سامية العنسي: نعيش تراجعا في الحياة المعرفية والمدنية

إذاعية يمنية من الزمن الجميل

سامية العنسي

سامية العنسي: نعيش تراجعا في الحياة المعرفية والمدنية

كانت سامية العنسي، المذيعة اليمنية المعروفة، لا تزال طفلة، حين سمعت في أجواء بيتها بروفات ألحان أغنية "أنا أروى بنت الجمهورية"، التي كتب كلماتها أبوها الشاعر الشعبي محمد ناصر العنسي ولحنها عبد الرحمن مطهر، وهي تحفّز على تعليم الفتاة ومشاركتها في الحياة العامة. لم تكن الفتاة الصغيرة قادرة على أداء هذه الأغنية لكنها بقيت تدندنها كبقية فتيات اليمن المتطلعات إلى عهد جديد.

كان ذلك في نهاية ستينات القرن الماضي وبداية السبعينات منه، ذلك الزمن الذي تصفه العنسي بالزمن الجميل، إذ حمل "الكثير من براءة الحياة وطهارة العقول والقلوب التي عشنا تحت ظلالها". وهي حياة بدت لها "بسيطة بمتوسط معيشي بسيط، لكنها خالية تماما من شوائب النظرة التباينية بين الناس حتى وإن تباينت أوضاعهم المادية. كنا نلعب جميعا، البنات والأولاد، في حارة نراها عالمنا الترفيهي الذي لا نمل منه، نمارس ألعابنا البسيطة التي هي من صنع الأشياء المحيطة بنا".

في تعز

ولدت سامية العنسي في مدينة تعز التي تقول إن معظم الأسر فيها "نقيلة"، وتعني أنها جاءت إليها من مختلف مناطق اليمن وقراها، وهي حال مدينتَي عدن وصنعاء. وكانت "ظاهرة الوعي الجمعي العالي سمة من سمات السلوك العام في مدينة تعز، فمدرسة الثلايا التي درست فيها المرحلة الابتدائية كانت مختلطة، وكان اختلاطا تلقائيا وعفويا بحسب الثقافة البيئية التي تربينا عليها آنذاك والتي جعلتنا في عيون المجتمع اطفالا وافرادا متساوين، بل لا يمكن لآبائنا أن يفكّروا بمثل تلك المعايير التي نسمّيها امتيازات أو فوارق او غيرها من الألفاظ العنصرية التي باتت اليوم بعض عناوين الحياة".

منذ التحاقها بالصف الدراسي الأول عام 1969 كانت سامية من هواة الإلقاء في الإذاعة المدرسية ومشاركة فاعلة في تقديم فقراتها في طابور الصباح "وأمام ميكروفونها الذي أخذ لبّي وإعجابي بتلك الأصوات التي كنت أسمعها من خلاله، أصبحت الإذاعة المدرسية شغلي الشاغل، وكنت حريصة على التفاعل مع كل المناسبات المدرسية كعيد الأم والأعياد الوطنية، وذلك بدعمٍ لافت من والدي الذي كان يكتب القصائد الخاصة بهذه المناسبات الى درجة أنه كان يستمع إلى تمريناتي في البيت قبل ذهابي الى المدرسة".

درستُ الابتدائية في مدرسة مختلطة، وكان اختلاطا تلقائيا وعفويا بحسب الثقافة البيئية التي تربينا عليها آنذاك والتي جعلتنا في عيون المجتمع اطفالا وافرادا متساوين 

ولأنّ هذا الشغف ظل باقيا، فإنه لم يتوقف مع انتهاء الدروس: "كنتُ أجعل من العطلة المدرسية في حارتنا حالة من الصخب ليجتمع كل أبناء الحارة ونتشارك تقديم ما لدينا من قصائد أو أناشيد مدرسية مستمتعين بتلك الأجواء التي لا نملّ منها. وهذا ما جعل والدي يذهب بي حينها إلى إذاعة تعز التي كانت قريبة من بيتنا ليبدأ مشواري الإذاعي من هناك".

