الكتاب والمكتبة في سوريا: مرايا الحرب والواقع المحطّم

كيف تستمر ثقافة الكتاب وتداوله بين الشباب؟

Getty Images
Getty Images
معرض إدلب للكتاب 2022

الكتاب والمكتبة في سوريا: مرايا الحرب والواقع المحطّم

تتواتر الأخبار بين الحين والآخر، خصوصا خلال سنوات الحرب الأخيرة، عن إغلاق المكتبات التجارية في مختلف مدن سوريا. فالمكتبة بشكلها السوري المعتاد تعتمد بصورة كليّة على بيع الكتب، أي لا تختلط بمبيعات أُخرى كالقرطاسية ومستلزمات الطلاب وما شابه ذلك. أغلب المكتبات السورية اختصّت ببيع الكتب وصنعت أسماء وعلاقة ثقافية واجتماعية داخل البلاد. وألقى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ومواكبتها التفصيلي للأحداث، الانتباه على ظاهرة انهيار المكتبات وإغلاقها في عموم البلاد، خاصة أن تطور نشاط المطبوعات في سوريا قد أُجهض مرارا، وتعرضت المكتبات وحركة الطباعة لنكسات أُهمل الحديث عنها منذ خمسينات القرن الماضي.

بحسب المؤرخ هاشم عثمان الذي أرّخ لتاريخ الصحافة ودور النشر، أغلقت منذ الخمسينات والستينات عشرات المطابع والدور الناشئة في عموم سوريا، التي كانت تختص بطباعة الكتب التراثية والدينية والأدبية، تزامنا مع الناصرية والبعث على التوالي، وتحولت في أغلبها إلى طبع المنشورات الإعلانية، أو حتى أوراق النعي وبطاقات المعايدة.

هذا الانحسار في حركة المطبوعات هُمّش ثقافيا ولم يعد التراجع الأصيل في حركة الطباعة منذ نصف قرن، مدار نقاش حقيقي، بعدما كان الكتاب السحر الوحيد الذي يحاول الجميع التلهف نحوه سواء للمتعة أو لتشكيل الوعي والتفاعل الاجتماعي.

في سوريا تعرّضت الطباعة للتدهور المتواصل منذ منتصف القرن الماضي، إما بفعل السلطة أو الصراعات الايديولوجية السائدة وانعكاسها الاجتماعي. ففي ظل حراك سياسي وثقافي ظل نشطا حتى الثمانينات، شهدت المكتبات حروبا على محتوياتها بين القوميين والشيوعيين، وبين الإسلاميين والماركسيين، وبين سلطة تنقم على صاحب مكتبة لبيعه كتابا معينا، سواء أكان الكتاب دينيا أم سياسيا أم أدبيا. فقد خاضت السلطات السورية حروبها الخاصة مع المكتبات، وتجلّى ذلك في ملاحقة كُتب لشخصيّات سورية محدّدة، أو منع دار للنشر من إصدار الكتب جراء نشرها كتابا غير مصرّح به أو غير مقبول من وجهة نظر السلطة. مع ذلك استطاع العديد من دور النشر الصمود والبقاء في الداخل، والحفاظ على اتزان كبير في النشر لجذب الجمهور عبر الكتب التي تنتجها الثقافات العالمية أدبا وفكرا. مع الألفية الجديدة احتفظ الكثير من دور النشر في سوريا بعلو كعبه في ما يخص إنتاج الكُتب، كـ"دار الحوار"، و"دار التكوين"، و"دار الحصاد"، و"دار الفكر"، و"دار أطلس""، و"دار المدى" بفرعها في دمشق، إضافة إلى الكثير من الدور التي تختص بالجانب التراثي والديني. واستقرت عشرات المكتبات على العمل بنشاط مذهل. بعض المكتبات بدأت عملها ونشاطها منذ الخمسينات، وحافظت على علاقة معرفية وإنسانية مع سكان المدن ودور النشر السورية والعربية، إلا أن سنوات الحرب الأخيرة قضت على العديد من التجارب المهمة والفريدة، فأغلق في عموم سوريا أكثر من عشر مكتبات لبيع الكتب، كـ"نوبل" في دمشق التي يربو عمرها على الخمسين عاما، و"مكتبة كردية" في اللاذقية التي يتجاوز عمرها ستين عاما. شكل إغلاق المكتبات وانحسار وجودها ما يشبه الصدمات النفسية والاجتماعية لدى المثقفين والقراء عموما. حتى عند الذين لا يقرأون ولا يتابعون إصدارات الكتب، عشرات المقالات والكثير من تعبيرات الرأي على وسائل التواصل أظهرت بُعدا حميميا حيال المكتبات التي أُغلقت، وأظهر جزء كبير من التعليقات جانبا خفيا ومورابا في الساحة السورية من التعلق الشديد بالمكتبات والكتاب، والشعور بأن هوية المدينة تنتقص بإغلاق مكتبة. يمكن فهم الحالة السورية في التعبير العنيف والغاضب على إغلاق المكتبات، حيث تَصدَّر إغلاق مكتبتي "نوبل" و"كردية" واجهة المدونات المكتوبة وأخبار التواصل الاجتماعي.

