"أوبنهايمر": إعادة الاعتبار إلى الذكاء البشري

نقاش مفتوح حول مصير العالم

Michelle Thompson
Michelle Thompson

"أوبنهايمر": إعادة الاعتبار إلى الذكاء البشري

لم يصنع كريستوفر نولان فيلما عن القنبلة الذرية بل عن صانعها أوبنهايمر وفريقه وقرارات استعمالها وشهوة التسلّح التي فتحتها، محاولا أن يوازي كل ذلك الهول بإحياء جدال حول إمكان ولادة قوة ضبط تنشأ من العقل البشري المقرون بالضمير، في حين أن التقنية المتشظّية المنفلتة من عقالها ليست سوى الموت نفسه.

الفيلم يتمحور حول صراع أوبنهايمر، العالم الذي أدار "مشروع مانهاتن" الذي صنع أول قنبلة ذرية، والإشكالات التي انفجرت في وجهه مع إصراره على ألا يكون "الموت مدمر العوالم" كما وصف نفسه في اقتباس عن الكتاب الهندوسي "البهاغافاد غيتا".

يستخدم نولان مختلف الإمكانات التقنية، ليقدّم سلاسل ممتدّة من انفجارات عميقة ترويها أعين الممثلين وحركات أجسادهم التي يعيد من خلالها التقدير إلى صناعة سينما الممثل، حيث لا تكمن وظيفة التقنية الفائقة سوى في قدرتها على التقاط مجالات الممثل التعبيرية بشكل أدقّ.

تهدّد تقنيات الذكاء الاصطناعي الفائقة التي باتت توظف في الأعمال السينمائية بخلق سينما مولّدة صناعيا، يتقلّص فيها حضور العامل البشري وأداء الممثلين إلى حدوده الدنيا تمهيدا لاختفائه.

جاء توظيف نولان للتقنية بمثابة رسالة احتجاج شديدة اللهجة إلى الشركات الهوليودية، بضرورة ألا تستبدل البشر بالآلات في العمل الفني، وليس من قبيل الصدفة أنه يشارك وفريق التمثيل في إضراب كتاب وممثلي هوليوود المطالب، بين أمور أخرى، بسنّ قوانين تحدّ من سطوة برامج الذكاء الاصطناعي.

جاء توظيف نولان للتقنية بمثابة رسالة احتجاج شديدة اللهجة إلى الشركات الهوليودية، بضرورة ألا تستبدل البشر بالآلات في العمل الفني

ربح نولان رهانه عبر تقديم فيلم جماهيري ناجح وإشكالي استطاع تحقيق أعلى افتتاحية لفيلم مصنف غير عائلي حيث تجاوزت عائداته 180 مليون دولار. عرض منتجا فنيا عالميا مصنوعا بواسطة الذكاء البشري لا يمكن مشاهدته والاستمتاع به إلا داخل صالة السينما معيدا بذلك إحياء دور السينما كفن فاعل ومؤثر في إنتاج السياسات وتكوين الثقافة وبلورة السياقات الاجتماعية للمكان ومعناه عبر تجربة الذهاب إلى السينما وما تحمله من إخراج للامكنة من عزلتها.

 السينما الكبيرة تعادي تلك العزلة التي فرضتها المنصات والتي حاولت جعل التجربة السينمائية تجربة في العزلة والانقطاع عن العالم تقدم كما سائر الخدمات عبر "الديليفيري" إلى المنازل حيث لا نقاش عاما ولا تفاعل. لعل إصرار نولان الدائم على عرض أفلامه في صالات السينما يكشف عن نزوع  الى الدفاع عن أثر السينما من خلال تقديم تجربة خاصة وجديدة ولا مثيل لها.

وعلى الرغم من اشتهار نولان بتوظيف التقنيات، والتي تجلّت في "أوبنهايمر" عبر التصوير بكاميرات "آيماكس" الحديثة والضخمة، إلا أنه يبدو منشغلا بالكيفية التي يمكن أن تخدم فيها هذه التقنية تعبيرات الممثلين وجماليات المشاهد السينمائية التي حرص على تقديمها في إطار التفاعل مع المشاعر البشرية، طارحا أمام عين المشاهد أمكنة يمكن وصفها بالأمكنة الحوارية والتي تختزن عبر الشكل الذي صورت فيه الجدليات القائمة في الفيلم، وتعكسها.

