الحرب النووية في السينما: حافة الفناء

خوف يتجدّد مع كلّ نزاع

فيلم كريستوفر نولان

الحرب النووية في السينما: حافة الفناء

مع اشتداد القتال في أوكرانيا والخسائر المادية والبشرية الكبيرة التي تتكبّدها القوّات المتحاربة، ثم مع تهديد الصين لاحتواء تايوان كجزء لا يتجزأ من أراضيها ومواصلة كوريا الشمالية التهديد بالهجوم على كوريا الجنوبية ومن يؤازرها، ترتفع وتيرة اللجوء إلى حرب نووية مدمّرة حتى ولو كانت محدودة أو مصغّرة.

يصح القول إن حربا نووية هي ملاذ أخير لا يتمناه أحد، لكن يصح القول أيضا إن روسيا لن تقبل الهزيمة التي يتمناها الغرب لها والصين لن تقبل التخلي عن تايوان دون ثمن باهظ وكوريا لن توقف عن التهديد بتدمير كل المناوئين لها. بالتالي، مهما تدنت احتمالات اللجوء إلى السلاح النووي، إلا إنه مثل ضباب أسود ينذر بعواصف عاتية.

الهاجس الماثل أمام أعين أهل الأرض دفع المخرج كريستوفر نولان (Interstellar‪, The Dark Knight‪, Dunkirk) إلى العودة إلى كتاب وضعه مارتن شروِين بعنوان "أوبنهايمر" وأدرجه المخرج كأحد أعماله المقبلة لهذا العام. في الثامن عشر من مايو/ أيار دخل نولان بالفيلم مرحلة ما بعد التصوير وهو الآن مدرج ضمن العروض التجارية في العاشر من سبتمبر/ أيلول المقبل، ربما بعد افتتاحه العالمي الأول في إطار مهرجان فنيسيا السينمائي في إيطاليا.

يتمحور الفيلم حول شخصية جوليوس روبرت أوبنهايمر الملقّب بأبي القنبلة الذرية. كان عالم فيزياء ومسؤولا عن مختبر "لوس ألاموس" النووي في ولاية نيو مكسيكو خلال الحرب العالمية الثانية وبعد أن أثبت براعته في مجال "فيزياء الذرّة" عُيّن رئيسا للمختبر المذكور وطُلب منه العمل على تطوير الذرّة لاستخدامها كسلاح نووي. في منتصف الأربعينات صنعت أول قنبلة نووية وفي الخمسينات بوشر بإجراء التجارب عليها في صحارى الولايات المتحدة الأميركية.

انتهت زعامته في حقول الفيزياء والسلاح النووي في العام 1954 خلال الفترة المكارثية التي شملت التحقيق مع ذوي الميول اليسارية في كل مجالات العمل الرئيسية في الولايات المتحدة. موقف أوبنهايمر بقي غامضا فهو كان كتب في استمارة توظيف بأنه "كان عضوا في كل جبهة شيوعية" على الساحل الغربي. مع بدء تحقيقات "لجنة التحقيق في النشاطات غير الأميركية" (التي عُرفت كذلك بـ "لجنة مكارثي") نفى ما كتبه. لكن ملفّه كان موثّقا وتأثيره السياسي كان دقيقا بحيث جُرّد من معظم صلاحياته ومناصبه التي كان بعضها مؤثرا في الدوائر السياسية الأميركية.

فيلم نولان "أوبنهايمر" سيكون حلقة إضافية ضمن الأفلام التي تعاملت مع سينما الحرب الباردة وأفلام الحروب النووية التي تعود إلى الخمسينات عندما أخذت السينما تطرح مسائل تشغل بال الأميركيين حينها

الساخر الكبير

فيلم كريستوفر نولان سيكون حلقة إضافية ضمن ملف الأفلام التي تعاملت مع سينما الحرب الباردة وأفلام الحروب النووية. هذه بدورها تعود إلى الخمسينات عندما أخذت السينما تطرح مسائل تشغل بال الأميركيين حينها وفي مقدّمتها القدرات النووية وما يمكن أن يصاحبها من أخطار.

"عنكبوب" Tarantula (إخراج جاك أرنولد، 1955)

بعض هذه الأفلام كانت أفلام رعب تقوم على مبدأ إصابة أشخاص أو مخلوقات غير آدمية بالإشعاع النووي، مما يجعلها متوحشة. ورد هذا في "هُم" Them (غوردون دوغلاس، 1954) و"عنكبوب" Tarantula (إخراج جاك أرنولد، 1955). هذا الثاني انتهى بقيام طائرة يقودها الشاب غير المعروف حينها كلينت ايستوود بإلقاء قنابل نابالم على العنكبوت الأسود العملاق الذي يهاجم البلدة.

"اليوم الذي جمدت فيه الأرض" (The  Day the Earth Stood Still)  

البعض الآخر منها هو من الخيال العلمي وأبرزها "اليوم الذي جمدت فيه الأرض" (The  Day the Earth Stood Still)  الذي أخرجه روبرت وايز حول مخلوق فضائي يهبط الأرض ليحذّر العالم من مغبة السلاح النووي.