خاضت السلطات السورية حروبها الخاصة مع المكتبات، وتجلّى ذلك في ملاحقة كُتب لشخصيّات سورية محدّدة، أو منع دار للنشر من إصدار الكتب جراء نشرها كتابا غير مصرّح به أو غير مقبول من وجهة نظر السلطة

المكتبات التجارية، التي حقّقت انتشارا هائلا، ومبيعات جيدة في فترات عديدة، قادت أطفالا صغارا وذويهم، من قراءة قصص الأطفال إلى الكتب المعقّدة، في الأدب والدين والثقافة، والى الكتب التي لا تستغرق في الجمالية فحسب، بل تنحاز الى الاكتشاف وتحديد الهوية وتثقيف النفس. فكانت المكتبات أحد أفضل الأماكن لاكتشاف طرق الحياة، سواء الطريق الذي ينتهي بالسجن أو بالمعرفة وتشكيل حوار مع العالم وأوجه الحياة، أي جماليّة ذاكرة الطفولة والبحث عن الأمل في حياة أفضل أيضا. جيلا بعد جيل، رسمت المكتبات مستقبل وعي السوريين وصلتهم بالعالم، أضف إلى ذلك المتعة والتسلية، وأنشأت دون شك شكلا من أشكال تفاعلاتهم الواعية والخفية. كانت المكتبة والكتاب أيضا الخطوة الأكثر شدّة وقسوة لتُظهر هويّتك وتبدو تحت العقاب الاجتماعي والسياسي، حيث ستنمو السلطة على ظهر الكتاب ومن يتداوله ومن يحبّه، وستكون للمثقّف عقوبةٌ أمام السلطة منذ اللحظة التي يصبح فيها صديقا للكتاب. اندفع أصحاب المكتبات التجارية في عموم سوريا الى التعبير عن السخط الذي رافق انهيار مشاريعهم، وتوازى ذلك مع كتابة العديد من المثقفين مقالات وسرديات عن إغلاق المكتبات والعلاقة بها، خاصّة أن لكل مكتبةٍ تاريخا ملازما للشخصيات التي تعاملت معها وتفاعلت خلال أجيال متعاقبة في كل مدينة. جزء من المكتبة والصحيفة ينتفي من الذاكرة السورية تدريجيا، مع توقّف الحكومة عن طباعة الصحف منذ أزمة كوفيد 19، إضافة إلى منع الصحف الصادرة في لبنان أو الخليج أو القاهرة من دخول الأراضي السورية منذ عام 2011. وساهم تردي الحالة الاقتصادية ما بعد الحرب في صرف روّاد الكتاب الذين يعيشون أزمات معيشية، عن الاهتمام بشراء الكتب، وفي حمل عشرات المكتبات الخاصّة على غلق أبوابها. توقف الصحف أبعد السوريين عن الورقي، وغلاء الكتب والحصار الاقتصادي رفع من ثمن الكتاب، مما جعل مشاريع عمرها خمسون سنة تنهار وحمل أصحاب المكتبات على البحث عن مشاريع اقتصادية أخرى. ولعلّ الحسرة الاجتماعية التي رافقت ذلك، كانت أكبر من الحسرة التي رافقت توقف الصحف.