 

Universal Pictures
مشهد من فيلم "أوبنهايمر"

لقطات الصحراء والنجوم والفضاء تظهر الحضور البشري وكأنه دخيل، وتكشف عن ضآلته، في حين تشير إلى النتائج الكارثية لنزعاته التدميرية كما في انتفاء المكان بعد التفجير الاختباري (قنبلة ترينيتي) وتحوله إلى كتلة لهب، وكذلك تفتح عبر مشاهد النجوم والفضاء والتفاعلات التي تجري داخل رأس أوبنهايمر أبواب عالم رحب لا متناه.

 التقنية في توظيف نولان لها هي ما يتيح القبض على أكبر قدر ممكن من الانفعالات، وفي حال وجد ما يمكن أن يعطل هذه الوظيفة فإن الحلول التي يجب تصميمها يجب أن تخدم هذا الهدف، لذا عمل مع شركة "آيماكس" على حل مشكلة الضوضاء التي تصدرها كاميراتها الضخمة والتي تجعلها غير مناسبة لتصوير الحوارات فزوّدت بكاتم صوت حتى يصبح استخدامها ممكنا.

المشاهد فائقة السرعة كما في مشهد التفجير صُوّرت بكاميرات "بوتاري بريزم" وقد استخدم في الفيلم نوعان منها، أحدهما قادر على التقاط 2500 إطار في الثانية في حين تصل قدرة النوع الثاني الى حدود التقاط 10000 إطار في الثانية. مشاهد التفجير التقطت بواسطة هذه الكاميرات وقد عرضت بعد تبطيئها.

ويستعيد المخرج  تجربة التصوير بالأبيض والأسود إضافة إلى الألوان والتي كان سبق له اعتمادها في فيلمه "مومنتو" (2000) وقد أصر على إقامة نوع من التوازي البصري والتقني بين النوعين، وبما أنه لا توجد أشرطة تصوير بالأبيض والأسود يمكنها أن تعطي جودة الألوان فقد خلق حلفا بين "آيماكس" و"فوتوكام" و"كوداك" نجم عنه تطوير أشرطة أفلام بمقاس 65 ملم لم تكن موجودة من قبل.

عن تجربة التصوير الملون والأسود والأبيض يتحدث نولان قائلا: "لقد علمت أن لدي زمنان داخل الفيلم أحدهما بالألوان يمثل تجربة أوبنهايمر الذاتية وهو الجزء الأكبر من الفيلم، والآخر بالأبيض والأسود. إنها نظرة أكثر موضوعية لقصته من وجهة نظر مختلفة".

تلتقط الكاميرات المستخدمة في التصوير أدقّ التفاصيل، مما يجعل استخدامها في تصوير الوجوه عملية شاقة وصعبة على المصوّرين والممثلين. فهي تبرز عظمة الأداء لكنها تبرز أيضا أي خلل مهما كان طفيفا. إدارة مدير التصوير هويت فانن هويتما خلقت  تناغما دلاليا وتعبيريا مع موسيقى لودفيغ غورانسون وشريط الصوت الذي صنعه راندي توريس وخيارات قطع الصوت نهائيا التي تبرز في لحظات انفجارية حادة كما في لحظة التفجير الاختباري الناجح "ترينتي" مولدة حالة انفجار دائمة يكون فيه الصوت في الكثير من المواقف حاملا للصورة في حضوره وفي غيابه. الأهم هو وضع التقنية أمام حدودها بوصفها وسيلة تظهير التعبير الإنساني وجماليات التعبير الفني التمثيلي.

كل المشاهد في الفيلم مصوّرة فعلا ولم تستخدم تقنية الـ "سي جي آي" أو الصور والمؤثرات المولدة تقنيا، كما أن الفيلم على ضخامته صوّر في فترة 57 يوما في نيو مكسيكو ولوس أنجليس وكاليفورنيا، وكان كل أعضاء فريق العمل يقيمون في فندق واحد ويتعاملون مع بعضهم يوميا.

 

أداء متفوق

 تفوق الممثلون على تاريخهم وقدموا أداء جديدا بامتياز. كيليان مورفي لم يكرر أصداء دوره البارز في مسلسل "بيكي بلايندز" أو في الأفلام التي مثل فيها تحت إدارة نولان بل ظهر في شخصية أوبنهايمر وكأنه في حالة قطيعة حاسمة مع كل ما قدمه سابقا.

