحا بين العالمين: "كان يا ما كان قطعة خشب"، يقول في مطلع القصة، ليقول صراحة إنه يروي حكاية من عالم العجائب، لا من صلب الواقع، والتداخل بين العالمين لا يمكن أن يكون دون عواقب، على العالمين معا، مثلما يكتشف بينوكيو و"والده" صانع الدمى.

كانت نهاية سعاد حسني ومارلين مونرو مأسوية، لأنهما تنتميان بالفعل إلى العالم الحقيقي، وكلتاهما في مرحلة ما، كان عليهما الاحتكاك بأسوأ ما في هذا العالم: السلطة وأهلها، وبصرف النظر عن أسرار موتهما، فإننا نعرف أنهما دفعتا غاليا، في حياتهما، ثمن هذا الاحتكاك. كان على "باربي" في الفيلم المقتبس عن الدمية، حين تواجه للمرّة الأولى رجالا حقيقيين، أن تفكّك شيفرة كلامهم المشحون بالرغبة تجاه جسدها المنحوت، وأن تقول لهم إنها بلا رحم. من المفيد أن نسجّل هنا، أن ممثلات اليوم في العالم الحقيقي أيضا، يتحوّلن بصورة ما إلى "باربي" خلال مشاهد الجنس في الأفلام، فيرتدين "واقيا بلاستيكيا" يغطي أعضاءهن التناسلية، للحرص من جهة على أن يبدو التمثيل واقعيا، ومن جهة أخرى، على ألا يصبح واقعيا أكثر مما يلزم.

ظلّت "باربي" طوال "حياتها" المتخيّلة، مذ ولدت في التاسع من مارس/آذار 1959، في منأى من شرور هذا العالم. فباربي على أية حال، ليس لها حياة، بل هي "تمثيل" Representation لحياة، أو محاكاة لحياة أو استمرارية لحياة، لذا قد تبدّل مظهرها ولون بشرتها وعملها ودورها، لكنها تظلّ دوما فكرة: إنها ما تتخيّله الفتيات الصغيرات، عنها وعن أنفسهن، وكلّ ما تفعله في الواقع هو ما تشير به أيدي تلك الفتيات عليها. باربي هي جواب الفتيات الصغيرات عن السؤال الأبدي: ماذا تريدين أن تصبحي حين تكبرين؟ وفي حين جعل كولودي الجنّية الطيّبة تحوّل "بينوكيو" إلى ولد حقيقي، فإنّ باربي بين أيدي الفتيات، تظلّ فكرة وصورة، وظيفتها نقل الصغيرات من عالمهنّ، إلى عالم الخيال، أن تكون تجسيدا لرفيقات الخيال اللواتي تلعب معهن الصغيرات وتأتمنهن على أسرارها.

كان على "باربي" في الفيلم المقتبس عن الدمية، حين تواجه للمرة الأولى رجالا حقيقيين، أن تفكّك شيفرة كلامهم المشحون بالرغبة تجاهها، وأن تقول لهم إنها بلا رحم

لحظة التحوّل هي حين تعلن باربي (مارغو روبي): "لم أعد أريد أن أكون فكرة"، أي أنها تريد أن تكون شخصا من لحم ودم، وكانت قد سبقت تلك اللحظة الواعية، لحظة أخرى لا واعية، تفاجأت بها هي نفسها، حين سألت فيها صديقاتها "الباربيات" الأخريات، في خضمّ حفلتهن اليومية الأبدية البهيجة: "هل تفكّرن بالموت يا بنات؟". يتبيّن لنا أنّ المسؤولة عن تلك الفكرة اللاواعية هي طفلة/ امرأة تعيش خارج "باربي لاند"، في العالم الحقيقي، والفيلم كما تصوّرته منتجته المشاركة وبطلته مارغو روبي، ورسمته كتابة غريتا غيرويغ مع زوجها المخرج نواه بومباك، وأخرجته غيرويغ، هو قصة الانتقال من أن تكون "باربي" مجرد دمية لا تمتلك السلطة على نفسها ولا على مشاعرها وأفكارها، إلى امرأة "كاملة" ترفض أن تكون مجرّد فكرة في رأس شخص آخر.