 

الأزمة الاقتصادية

إغلاق المكتبات وضعف حركة البيع، يواكبهما عجز دور النشر السورية عن منافسة الدور الخليجية المدعومة حكوميا، ودور النشر في المغرب العربي التي تستحوذ على جزء كبير من حركة السوق، ودور النشر العربية التي تنشط بشكل كبير في عملية التسويق داخل بلادٍ لم تصل فيها حدود خط الفقر إلى المستويات التي بلغتها في سوريا ولبنان ومصر أيضا. الانهيار الاقتصادي يُغيّر استراتيجيّات خطوط إمداد دور النشر وقدراتها. في سوريا تنهار العلاقة بين دور النشر والمجتمع المحلي، لارتفاع أجور المترجمين والكتّاب المرتبطين بالحركة الثقافية لدول الخليج التي تبدو أكثر نشاطا ودقّة وجمالية ومواكبة للعالم أيضا، أو بالمؤسسات المدعومة من منظمات ثقافية أو حكومات، إضافة إلى التكلفة العالية لطباعة الكتاب. فتكلفة أي كتاب مطبوع في سوريا تساوي دون شك راتب موظّف حكومي سوري تقريبا، مما يجعل دور النشر السورية تنكفئ عن بيع الكتب في الداخل، وتلجأ إلى أسواق خارجية لتأمين أرباح معقولة تجعلها قادرة على الاستمرار في العمل. لا تسود في سوريا ثقافة الكتاب المحلي، فالروائي والمفكّر والمترجم، لن يلجأ الى طباعة كتاب في دور سورية، لأنها لا تعطي مقابلا ماليا مُجزيا، بالمقارنة مع دور نشر عربية، لبنانية أو خليجية. حتى المترجمون السوريون يلجأون إلى دور نشر خارج سوريا لاختلاف ثقافة الأجور بين الدور السورية وغيرها، مما يجعل السوق السورية بلا غاية أو هدف ثقافي، وهي بالكاد تملك هدفا أو استراتيجية. يمكن الشك في استحقاق فكرة دور النشر لدعم الثقافة، لارتباط المسألة بآليات السوق التجارية، وينسحب هذا على المكتبات التجارية أيضا، التي أصبحت مضطرة إلى اللجوء الى أسواق القرصنة ومطبوعاتها، لتأمين زبون محتمل للكتاب. يحاول مديرو دور النشر السوريون الحفاظ على سعر التكلفة أثناء بيع الكتب في الداخل السوري، أما اعتمادهم على الأرباح فيكون في المعارض التي تُقام خارج سوريا، مستفيدين من فروقات سعر الصرف. يبدو هذا صحيحا بالمقارنة بين بعض الكتب المقرصنة وكتب بعض دور النشر السورية، كدار "الحوار"، ودار "تكوين"، إذ تُباع بعض الكتب المقرصنة للدارين بالسعر نفسه المعروض في دور النشر. حتى الكُتب المقرصنة لم تعد بسعر مناسب للقارئ. الحصار الاقتصادي على سوريا، وإدراج الحكومة السورية للورق والحبر ومستلزمات الطباعة ضمن الكماليات المستوردة الخاضعة لضرائب عالية، جعلا سعر الكتاب المقرصن (ورقيا) مرتفعا أيضا، لارتفاع ثمن الورق والغلف ولوازم الطابعات. لكن يبقى المقرصَن هو السائد، لأنه يواكب حركة النشر في الخارج ويسارع الى نقلها للمطبوع. 

Getty Images
معرض ادلب للكتاب 2022

اضطرت المكتبات العريقة في سوريا، التي تعاملت لوقت طويل مع دور النشر مباشرة، إلى التعاطي مع مقرصنين يملكون آليات حديثة للطباعة، ففقدت المكتبات السورية صلتها بدور النشر، وبات السوق الداخلي في وضع مريب اقتصاديا بالنسبة إلى دور النشر والمكتبات في الآن نفسه. متطلبات السوق أحيانا لا تكتفي بما يُطبع في الدور السورية، مما يحوّل راغبي القراءة إلى مطبوعات عربية معاصرة لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال الكتاب المقرصَن.