 

إذاعة تعز

في إذاعة تعز بدأت رحلة سامية العنسي التي أصبح صوتها يصل إلى كل بيت يمني، "هناك كان زملائي وأساتذتي في إذاعة تعز يعتبرونني فردا من أفراد عائلاتهم، لأنني التحقت فيها وعمري لا يتجاوز أربعة عشر عاما، فاحتضنوني وتبنّوا موهبتي التي لفتت انتباههم وجعلوني أشارك في برامج الأطفال لمدة عام، دعما وتشجيعا منهم، لأصبح بعدها موظفة رسمية ضمن موظفي الإذاعة في عام 1977 تقريبا".

تتذكّر العنسي أسماء إعلاميين كبار عملت معهم: محمد جبالة، عبد القدوس الشامي، علي عبدالله عمر، علي إسماعيل حسين، تقول: "كان هؤلاء بالنسبة إليّ بمثابة معهد إعلامي مصغّر، فقد اكتسبت الخبرة من خلال معارفهم وتوجيهاتهم ونصائحهم حتى أنهم أمدّوني بأسماء الكتب والمراجع التي يجب أن أستفيد منها، ولهذا كنت أول مذيعة في ذلك الوقت تقرأ نشرة الأخبار في سن صغيرة. وكان لمدينة تعز في 1978-1979 تجربة بث تلفزيونية موقتة لمدة ثلاثة أشهر ظهرت من خلالها عبر قراءة نشرة الأخبار".

ذكريات الاذاعة

أمضت سامية سنوات الشباب ما بين العمل والدراسة: "شغلني الشغف والهوس في محبة التقديم والإلقاء والعمل الإذاعي إلى حدّ كبير عن اهتمامات أخرى بما فيها الاهتمامات العاطفية، إذ بقيت في إذاعة تعز ثلاث سنوات تقريبا حتى أكملت الثانوية وسافرت بعدها الى صنعاء بهدف الالتحاق بالجامعة والعمل في تلفزيون صنعاء".

 

في صنعاء

تضيف العنسي: "في صنعاء لم تتغير الحال كثيرا بملامحها الاجتماعية القريبة من الحياة في تعز، فعملت في التلفزيون لمدة عام ما بين تقديم البرامج وقراءة نشرات الأخبار، إلا أن هذه التجربة المرئية لم ترق لي كثيرا، لبعد موقع العمل عن المسكن وصعوبة التوفيق ما بينه وبين الجامعة، ومحبة الميكرفون الإذاعي كانت أكبر، فاضطررت إلى تحويل عملي من التلفزيون إلى إذاعة صنعاء التي اتاحت لي الدراسة الجامعية في كلية الآداب قسم لغة عربية صباحا والعمل فيها مساء، وبعد التخرج حصل النصيب في الزواج، لنكوّن أسرة من خمسة اولاد الى جانب عملي".

سامية العنسي في طفولتها

في إذاعة صنعاء عملت سامية في مختلف البرامج، حيث كان توصيف عمل المذيعين وقتها بـ"الكل للكل": "لم نكن نعرف معايير التصنيفات والتخصصات الإعلامية التي يشهدها إعلام اليوم، فالمذيع يجب عليه أن يكون مؤهلا في أدائه متنوعا في تقديمه، فمثلا كنت وبعض زملائي مؤهلين لقراءة الأخبار، والتعليقات السياسية، وتقديم البرامج المنوعة والسياسية والمناسباتية. وعلى الرغم من صعوبة هذه التجربة إلا أنها أكسبتنا جميعا خبرة واسعة في كيفية فنون التقديم والصوت والأداء، وساعدتنا أيضا على صياغة الكلمة وفن كتابتها وتقديمها للمستمع".