في 1953 قام الممثل دك باول بإخراج "في ظرف ثانية" (Split Second) حول هاربين من القانون يلجآن إلى منطقة يكتشفان إنها أخليت من البشر تمهيدا لإجراء تجربة نووية فيها.

أفضل منه كان فيلم روبرت ألدريتش "قبّلني للموت" (Kiss me Deadly) الذي تحدّث عن صندوق من الإشعاع النووي من شأنه القضاء على البشر إذا ما وقع في أيد غير مسؤولة، وهو ما يحدث فعلا.

الفكرة نفسها عالجها مخرج كبير من وزن ستانلي كيوبريك عندما أخرج فيلمه  الشهير"دكتور سترانجلف أو كيف تعلمت التوقف عن القلق وأن أحب القنبلة"  (Dr‪. Strangelove or‪: How I learned to Stop Worrying and Love the Bomb).

الفيلم الشهير "دكتور سترانجلف أو كيف تعلمت التوقف عن القلق وأن أحب القنبلة"

وضع الرواية المؤلف بيتر جورج تحت عنوان "إنذار أحمر"(Red Scare) حول احتمال نشوب حرب نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي سابقا بسبب قرار فردي متطرف من أحد الجنرالات الأميركيين. غيّر كيوبريك من نبرة الرواية التشويقية إلى نبرة كوميدية ساخرة ولو أنه حافظ على نسبة عالية من التشويق.

في الفيلم، يأمر الجنرال جاك ريبر (سترلينغ هايدن) بإرسال طائرةB‪-52 كي تدك مدينة موسكو بقنبلة نووية. الخاطر مخيف وها هو رئيس الجمهورية (بيتر سلرز) يجتمع وأركان قيادته (التي تضم جنرالا آخر ذا نزعة عسكرية متطرّفة يقوم به جورج س. سكوت) لبحث الأمر ومحاولة تجنّب رد فعل روسي بالحجم ذاته. بين المجتمعين السفير الروسي في واشنطن والدكتور سترانجلَف (بيتر سلرز أيضا) الإستراتيجي المقعد الذي بات أقرب إلى الروبوت المُسير نظرا لتعدد إصاباته التي سببت له شللا بدنيا.

يلعب بيتر سلرز شخصية ثالثة، هو الكابتن البريطاني  ليونيل الذي يهرع إلى مكتب الجنرال ريبر ليتباحث وإياه بشأن فعلته. ريبر عسكري مهووس بنظرية المؤامرة الشيوعية التي يراها استولت على القرار الإداري في البيت الأبيض. بل هو يؤمن كذلك بأن ماء الشرب مسممة بعنصر كيماوي من شأنه تحويل الشارب عن مبادئه الأميركية. واعتناق الشيوعية. حين يشن الجيش هجوما على مقر قيادة الجنرال ريبر  للقبض عليه، يتأكد من أن نظرية المؤامرة التي يؤمن بها صحيحة.

 

قنابل متبادلة

ينتهي الفيلم بتبادل نووي ودمار شامل مع أغنية تجسد المزيد من السخرية إذ تردد: We Shall Meet Again.

خرج الفيلم في أوج الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي سابقا وحمل تحذيرا مخيفا في طيّات كوميديتّه: لو قامت الحرب (وكانت أصابع كل طرف مستعدة لكبس الزر) لما انتهت الحياة في أميركا وروسيا فحسب، وبل في العالم. براعة كيوبريك أنه لم ينجز هذا التحذير خطابيا، بل صوّره كأنه مجموعة من رسومات الكرتون المسلسلة. ليس هناك من اعتراف بالخطأ ولا من شعور بذنب.

لمزيد من السخرية استخدم المخرج ممثل أدوار مساندة في أفلام الغرب الأميركي سلِم بيكنز ليقود طائرةB12. وفي مشهد سوريالي ذي دلالات، نرى الممثل وهو يعتلي ظهر الصاروخ النووي ويرفع قبّعته ملوّحا كأنه يركب ظهر حصانه.

فيلم "دولة فاشلة" (Fail Sate)

خرج فيلم كيوبريك سنة 1964 وهي السنة ذاتها التي فكّرت فيها هوليوود بإنتاج فيلم آخر يحذّر من الإنفجار النووي ويتعامل مع رئيس أميركي في مواجهة آخر روسي. الفيلم هو "دولة فاشلة" (Fail Sate) لسيدني لومِت الذي كان بنى لنفسه نجاحا باكرا عندما حقق "12 رجلا غاضبا"  (1957).

كحال فيلم كيوبريك، تنطلق طائرة أميركية نووية ولو على نحو غير متعمّد بل نتيجة خطأ غير محسوب. يبدأ الفيلم بتقديم شخصيات في أربع مدن أميركية مختلفة تستيقظ في الساعة الخامسة والنصف صباحا على احتمال إلقاء قنبلة نووية فوق موسكو بعدما تعذر إرجاع الطائرة المتوجهة إلى هناك. كعادة المخرج ليس هناك وقت للمزاح. بعد عشر دقائق نحن في وسط الأزمة والوسائل التي تعتمدها الرئاسة والبنتاغون لتجنب آثار ما سيقع. هناك قصّـة قوية يستند إليها لومِت (وضعها كرواية هارفي ويلر ويوجين بوردِك) وينفذها جيدا ويستخرج عصارتها الدرمية بمهارة،  بإستثناء أن الإنتاج من الضعف بحيث عمد إلى تكرار مشاهد أرشيفية للطائرات حالت دون أن تتحول إلى تجسيد خطر فعلي.