 

المكتبات الخاصة

هناك جانب خفي من تاريخ المكتبة الإنسانية الخاصة للسوريين، هو جانب تدميري يقع ما بين الذاتي والاجتماعي، حيث تُدمّر المكتبات الخاصة أمام الحاجة، وهي مكتبات الأفراد الذين جمعوا الكتب وقرأوها، ولم يتداولوا ثقافة يوميّة في الكتابة أو العمل في المكتوب الثقافي أو حتى السياسي. وليس صحيحا أنهم لم يحاولوا أن يتفاعلوا بقدراتهم ووعيهم ضمن الاجتماعي والسياسي، لكنهم حُرموا أو خُوّفوا من ذلك. هؤلاء تحديدا هم مثقّفو الهامش الذين تضمّنت حياتهم انشغالات العمل والحياة، وكان القمع جزءا من إسكات تفاعلهم ومن حيواتهم وأدّى الى عزلهم. مئات الكبار في السنّ من الرجال والنساء ممّن امتلكوا مكتبات كبيرة ومتنوّعة، بين الثقافة والسياسة والأدب، تناثرت كتبُهم في الحرب، بعدما تركوا بيوتهم أو هُجّروا منها. الجزء الذي لم يحترق من كتبهم، بيع في الأسواق بدم بارد على أيدي لصوص الحرب والباحثين بين أشلائها. في المدن التي سلمت من الحرب، وفي أسواق الكتاب الشعبية، تناثرت كتبٌ هلك أصحابها قهرا لخروجهم من بيوتهم دون الكتب، واندثرت في الحرب دون أي قدرة على إنقاذها. آخرون يحاولون اللجوء إلى المكتبات التجارية لبيع كتبهم، أو إلى شباب يسوّقون تلك الكتب إلكترونيا. هناك كتب نادرة جمعها أصحابها بشق الأنفُس، تندرج حاليا ضمن التسويق الإلكتروني الذي يضمن حصول أصحابها على بعض المال لتأمين مستلزماتهم، وأحيانا يبيعونها من أجل الطعام أو الدواء. هذا الانهيار في المكتبة الخاصة يمكن رصده بالشكل الهائل والمهين من خلال ظهور أسماء أصحاب المكتبات على الصفحات الأولى من الكتب المبيعة. شيءٌ من الحرب يمكن اقتفاؤه في الكتب القديمة المنتشرة على البسطات، وبين الأرصفة، وفي الأزقّة القديمة في كامل المدن السورية. انهيار المكتبة التجارية رافقه صعود الكتاب في الشوارع، وعلى ظهور الأكشاك، ورفوف الخشب القديمة في الشوارع. لم يعد الكتاب في سوريا يستأهل متجرا، بل يكتفي في أن يعيش وينتقّل بين الشوارع. تقوم العلاقة مع الكتاب بين الشباب وكبار السنّ من خلال حوار صامت خفي قد يقوده رجل يبيع الكتب المستعملة والقديمة. بائع الكتب في الشارع يقف صلة وصلٍ بين مكتباتٍ ضربتها الحرب أو الفاقة.

جيلا بعد جيل، رسمت المكتبات مستقبل وعي السوريين وصلتهم بالعالم، أضف إلى ذلك المتعة والتسلية، وأنشأت دون شك شكلا من أشكال تفاعلاتهم الواعية والخفية

الكثير من الكتب القيّمة تصل إلى الأجيال السورية القارئة عبر وسيط بائع لا يملك ثقافة الكتاب أو توجيهه، فهو يشتريه من سارق كتب، أو من جامع بضائع وأشياء مستعملة. بعض المكتبات العريقة التجارية ترفض وضع الكتب المستعملة مع الكتب الجديدة، فيأخذ الحصة الكبرى بائع الشارع، أو شاب متعاطف مع كبار السنّ المثقّفين فيحاول أن يحصل على أفضل سعر عبر الإنترنت. ذلك أن الحصول على كتاب مستعمل قد يفي بالغرض، مقارنة بسعره الحالي. فمجموعات فرويد وهيغل وماركس، أو "تاريخ العرب قبل الإسلام" لجواد علي، أو حتى كتب نجيب محفوظ، أو نسخة من دون كيشوت لسرفانتس بطبعة قديمة، وجميع مطبوعات الدور اللبنانية حافظت على أسعارها وفق الدولار، لكن فارق سعر الصرف الحالي وقيمة الليرة السورية قد يجعلان الجواب مفهوما، في شرح سبب أن الكتاب المستعمل مرغوب إلى هذا الحدّ. فمجموعة فرويد المستعملة تُباع بنحو خمسة عشر دولار، أي بما يعادل سعر كتابين من المجموعة في الطبعة الجديدة. ولا يمكن حصر الكنوز الثقافية من الكتب الورقية التي يمكن إيجادها في الشوارع السورية وأسواق الكتب، لكن هذا يتم بشكل جريمة مستترة، لذوي الحاجة في بيع كتبهم برخص من أجل بعض الحياة. 