منحنا نولان ممثلا جديدا استطاع التفوق على نفسه، وليس مورفي وحده من ينطبق عليه ذلك، بل قد تكون من ميزات الفيلم وعناصر المتانة فيه أنه أعاد الاعتبار للممثلين الثانويين، لدرجة أن الكثير من الآراء تجمع على أن أداء روبرت داوني جونيور في دور لويس ستراوس السياسي الحاقد والفاسد يوازي أداء مورفي إن لم يتفوّق عليه.

منحنا نولان ممثلا جديدا استطاع التفوق على نفسه، وليس مورفي وحده من ينطبق عليه ذلك، بل قد تكون من ميزات الفيلم وعناصر المتانة فيه أنه أعاد الاعتبار للممثلين الثانويين

وقد يكون نولان من المخرجين القلائل الذين يستطيعون جرّ نجوم أوسكاريين إلى تقديم أدوار صغيرة زمنيا. رامي مالك يحضر في لقطات قليلة وغاري أولدمان يتألق في دور الرئيس ترومان، وكذلك كيسي آفليك بصوته العميق وأدائه الواثق في دور الضابط المعادي للشيوعية، كما أن مات ديمون الذي منح دورا بمساحة واسعة بعض الشيء نراه يزيد وزنه حتى يكون صالحا لتقديم دور الضابط ليزلي غروفر الذي يعطي شارة انطلاق "مشروع مانهاتن" في لوس ألاموس.

نكاد لا نتعرف على هؤلاء النجوم للوهلة الأولى، فقد طمرهم نولان تحت ثقل الشخصيات حتى اختفوا وراءها بالكامل ونجح في شد انتباهنا إلى أدوارهم في الفيلم، وهذا ما يبرز أيضا في توظيف الحضور النسائي بشكل مغاير لما قيل عن الفيلم قبل ظهوره لناحية احتوائه على مشاهد إباحية أدرجته في تصنيف الأفلام غير العائلية. فالفيلم لا يطرح عريا ينتمي إلى الإثارة بل يجعله تأطيرا للموت، ويقدم الجسد العاري بوصفه جسدا عاريا من الحياة وحاملا لتوصيف الجثة.

Universal Pictures
مشهد من فيلم "أوبنهايمر"

في المشاهد التي تجمع بين مورفي وعشيقته جين تاتلوك التي تلعب دورها الممثلة فلورنس بيو يقع المشاهد على عري يفيض بالقسوة والضيق يلاحق بهجة لا تدرك وأملا لا يأتي بوجوه خالية من التعبير وأجساد متيبسة.

كرهها المبالغ به للزهور يلعب على الرمزية نفسها، فتكرار مشاهد رفضها الزهور ورميها لها في القمامة تأكيد على رفضها الكذب، الذي يجعلها وهي المناضلة الشيوعية تحيا في عالم مستحيل، تأتي نهايتها المأساوية لتجسّده، فلا نعرف إذا كانت قد انتحرت أو قتلت لكن شخصيتها تندرج في سياق توظيف الدور النسائي في خدمة مفهوم الرفض والاحتجاج.

أما كيتي زوجة أوبنهايمر والتي تؤدّي دورها إيميلي بلانت، فتمثل المفهوم نفسه من زاوية أخرى، فهي وإن كانت تظهر فاقدة للتوازن في بعض مراحل حياتها إلا أن احتقارها العميق للسلطات وحملها رمزية الضمير تتجلّى في مواقف حاسمة. حين تستدعى إلى التحقيق لا تبدو متوترة وخائفة كما حال أوبنهايمر بل متمردة ومحتقرة وساخرة كما ترفض مصافحة إدوارد تيلر مخترع القنبلة الهيدروجينية الذي لعب دوره الممثل بيني سافدي.

 كان اعتراض أوبنهايمر علي تصنيع تلك القنبلة أحد أبرز عناوين محاكمته بعد الحرب ولكنه يصافحه خلافا لموقف زوجته على الرغم من أنه كان قد شهد ضده أمام لجنة التحقيق، وكأنه يعفو عنه أو أنه بات متيقنا أن ذلك المسار الذي كان قد أطلقه قد بات نهائيا ولا يمكن أن يردمه أي موقف.

كيتي كانت تصرّ عليه دائما على أن يقاتل ويرفض التهم الموجهة إليه قبل أن تطلق المرافعة الختامية في نهاية الفيلم، مؤكدة له أن السماح للسلطات بتمزيقه لن يجعل العالم يغفر له، وكأنها تؤكد أن المرأة بحملها رمزية النطق باسم الضمير تعلم وتؤمن أن ما قام به غير قابل للغفران، وأن لعبه دور الشهيد غير قادر على محو ما تسبّب به من مجازر ضخمة وما فتحه من أبواب الفناء الشامل.