استمر مشوار سامية العنسي المهني في إذاعة صنعاء لأكثر من 35 عاما "استطعت من خلالها أن أقدّم الكلمة التي أحبّها والرسالة التي أحرص على تقديمها للناس والقضايا والموضوعات والظواهر الاجتماعية التي ترتبط بهموم الطفل والأسرة والمجتمع". 

بهذه الخبرة المتراكمة، ترى أنها "نجحت إلى حدّ ما في التأثير في الناس وكسب محبتهم وإعجابهم".

يظل واقع المرأة اليمنية محفوفا بعوالق العيب والتحفظ المجتمعي الذي انعكس على أدوارها بشكل سلبي أعاقها كثيرا عن الانطلاق والعمل والتأثير

تلاحظ أثر التحولات الاجتماعية والموقف من مشاركة المرأة خلال الأربعين عاما الماضية: "لم أرتدِ النقاب منذ أن عرفت نفسي مراهقة وشابة حتى هذه المرحلة، فنحن صغارا لم نكن نرتدي الحجاب الكامل للشعر، وكان هناك ما يسمى الايشارب الأبيض (المَصَرْ) من ضمن الزي المدرسي حتى صرت في الجامعة فاضطررت إلى لبس حجاب الشعر كاملا تجنبا في البداية لبعض انتقادات الزملاء المتأثرين بالمدّ الإسلامي حينها، في بداية الثمانينات تقريبا، حتى صار الحجاب عادة وقناعة إلى اليوم".

وتؤكد العنسي: "قبل ظهور تلك الانتماءات الفكرية والدينية والسياسية كانت الحياة خالية من التعقيدات والتوجهات المتطرفة، فنلاحظ وكأننا اليوم نعيش تراجعا في الحياة المعرفية والمدنية التي كان يجب أن تكون أكثر تطورا ونماء. أمّا بالنسبة إلى فرص العمل وتطور الانتاج والحرّيات فلم نتمكن منها لا سابقا ولا لاحقا كما يجب أن يكون عليه التمكن، فخصوصية هذا المجتمع وتحفظاته أثرتا سلبا في تقييد مفردات الحياة العامة والخاصة على حد سواء وأخص هنا الحياة المهنية ورسالة الإعلام التي ظلت عالقة بين أسر الرسالة الموجهة من الدولة وللدولة، مع عدم إنكار أنه كانت هناك مساحة محدودة لطرح بعض القضايا المباشرة التي تعنى بهموم الناس وأوجاعهم".

 

واقع المرأة اليمنية

في النظر إلى واقع المرأة، ترى العنسي أنه "يظل واقعا محفوفا بعوالق العيب والتحفظ المجتمعي الذي انعكس على أدوارها بشكل سلبي أعاقها كثيرا عن الانطلاق والعمل والتأثير، وبالمقارنة مع التحاق المرأة قديما في الإعلام، فقد كان التحاقا مشوبا بالحذر والريبة ونظرة الناس غير البريئة، إلا أن احتياجات هذا المجتمع ومتطلباته الملحّة وتحدياته أفسحت في المجال لوقوف المرأة مع أخيها الرجل في التفاعل والمشاركة في جميع المجالات، وكان بالتالي للعنصر النسائي في الإعلام مساحات أكبر للالتحاق بهذا المجال".

سامية العنسي

لا تتخوّف الإذاعية الشهيرة من مستقبل الإذاعة مع وجود وسائط إعلامية حديثة أخرى: "تظلّ الإذاعة على الرغم من ثورة التكنولوجيا، الوسيلة الإعلامية الأقرب إلى الناس والأكثر ارتباطا بخيال المتلقي ووجدانه، لأنه يتلقّى كلمتها المسموعة كصورة يرسم معانيها ودلالاتها في خياله تأثيرا وتأثرا وهذا ما يميز الإذاعة عن سائر الوسائل المرئية التي تشغل بصر المتلقي وسمعه بشكل مباشر".

font change

مقالات ذات صلة