AFP
مكتبة "النوري" في دمشق

بعض مسوّقي الكتب بدأوا بإنشاء علاقة مع باعة الكتب المستعملة. رواد الإنترنت باتوا مثل الذين يسيرون في الشارع، يلتقطون كتابا معروضا عبر الإنترنت، ويحجزونه ويرسلون النقود والكتب عبر المحافظات. الكثير من سوريّي الخارج يستغلّون هذا الواقع لاقتناء كميات كبيرة من الكتب، بأسعار ستكون زهيدة مهما ارتفعت بالنسبة إلى دخلهم. من يبيع كتب مكتبته الخاصّة هو الخاسر دوما، وتحطّم المكتبات الخاصة الإنسانية أشبه بجريمة منظمة، لأن المكتبة لم تعد تُخضع الإنسان لمعيار ثقافي ذاتي وتفاعلي وحواري مع صاحب الكتاب، أو حتى لمعنى روحي ووجداني، بل لقانون السوق والعيش، قانون يكون فيه بيع كل شيء فني أو ثقافي ذي قيمة معنويّة متاحا. يمكن تأمّل هذا كأنّه شيء من نكران الذات والقهر الذي يعانيه المثقّفون أصحاب المكتبات وهم ينزعون ملاحظاتهم وأسماءهم عن الكتب المُراد بيعها، حتى الأسماء والذكريات التي قد تحصل عليها حينما تشتري كتابا مستعملا، تاريخ القهر السوري يتشكّل مع كل شيء، وحوله، والكتاب المستعمل يحمل أحد أكثر أنواع القهر المتداولة حاليا والتي يمكن التمعّن فيها وبشخصيّات امتلكتها في وقت سابق. الحرب والفقر حطّما الذات السورية ورغباتها في تشكيل معنى روحي وذاكرة متوارثة على مستوى مكتبة، أو حتى ثقافة الكتاب بحدّ ذاتها.

 

من سيبني مكتبة في سوريا؟

أصبح القارئ والمثقف والراغب في قراءة كتاب في أزمة، وفكرة إنشاء مكتبة باتت أمرا قديما، فكرة مستحيلة آتية من الماضي، فلا يمكن مقارنة المعروض من كتب في معرض كتاب القاهرة والرياض، بما يمكن الحصول عليه داخل سوريا. دور النشر في سوريا في صراع يومي مع مقرصني الكتاب. تطوّرت في العشر سنين الأخيرة المواضيع التفصيلية، والنظرة الجمالية والفلسفية في الكتب المطبوعة عربيا، أما في سوريا فجلّ الكتب المرغوبة أدبي روائي، أما الكتب المعرفية أو الفكرية فلم تعد تلقى رواجا باستثناء بعض الأساسيات الكلاسيكية. حتى الكتب التي تخصّ سوريا، تاريخا وسياسة، لا تُطبع من خلال دور نشرها. هناك عزوف عن أي كتاب معرفي أو سياسي، فالانغلاق السياسي والاجتماعي للبلاد يجعل الشباب ينفرون من السياسة وآلامها أو من التدخّل في مصائر بلادهم ذاتها، فتغدو الثقافة شأنا فرديا، ينعزل عن العمومي والاهتمام فيه. 

Getty Images
الشيخ عبد الخالق شامية بائع كتب في إدلب

يعيش السوري في حالة مقاومة لأيّ مراكمة، فالحرب التي دمرت البيوت والأشياء والمقتنيات والبشر، جعلته بعيدا كل البعد عن الاحتفاظ بالأشياء مهما طغت عليها الصبغة المعنوية. لا ترتبط المكتبة بالزينة فقط. المكتبة حقيقة. هي الهامش الذي تتّصل فيه الذات بالأشياء المحبّبة. هي الشعور باكتناز روحي أكثر من كونه صلة بشيء مادي. المكتبة صورة روحية للثقافة وشكل من أشكال الحياة الخاصة للأفراد، أو هي المحاولة الكمية للانخراط في حوار مع العالم، والشكل الدافئ لتوسيع هامش الحياة عبر الفرد القارئ الذي يصنع ثقافته ومكتبته وكأنها حوار مع العالم. ينتفي هذا الحوار في سوريا، فبناء مكتبة مكلف جدا، والشعور بالحفاظ عليها أو تقدير قيمتها يبدو مستحيلا.