 

في أفلام الانتقال بين الأزمنة أو بين العوالم الموازية، لا يمكن تغيير ما حدث في الماضي (أو في عالم مواز) من دون أن يكون لذلك تأثيرات على الحاضر أو على العالم الراهن. كذلك الانتقال بين "باربي لاند" والعالم الحقيقي. لا تبدو غيرويغ مشغولة بتقديم مسوّغات منطقيّة كافية أو مقنعة لكيفية حدوث هذا الانتقال (يكفي القول إن هناك بوابة فتحت بين العالمين) ولا كيف تؤثّر أفكار الفتيات المقيمات في العالم الحقيقي، على تصرّفات قريناتهنّ "الباربيات" في "باربي لاند"، فقد وجدت غيرويغ مخرجا لطيفا للمسألة: ما دامت كلّ مسألة اللعب بالدمى قائمة على الادّعاء (الشخصيات في عالمها البلاستيكيّ المعقّم تدّعي أنها تأكل، أو تشرب، أو تستحمّ أو تركض أو تنام)، وما دمنا نحن المشاهدين نتقبّل ذلك، انطلاقا من فهمنا لكيفية اللعب بالدمى في المقام الأول، فلندّع إذن أنه يمكن الانتقال بهذه السهولة بين العالمين. وقد كان خيارا واعيا من فريق "باربي" أن يبدو العالم الحقيقي نفسه أقرب إلى الاستوديو منه إلى الإيهام بالواقع. ذلك أن كلا العالمين، "باربي لاند" والعالم المضاد له، هما في نهاية المطاف جزء من عالم ثالث "ميتا سردي"، هو عالم "التمثيل" Representation ومن هنا خيار وجود راوية للفيلم (للحفاظ على طابع الحكاية) تؤدّي دورها هيلين ميرين.

باربي هي جواب الفتيات الصغيرات عن السؤال الأبدي: ماذا تريدين أن تصبحي حين تكبرين؟ وفي حين حوّلت الجنية الطيبة "بينوكيو" إلى ولد حقيقي، فإنّ باربي بين أيدي الفتيات، تظلّ فكرة، وظيفتها نقل الصغيرات إلى عالم الخيال

 

بما أننا نعود إلى أصل الحكاية، بوصفها أمثولة (كل حكايات بيرو وغريم وأندرسن وكولودي تتضمّن ذلك)، فما هي الأمثولة التي يريد "باربي" إيصالها؟ تدرك الكاتبة والمخرجة الموهوبة غيرويغ صاحبة "بيرد لاند" و"نساء صغيرات" أنها تنجز فيلما جماهيريا يستند الى شخصية خيالية حاضرة منذ أكثر من ستة عقود، كما تدرك كلّ الجدال الجندري حول هذه الشخصية (تورد مثلا كيف طرحت شركة "ماتل" عام 2002 صاحبة امتياز باربي، شخصية "باربي الحامل" ثم تخلّت عنها أمام ردّ الأهالي السلبي وشعورهم بأنها "توصل الرسالة الخاطئة" إلى الفتيات)، واحتكاكها بمختلف النقاشات حول صورة المرأة ومكانتها وعلاقتها بالرجل، وبالتالي فإنها تحوّل الفيلم إلى "عرض" Presentation لجميع هذه الرسائل والنقاشات، مطعّمة هذا العرض بالألوان الزاهية والقفشات الكوميدية واللوحات الراقصة.

 

رسائل

توجّه غيرويغ عبر هذا العرض رسائل أساسية واضحة للعيان، ليس فقط حول المرأة، بل حول القلق الذكوريّ، عبر شخصيات "كين" المختلفة ولا سيما تلك التي يؤدّيها ريان غوزلينغ (الذي ينتحب من شدّة ما عاناه خلال لعبه دور الذكر في العالم الحقيقي)، وتضع المشاهد وجها لوجه أمام اللامساواة بين الجنسين، بوصفها مفارقة صارخة، كما تنتقد بوضوح الجانب الاستهلاكي والرأسمالي والذكوري من علامة "باربي" التجارية، عبر الصورة الكاريكاتورية لمجلس إدارة شركة "ماتل" المنتجة للدمية (المفارقة أنه وفي حين أن سيدة الأعمال روث هاندلر هي مخترعة شخصيتي باربي وكين، بناء على شخصيتي ولديها باربرا وكينيث، فإن اسم الشركة نفسه جاء ذكوريا خالصا يجمع بين اسمي زوجها إليوت وصديقه مات اللذين تعاونا معها على إنتاج الدمية).

