"الحرب العالمية الثالثة": بيان سينمائي ضدّ الطبقية في إيران

هومن سيدي يبرز مخرجا وكاتبا للسيناريو

"الحرب العالمية الثالثة": بيان سينمائي ضدّ الطبقية في إيران

"التاريخ لا يُعيد نفسه مطلقا، لكنه يحدث على وتيرة واحدة"، بهذه العبارة، يبدأ المخرج الإيراني هومن سيدي فيلمه الأحدث، "الحرب العالمية الثالثة"، وهي إحدى مقولات الكاتب الأميركي الساخر مارك توين. ينتمي سيدي إلى جيل جديد من شباب السينما الإيرانية يحمل إرثا كبيرا من تاريخ تلك السينما وتميزها بين سينمات العالم المستقلة، التي يمكن أن ندعوها بالسينما السرية. فمنذ عباس كياراستامي إلى الوقت الراهن تحتلّ إيران الصدارة في دراما ملاحقة السلطة لصنّاع الأفلام والتضييق عليهم والزجّ بهم في السجون فيما تجوب أفلامهم المهرجانات الدولية وتحصد الجوائز.

أدّى هومن سيدي دور البطولة في عدد قليل من الأفلام أشهرها "ألعاب الأربعاء النارية 2006" للمخرج أصغر فرهادي. وتحمل بطاقته الفنية مهن "ممثل وكاتب ومخرج مسرحي وتلفزيوني" تخطى الأربعين بقليل في حصيلة لا بأس بها من المسلسلات والأفلام الجماهيرية أو التجارية، التي حققت انتشارا جماهيريا، بل حظي بعضها بجوائز دولية.

يعود أصل التراجيديا إلى كلمة يونانية قديمة تعني "أغنية الماعز"، حيث كانت تُعقد القرابين قديما ضمن طقس ديني يصاحبه غناء وتراتيل، وينتهى بسفك دماء الحيوان الضعيف، ومن هنا كانت المأساة مصاحبة لأصحاب المصائر المشابهة. لذلك بقي الماعز المعادل الأنسب لوضع الطبقات المعدومة من المواطنين، فهم مثل الأضحية تماما، سواء بالنسبة إلى السلطة أو رأس المال، يُضحّى بهم بسهولة وربما دون مبرر أو جُرم. من هذا المفهوم تتمحور قصة "الحرب العالمية الثالثة" حول شكيب المعدم الذي يجد نفسه متورطا فجأة للعب دور واحد من أشهر طغاة التاريخ.

لا يتخلى الفيلم عن مفهوم المأساة –وربما التغنّي بها بصمت في بعض الأحيان- من المشهد الافتتاحي، حيث يروي شكيب لفتاة ليل حادثة عن كلبة دهستها سيارة أثناء عبوره الشارع. في جوار الكلبة كان جروها الصغير يصرخ من الجوع، وفيما كان جسد الأم ينزف، لم تبخل بضخ اللبن للرضيع. "رضع وهو يبكي"، يقول شكيب، وتسأله الفتاة "هل أنقذتها؟"، لينتهي المشهد بصمت ولا تأتي الإجابة سوى في نهاية الفيلم. على أن حادثة الكلبة لم تحمل بمفردها طابع المأساة. فطرحها من الأساس في موقف كهذا، استخدمه المخرج برهافة شديدة لرسم الصورة الكئيبة لحياة بطله حتى في أكثر اللحظات حميمية.

تحتلّ إيران الصدارة في دراما ملاحقة السلطة لصنّاع الأفلام والتضييق عليهم والزجّ بهم في السجون فيما تجوب أفلامهم المهرجانات الدولية وتحصد الجوائز

يسير الفيلم على خطى الواقعية الجديدة، المدرسة الإيطالية الشهيرة التي ساهمت -وبعض الموجات الأخرى- في تغيير مسار السينما العالمية منذ ظهورها في أربعينات القرن الماضي عقب الحرب العالمية الثانية. في فيلم سيدي، لا ينتظر البطل الدعم من المحيطين به، فالجميع "على باب الله"، كما يقال، يتسابقون الى ركوب سيارات تأتي للاختيار من بينهم مقابل أجر ربما لن يكفي لسد الرمق. علاوة على ذلك لا يشعر العمال المياومون بالأمان، فقد يعملون يوما ولا يجدون عملا لأيام وربما لشهور، وكثيرا ما يُستعان بهم في أعمال حقيرة وشاقة وظروف عمل غير آدمية.  