 

سخرية وحقد وسياسة

يؤدّي روبرت داوني جونيور باقتدار لافت شخصية لويس ستراوس رئيس هيئة الطاقة الذرية الذي يكره أوبنهايمر ويتآمر عليه ملخّصا بذلك صورة السياسي والسياسة في الفيلم.

تبقى تلك الكراهية كامنة قبل أن تتجلّى بوصفها محركا أساسيا للأحداث عبر عملية تآمر منظمة يقودها ستراوس الطامح لتولي منصب وزير التجارة والذي يجد في أوبنهايمر خصما منذ البداية. الأسباب العميقة لهذه الكراهية تطرح نظرة السياسي للعالم والتي تجلت في أكثر من محطة في الفيلم ولكنها تجد تكثيفها الأبرز في الدوافع التي تحرك ستراوس.

Universal Pictures
مشهد من فيلم "أوبنهايمر"

لم يكن ذلك السياسي يريد التعريف عن نفسه حين تعرف على أوبنهايمر بوصفه رجل علم، معتقدا أن تلك الصفة ستجعله في موضع مقارنة مع آخرين مثل آينشتاين أو أوبنهايمر وغيرهما من العلماء الذين قد لا يمكنه التفوّق عليهم أو قد يكون في أحسن الأحوال قرينا لهم، لكن طموحه السياسي يؤمن له التفوّق عليهم جميعا وتجاوزهم لا بل تحويلهم إلى مجرد جنود وأدوات. من هنا لم يجد غضاضة في أن يصف نفسه بصانع الأحذية من ناحية في تبخيس عسكي يظهر ما يختزنه من جنون عظمة من ناحية ويضيء على اعتقاده العميق بأن كل شيء يحدث عبره ومن خلاله أو يتعلق به، وهو ما ينكشف لاحقا أنه لم يكن سوى وهم كما هو حال الحديث الذي جمع بين آينشتاين وأوبنهايمر والذي انتهى بمرور آينشتاين قربه من دون أن ينظر إليه، مما جعله يعتقد أنه كان محور الحديث.

تتناغم أبعاد شخصية ستراوس مع الصورة العامة المرسومة للعسكر والسياسيين فذلك الطموح الهائل لامتلاك السلطة يتمثّل في السعي الدائم لتوسيع دائرة التسلح من ناحية والاستهتار بالحياة والاستخفاف بالعلم والعلماء والنظرة التبخيسية إليهم.

 مشاهد عديدة تعكس هذا التصور ففي اللحظة التي تنتج فيها قنبلتان ذريتان نرى حوارا بين أوبنهايمر وعسكري يقاطعه قائلا "سنتولى الأمر من هنا"، بمعنى أنه لم يكن سوى وسيلة لتظهير السلطة وليس شريكا فيها. وكذلك فإن محاكمته التي تعكس أجواء المكارثية واتهامه بالتجسس لصالح السوفييت تظهر آليات التفكير السياسي ومنطقها المتناغم مع العسكر، في حين يفترض بالسياسة أن تكون منظومة ضبط وتعقل.

كان ستراوس يريد القضاء على أوبنهايمر لسبب شخصي ولكنه في الآن نفسه عام ورسمي. فقد انطلقت اللحظة التأسيسية للعداوة كما تشير السياقات من سخرية أوبنهايمر العلنية منه ومن أفكاره، لكن الدائرة العريضة لبنية الكراهية وكيفية تشكلها تظهر لنا أنها كانت حتمية وليس ستراوس سوى من ظهّرها وكشف عنها لأنه كان الترميز الأكثر واقعية لسيرورة السياسة ومنطقها في فترة ما بعد الحرب والتي قد يكون قد بدأ الاعتراض عليها في دفاع  جون كينيدي الذي كان سيناتورا في تلك الحقبة عن أوبنهايمر ورفضه إدانته.

 

اللعب مع الموت

تتقاطع الخيوط السردية في الفيلم، لتقدّم سيرة أوبنهايمر بوصفه الكائن المسكون بالموت في كل أحواله دافعة بالحدث منذ البداية لأن يكون مشدودا ومتوترا، بغض النظر عن الوتيرة التي تجري فيها الأحداث وترتيبها ولكن الفيلم لا يترك المشاهد يحصل على هذه النتيجة مباشرة، بل يدعه يتقلب ويدوخ في الدوائر القصصية والانفعالية العديدة التي ينسجها قبل أن يضعه في قلب الخلاصة المكثفة والمفتوحة.