Alamy

كان على "بينوكيو" تعلّم المسؤولية والكفّ عن الكذب والأنانية، حتى يصبح ولدا حقيقيا. أما "باربي" فعليها أن تتخلّى عن الكعب العالي وتنتعل حذاء مفلطحا وأن تكتسب شجاعة الذهاب إلى "الطبيب النسائي" (أي أن يصبح لها جسد حقيقي يعاني ما تعانيه النساء الحقيقيات مع أجسادهن)، حتى تصبح امرأة من هذا العالم. وهي وبقية "الباربيات" عليهن فقط أن يتذكّرن ذواتهنّ الحقيقية، بوصفهن مبدعات منتجات قياديات مفكّرات، حتى يقضين على محاولة التمرّد لدى "كين" وصحبه من الذكور، واستعادة "باربي لاند".

"الخلاص" الذي وجدته غيرويغ يبدو أقرب إلى وصفات كتب وبرامج التنمية الذاتية، منها إلى النضال الحقيقي لنساء العالم (ورجاله) من أجل عالم أفضل

وفي حين أن صيغة "البرزنتيشن" التي حكمت الثلث الأول من الفيلم، بدت معقولة، من خلال لعبة محاكاة أسلوب لعب الفتيات والفتيان الفعلي بالدمى، وحتى طريقة تعبيرهم الطفولية (التي تبرز خصوصا في تحدّي شخصيات كين اللفظي بعضها لبعض)، فإن "الخلاص" الذي وجدته غيرويغ يبدو أقرب إلى وصفات كتب وبرامج التنمية الذاتية، منها إلى النضال الحقيقي لنساء العالم (ورجاله) من أجل عالم أفضل. الوصفة السحرية هي أن تلقي غلوريا (تؤدّي دورها أميركا فيريرا) بمحاضرة على "الباربيات" حول هويتهنّ وذواتهنّ وطموحاتهنّ، فيحدث التحوّل في لحظة سحرية واحدة، وهو الأمر الذي لا يحدث حقيقة لا في عالم "بينوكيو" (بوصفه دمية خشبية ولدت في قلب الثورة الصناعية) ولا في عالم "باربي" (بوصفها دمية بلاستيكية ولدت في قلب عالم الاستهلاك ونشوء الطبقة الوسطى وأوقات الفراغ، وصولا إلى ثورة المعلومات)، ولا في العالم الحقيقيّ الذي تفرض فيه دولة سيطرتها على العالم بتفجير قنبلة نووية وتخزين ما يكفي من قنابل لتدمير الكوكب مرّات عدّة متتالية.

Alamy

لا يمكن لوم غيرويغ على ذلك. فكيف لها أن توصل رسالة مختلفة في هذا العالم الزهريّ المليء حتى التخمة باللطافة وعبارات الدعم والتشجيع؟ إلا أن العالم الذي يصل في النهاية، وإن عكس في جزء منه صوت المرأة المطالبة مثلا بالمساواة في الأجور مع الرجل، لكنه لا يعكس عالما بات فيه كلّ من الأنثى والذكر، يعيشان تحدّيات مختلفة. عالم من العزلات القاسية الذي لا تلطّف من وقعه الكلمات، ومن الفرديات المسيّجة التي لا يخفّف وطأتها التضامن الجندري. والأهم من الأمرين، هو عالم من الخوف المهيمن، على الجنسين، أمام مستقبل يبدو مجهولا أكثر من أيّ وقت مضى. إنه عالم دخل في "عصر الغليان" كما وصف الأمين العام للأمم المتحدة الحقبة الجديدة التي دخلتها البشرية من التغير المناخي، وهو عالم الاضطرابات السياسية والاقتصادية، والحروب التكنولوجية، وعالم الذكاء الاصطناعي الذي رسم أكبر علامة استفهام، خلال العقود الماضية، حول طبيعة هذا المستقبل وشكله. أما عالم غيرويغ والمظالم التي تعرضها في الفيلم، فتنتمي إلى نقاش فائت حول الحقوق، لعله يعود حتى إلى ما قبل حقبة اختراع دمية "باربي".

قد يقول قائل، هل يحتمل فيلم "خفيف" مثل "باربي" هذه الحمولة الثقيلة من المعاني. والجواب ببساطة: إذا كان هذا الفيلم/ المنتج الثقافي الترفيهي الذي اقترب من حصد أول مليار دولار له في أقل من ثلاثة أسابيع، لا يحتمل مثل هذه الحمولة، فأيّ منتج ثقافي آخر يمكن أن يحتمله؟

font change

مقالات ذات صلة