ولا يتوانى الفيلم عن استخدام الإشارات الطبقية سواء من خلال التعبير البصري، مثل مشهد غداء طاقم العمل، وفيه يجلس فريق الفيلم حول منضدة كبيرة، فيما العمال يجلسون القرفصاء إلى جوارهم، ولا ننسى أن شكيب يحل منذ البداية مكان ابن عم مساعد المنتج، حين تأخّر في الالتحاق بالعمل. إنها النظرة القديمة للرأسمالية التي تعتبر كل الرؤوس سواء، وهنا يؤكّد الفيلم فكرة البطالة والعوز وكيف يمكن لوظيفة موقتة ومتدنّية أن تكون محلا للصراع والتنافس بين الطبقات الفقيرة.

 

أبعاد الصورة

يعيش شكيب على هامش الحياة بعدما فقد الزوجة والابنة في زلزال. ذات مرة ينتقل الى العمل في موقع لتصوير فيلم سينمائي كحارس ليلي، وحين يمرض بطل الفيلم يقع الاختيار عليه لتكملة دور الزعيم النازي أدولف هتلر، وبهذا الأمر العبثي، تنقلب حياته رأسا على عقب كما يقال. تتضح براعة النجم الإيراني محسن تنابنده في أداء الدور، وهو أداء كان بمثابة أحجيات تحتاج قراءتها طوال الوقت إلى فكّ شيفرات وطلاسم. فإلى حالة البؤس الشديد التي يجسّدها، فإنه ينجح في تمويه شعوره الداخلي إلى أقصى درجة بحيث يصعب  تحديده، سواء في الفيلم الرئيسي أو من خلال تمثيله، إذ يسير باقي السيناريو متراوحا بين زمكانية مراوغة ومتداخلة أحيانا ووهمية في أحيان أخرى، ويُدمج طوال الوقت بين الفيلم المصنوع داخل الفيلم الرئيسي والفيلم نفسه، وهو ما يُلقي بظلاله في نهاية الأمر على الواقع نفسه. هل الأدوار التي نؤدّيها في الحياة خيالية إلى حدّ الهزل أم واقعية إلى درجة البكاء؟ ربما الاثنان معا.

يرضى شكيب بعالم غير حقيقي، مصنوع (ديكور منزل)، على الرغم من ذلك سرعان ما يُضفي على ذلك الكيان الأجوف مشاعره المكبوتة، في البداية بفرحته بمكان يؤويه، ثم بالمشاعر بينه وبين الفتاة حين تلجأ اليه للاختباء من قوادها، حتى إننا للمرة الأولى منذ بداية الفيلم نرى الفرح على وجه شكيب المتجهم، بل نراه يرقص للفتاة حين حصل على مال فديتها، لكنه حين يذهب لدفعه يعود ليجد منزل هتلر وقد احترق وفق سيناريو الفيلم، والفتاة متفحمة تحت أنقاضه.

كان لتجسيد ذلك الدور فعل السحر على شكيب، بداية من جعله ينتقل من طبقة العمال والنوم في العراء إلى دفء الأسرة وحماية السقوف، كما فتح له باب الطموح في حياة أفضل. وفي النهاية سيكون وسيلته للانتقام. يلاحظ هنا أن الأهمية التي اكتسبها شكيب لم تأته سوى من طريق عالم مصنوع وغير حقيقي، إلا أن انتقاله الى عالم الكبار جعله يكتشف الحقارة الكامنة خلف هذا البريق، فالمثقفون والأغنياء، وقبلهم الحكومة، ينزعجون إذا ما ابتسمت الدنيا لأحد الفقراء. وهنا يتميز سيدي بأنه يعرّي الفن السينمائي نفسه ويُدين مجتمع الفنانين والمخرجين وصنّاع السينما، حين يتواطأ الجميع على محو أي آثار لموت الفتاة كي لا يتعطل التصوير. 

يؤكد الفيلم فكرة البطالة والعوز وكيف يمكن لوظيفة موقتة ومتدنية أن تكون محلا للصراع والتنافس بين الطبقات الفقيرة

كما يدين الفيلم بشدّة استغلال الإنتاج لعمال الموقع من خلال مشاهد قصيرة وعابرة لكنها غاية في القسوة، حين يُستعان بهم كمجاميع صامتة تمثّل اليهود الذين يحتجزهم جنود النازية. وكثيرا ما يُستعان في الواقع بعمال من الموقع في بعض المشاهد الناطقة السريعة أو مشاهد المجاميع الصامتة في الأخص، إلا أن المجاميع هنا لا يعون ما يقومون به. ما يعرفونه عن ظهر قلب هو سبب وجودهم هنا لحمل الديكورات وبنائها ومد الأسلاك الشائكة، وفجأة يُطلب منهم ارتداء بيجامات مقلّمة ثم يُساقون إلى حجرة يخلعون فيها الملابس، فيما بعض الوجوه المألوفة لهم في الموقع يرتدون ملابس الجيش الألماني، ومساعدو المخرج والمنتج يلبسون مثل بيجاماتهم تماما ويقفون بينهم للتوجيه والإرشاد، بينما فريق كبير من وراء الكاميرا يسجل تلك المهزلة بجدّية تبدو غريبة بالنسبة إليهم.