من اللحظة التي كان فيها أوبنهايمر طالبا مهمشا تبرز الببنية السيكولوجية المعتمدة كخلفية لرسم ملامح شخصيته المعبّرة عن الاستعداد للذهاب إلى الحدود القصوى في رحلة البحث عن المكانة.

الإقامة في الموت وصولا الى استبطانه في ذاته، شكلت البنية الإيقاعية التي يحرّك نولان من خلالها شخصيته الرئيسية التي تصنع الموت وتتلقاه  بشكل يعكس حديث الفيلم عن القوة التي تجذب كل شيء إلى مدارها وتخفيه حتى الضوء، وكذلك فإن لا أحداث ممكنة في حياته خارج تلك القوة الختامية والحاسمة التي جسّدها وأطلقها والتي لم يعد بإمكانه الخروج منها.

في مثوله أمام فريق التحقيق الذي تشكل بعد الحرب متهما في ولائه، كان في حضرة موت المكانة، ولعل سطوة تمثيل المشهد بمثوله وهو عارٍ أمام اللجنة ترينا أنه قد عاد إلى موته الأوّلي والأصلي عاريا من المكانة القصوى لرجل نجح في إطلاق أكبر قوة ممكنة في التاريخ وتسبّب بالنصر ونسب كل ذلك إليه.

 في لقائه مع الرئيس ترومان وبعد أن بات مسكونا بفكرة التكفير عن الذنب ونشر قيم ضبط التسلح، يعمل على عرض تلك الأفكار أمام الرئيس مصارحا إياه بأنه يشعر أن يده ملوثة بالدماء ليفاجأ بالرئيس يقدم له منديله قائلا: "هل تعتقد أن اليابانيين الذين قُصِفوا بالقنبلتين يعرفون اسمك؟ إنهم يعرفون اسمي أنا"، معيدا إياه الى دائرة انتفاء المكانة والدور الموازية للموت.

تتقاطع الخيوط السردية في الفيلم، لتقدم سيرة أوبنهايمر بوصفه الكائن المسكون بالموت في كل أحواله دافعة بالحدث منذ البداية لأن يكون مشدودا ومتوترا

وحتى التكريم اللاحق الذي يحظى به والذي كان آينشتاين الذي يظهر في الفيلم كممثل للقوة العاقلة والمنذرة قد تنبأ بأنه سيكون الخاتمة التقليدية لدورة الاستغلال والتحطيم ثم الاعتذار والتكريم التي تسم تعامل الأميركيين مع العلماء، لا يأتي إلا في اللحظة التي يكون فيها الموت الشامل قد تحقّق، وبعد أن دُفع بسباق التسلّح إلى حدود كارثية قصوى لم يعد من الممكن التراجع عنها ولا التأثير في مساراتها التصعيدية والمتنامية.

يكرّم أوبنهايمر في اللحظة التي صار فيها محاصرا بما أسّس له من موت، وبعد أن صار كائنا محطما يسكن خارج التأثير والمكانة. يستعاد إلى دائرة الضوء لأنه قد بات أرشيفا وذاكرة وحكاية، وبعد أن صار ما أسّس له وما يسعى إلى التكفير عنه الشكل الفعلي للعالم ومنطق خطابه وطريقة إدارته.

لا يمكن اللعب مع الموت. نار بروموثيوس التي عوقب على نقلها للإنسان بنسر ينهش قلبه إلى الأبد هي سيرة العلم الفالت من عقاله وغير الخاضع للضبط الأخلاقي.

بين عيني كيليان مورفي المذهولتين في بداية الفيلم وبين الإغماضة الختامية، ترتسم خلاصة الفيلم التي ترى أن ذلك الانفجار المتسلسل الذي من شأنه أن يدمّر العالم قد تحقّق فعلا ونحن نعيش فيه، مشيرا إلى عالم اليوم الذي يتشكل تحت فضاء مسكون بالتجارب الصاروخية الدائمة وسباق التسلح.

الحرب الحديثة قائمة على الانتحار الجماعي وهو ما يدعو نولان العالم الى البحث في كيفية تجنّبه، مجندا لذلك طاقات السينما كفن قادر على مخاطبة الجميع وإثارة النقاش انطلاقا من شموليته وعالميته.

font change

مقالات ذات صلة