تملّصٌ   آخر يملكه السوري ليصل إلى كتاب يقرأه، القراءة الإلكترونية، عبر الكتب المُقرصنة، لكن هذا يقلل أحيانا قيمة الكتاب. تكمن أهمية ثقافة الكتاب الورقي في تحويل كل كتاب إلى قضية تواصليّة، أو مراحل تشاركيّة في الوعي والاكتشاف، سواء في الكتاب المعرفي أو الأدبي. يندرج هذا في المقارنة مع الصالونات الأدبية الممنوعة في سوريا، والمتاحة في دول الخليج ولبنان والأردن. بات جسد الكتاب الجديد والمتاح يفرض تواصلا بشريا، نقاشا وتفاعلا من الممكن أن يحول كل كتاب إلى قضية وحوار واتصال بشري. الكتاب الإلكتروني في سوريا يتّصل بفردية هائلة وخصوصية يتلقّاها المثقف الشاب ضمن مجتمع محدود ونوعي، ولا يمكن اقتفاء حالة ثقافية عامة، باستثناء أن تدعم الدولة السورية عبر مؤسساتها بعض الكتّاب، منهم ممثلون مشهورون مثلا، أكثر مما يكون أصحاب الكتب كُتّابا أُصلاء يستحوذون شهرة من كتاباتهم. 

 بعض مسوّقي الكتب بدأوا بإنشاء علاقة مع باعة الكتب المستعملة، رواد الإنترنت باتوا مثل الذين يسيرون في الشارع، يلتقطون كتابا معروضا عبر الإنترنت، ويحجزونه ويرسلون النقود والكتب عبر المحافظات

ثورة الـ pdf عبر الأجهزة اللوحية هي خاصية في دول العالم الثالث، لأنها الملجأ الموارب الوحيد لتحصيل ثقافة تقيم حوارا مع العالم. في دولة مثل سوريا لا قيمة فيها لأي تفاعل ثقافي أو منتج أثري عمراني، أو للعاملين في الشأن الثقافي، تنمو ثقافة الجهاز اللوحي الخاص لتأمين خيارات معرفيّة ثقافية. برامج تنسيق الكتب الإلكترونية تدفع أيضا الكتاب الإلكتروني لجعله جسدا، وتراعي العينين بجعل القارئ بخيارات كثيرة لتأمين حماية عينيه، أو أن تحفظ المكان الذي توقفت فيه عن القراءة. المكتبة عائق في مرحلة ما بعد الحداثة، الخفّة وسهولة النقل، كل هذه المصطلحات هي لما بعد الحداثة، فإن كانت الحداثة سرعة، فإن ما بعد الحداثة رفاهية السرعة واختصارها الفيزيائي والمكاني. 

 

أين ستجد كتابا؟

يعود الكتاب في رحلته السورية إلى أكثر الأشكال بدائيّة، وتقتصر صلة كل جيل بجيل آخر على شخص يبيع مكتبته بسبب العوز، وعلى شاب مندفع للقراءة يبحث عن سعر يناسب أيضا أحواله المعيشية المتردّية. تتوارث الأجيال السورية الحالية فقر مثقّفيها وعوزهم، والأجيال الشابة تصنع مكتبات صغيرة لأنها تريد أن تخرج من هذه البلاد فقط. سوق الكتب لا يزال رائجا، ودراما نهاية المكتبات التجارية ليست الهمّ الرئيس، بل الألم الإنساني السوري وهو يبحث عن معرفة متاحة تجعله متوازنا وفعالا في العالم. رثاء إغلاق المكتبات قد يكون بديهيا، لكنه ينطوي على مبالغة، لأن الكتاب سيظلّ ينمو ويتملّص من أي عنف أو منع، أما الغاية الاجتماعية والمعرفية للثقافة فهي التي انهارت وبات يصعب إنقاذها. الإيجابية الوحيدة في سوريا هي أن الكتاب يوارب بالقرصنة، أو بالوقوع بين أيدي باعةٍ بعضهم لا يعرف القراءة أو الكتابة. الكتاب ينجو دوما، وحيدا ليصل إلى قرائه ومتابعيه، إلى المواهب التي تبحث وتكتب وتتأمل. العودة الى الحائط والكهف ليست مشكلة. النحيب الحقيقي على ثقافة عامة وغايتها. سيكون للكتاب في سوريا وقت طويل خفي ومُجاهد لكنه لن ينتفي، ولو اصطف خلفه حزنا وفقرا وحربا.

font change

مقالات ذات صلة