 

عالم دموي جديد

في براعة لا تقل عن الإخراج، قدّم هومن سيدي نصا سينمائيا متوازنا يعتمد على التفاصيل المتناثرة والعابرة في تكوين متنه الدرامي، ويحتفي في الوقت نفسه بالبناء الكلاسيكي، بداية من التصاعد الدرامي لرحلة تحوّل شخصية البطل من حياة الى حياة أخرى أو هي شبه حياة ربما، مرورا ببعض التفاصيل الصغيرة التي ستنهي الأحداث. نشاهد في بداية الفيلم البقال، صديق شكيب، حين يخفي كيسا من السم الخطير داخل خزانة صغيرة، وفي نهاية الأحداث يلجأ شكيب الى سرقة الكيس على طريقة وصية همنغواي الشهيرة بأنكَ إذا ذكرتَ بندقية في بداية قصتكَ فلا بد أن تُطلق منها رصاصة عند نهاية الأحداث. 

حين يشعر شكيب بالأمل –ربما للمرة الأولى في حياته- يجد الجميع يتواطأ لعدم استمراره. فالقوّاد يُجبره على دفع مبلغ أكبر كي يعفو عن الفتاة ويتركهما وشأنهما، ثم يكتشف أن المخرج خدعه واتفق مع القوّاد وبعض ممن لديهم علاقات مع السلطة. لقد سلبه الجميع  الحقّ حتى في الحلم والشعور بأهميته الوجودية. ويمثل هذا الاتفاق الجمعي نظرة المجتمع الأحادية إزاء المهمشين من أمثال شكيب وحبيبته فتاة الليل.

ربما كان مبعث الجُرم الوحيد في الوجود هو أن تكون من الطبقات الدنيا في المجتمع، وهو سرّ معاناة البطل مع هزائمه المتوالية بداية من اتهامه بالتخلّي عن أسرته أثناء انهيار المنزل، ولا ننسى اتهام الفتاة أو استنكارها تقاعسه عن إنقاذ الكلبة أو جروها الصغير، وفي النهاية فشله في إنقاذ الفتاة نفسها من مصير من سبقنها في المهنة حيث تُحرق العاهرات كالساحرات حتى وإن حدث ذلك بمحض المصادفة. نتيجة التصاعد والتراكم، لن يكون هناك مفرّ من فكرة قديمة هي الأخرى كثيرا ما يلجأ إليها البشر حين يطفح الكيل، وهي الانتقام حتى وإن كان هذا آخر ما سيقومون به على هذه الأرض.

من هنا، يفجّر شكيب ثورته ضدّ المجتمع بأكمله، حتى ضدّ المعدمين أمثاله حين يضع السمّ في وجبة الغذاء التي يعلم أن جميع من في الموقع سيأكل منها، وينتهي الفيلم بشاشة سوداء نستمع من خلالها إلى أصوات الضحايا وهم يحتضرون ويسقطون بالتوالي. قبل ذلك، أجاد المخرج في تأكيد نظرة شكيب أثناء دخوله حجرة الطعام التي ستتحوّل إلى حجرة لتنفيذ إعدام جماعي على طريقة الفيلم أو الطريقة النازية، الأمر سيان، فلم تعد الإبادات الجماعية تصدر عن شخص مصاب بجنون العظمة، بل أيضا العكس. حيث يشير الفيلم إلى أن الحرب المقبلة لن تكتسب عالميتها من تناطح الدول الكبرى، بل من مواجهة الخصم الجديد من جياع وفقراء العالم خصوصا ونحن نعيش عصرا دمويا بامتياز تتكاثر فيه الحروب.  

بذلك، يتخطى شكيب فكرة تمثيله المواطن الإيراني ليقدّم صورة للإنسان المعاصر، "الغريب" على طريقة كامو، بيد أن الغربة وحدها لم تعد كافية لخلق إشكالية وجودية، فالوجود في حدّ ذاته أصبح هو الإشكال الأكبر.

font change

مقالات ذات صلة