خرج فيلم كيوبريك في أوج الحرب الباردة وحمل تحذيرا مخيفا في طيّات كوميديتّه: لو قامت الحرب وكانت أصابع كل طرف مستعدة لكبس الزر، لما انتهت الحياة في أميركا وروسيا فحسب، بل في العالم

فيلم ممنوع

إزاء خطر الرد السوفييتي يدخل الرئيس الأميركي في هذا الفيلم (هنري فوندا) إلى غرفة عارية من الأثات تحت الأرض وبصحبته رجل واحد فقط هو المترجم.  أيضا يمثل وولتر ماثاو شخصية بروفسور لديه حقد أعمى ضد الشيوعيين ويؤيد تدمير موسكو قصدا. أداء ماثاو كاريكاتوري وفي أفضل الحالات ليس الشخص المناسب في المكان المناسب.  تبعا لجدول العروض، ثم لقوّة ما وفّره كيوبريك لفيلمه من كوميديا، فاز "دكتور سترانجلف" بينما مرّ "دولة فاشلة" دون إثارة انتباه النقاد والجمهور آنذاك.

من أفلام الفترة ذاتها "سبعة أيام من مايو"(Seven Days in May) لجون فرانكنهايمر (1964) و"ألعاب حرب" لبيتر ووتكنز (1966).

من فيلم أوبنهايمر

هذا الفيلم البريطاني موّلته محطة BBC لكنها امتنعت عن عرضه عشرين عاما بداعي أنه عنيف وقاس، وهو فيلم شبه تسجيلي يعرض، دون ترقيع، ما قد يحل بالبريطانيين إذا ما تعرّضت البلاد لانفجار نووي.

في الخمسينات كذلك يبرز فيلم منسي اسمه "فوق وما وراء"(Above and Beyond) لملفن فرانك ونورمان باناما حول الطيّار (روبرت تايلور) الذي قاد الطائرة المحمّلة بالقنبلتين النوويّتين اللتين أسقطتا فوق اليابان.

الموضوع لم يغب من حينها وفي العام 1979 أقدم جيمس بردجز على تحقيق فيلم "المتلازمة الصينية" The Chinese Syndrome من بطولة جين فوندا وجاك ليمون حول تسرب إشعاع نووي من محطة أميركية ومحاولة المسؤولين طمس الحقيقة. "سيلكوود" لمايك نيكولز (1983) دار حول موضوع مشابه قام بتمثيله كيرت راسل وميريل ستريب.

وقد شاركت السينما الوثائقية في هذا التيار وأحد أبرز أفلامها كان "ذَ أتوميك كافيه" لجين لودر وبيرس رافرتي حول خداع السلطات الأميركية لمواطنيها في الخمسينات عبر تأكيد عدم وجود مخاطر من التجارب النووية بالقرب منهم.

الأزمة الكوبية التي هددت، سنة 1962 بنشوب حرب نووية بين الدولتين العملاقتين كان لها نصيب لا بأس به من الأفلام من أهمها "13 يوما"(‪13 Days) الذي أنجزه سنة 2000، روجر دونالدسن من بطولة كيفن كوستنر وبروس غرينوود الذي لعب شخصية جون ف. كندي.

في العام الماضي عُرض فيلم تسجيلي آخر تحت عنوان "جاسوس متعاطف" لستيف جيمس: نظرة على جاسوس يهودي كان يعمل داخل مؤسسة مانهاتن بروجكت (التي كان أوبنهايمر أحد علمائها) واختار تهريب أسرار نووية إلى الروس مؤمنا أن هذا السلاح لا يجب أن يكون بيد قوّة عالمية واحدة.

الفيلم جريء في طرحه وفي تناول الوقائع كما حدثت، لكن أغرب ما يعلنه هو أن اليابان عرضت على أصحاب القرار في البيت الأبيض الاستسلام أسابيع قبل قيام الولايات المتحدة بإلقاء القنبلة النووية على ناغازاغي وهيروشيما (الأخيرة كانت بدورها محط اهتمام أفلام أوروبية وأميركية ويابانية عديدة)، لكن الولايات المتحدة آثرت الصمت وأرسلت تلك الطائرة لدك المدينتين.

يقترح الفيلم، بشدّة، أن السبب وراء ما فعلته لم يكن الانتقام من الهحوم الياباني على "بيرل هاربور"، ولا وضع نهاية للحرب فقط، بل رسالة موجهة للاتحاد السوفييتي بما تستطيع القنبلة النووية فعله إذا ما قررت أميركا ضرب روسيا.

font change

مقالات ذات صلة