العراق هذه المرة... المشهد كما رأيته

تفاعلات إقليمية وانفتاح عربي

Shutterstock
Shutterstock

العراق هذه المرة... المشهد كما رأيته

وصلت بغداد في الثالث من مايو/أيار 2023 تلبية لدعوة من مؤسسة "الشرق الأوسط للبحوث" (ميري)، ومركز "النهرين للدراسات الاستراتيجية"، وذلك للمشاركة في جلسات منتدى العراق. وكانت لنا جلسة خاصة وصريحة نحن ومجموعة من الخبراء الدوليين مع دولة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني.

امتدت هذه الجلسة لوقت طويل، كان الحديث فيها شفافا وصريحا، تناول توجهات الحكومة العراقية ومساراتها في المرحلة المقبلة، كالإصلاح السياسي والاقتصادي والوضع الأمني، وقضايا محاربة الفساد، ومسألة التسييس في مؤسسات الدولة العراقية، وتنظيم العلاقة بين الحكومة المركزية وأربيل وفق الدستور، والاتفاق الأخير بين الطرفين، وتفعيل التعاون الاقتصادي مع دول المنطقة؛ ذلك أن تقاطع المصالح الاقتصادية وتشابكها بين دول المنطقة قد ينعكس إيجابا على الوضع الداخلي العراقي.

تحدثنا أيضا عن الاتفاق السعودي الإيراني والدور العراقي في الحوار بين البلدين وإنجاز هذا الاتفاق، وسعي العراق لإقامة مركز تنسيق ثلاثي بين الرياض وبغداد وطهران، وذلك من أجل ضمان استقرار العراق ومصلحة المنطقة.

بعد انتهاء فعاليات المنتدى والذي استمر أياما عدّة، وجدتها فرصة وأنا في "أرض السواد" لأتجول في بغداد وضواحيها لرؤية معالمها: بلاد الرافدين الباحثة عن العدل منذ ملحمة الملك السومري الأسطوري جلجامش حتى يومنا هذا؛ فقررت أن تكون أولى زياراتي لمنطقة الكاظمية في بغداد. كان الصبح مشمسا وصوت فؤاد سالم وهو يغني رائعة السياب (غريب على الخليج) يرنّ في أذني، خصوصا ذلك المقطع الذي يقول فيه:

الشمس أجمل في بلادي من سواها

والظلام... حتى الظلام هناك أجمل

فهو يحتضن العراق.

حين فرغت من زيارة منطقة الكاظمية بجانب حي الكرخ، الذي يقع على الجانب الغربي لنهر دجلة، قطعت جسر الأئمة مشيا صوب جامع الإمام الأعظم أو جامع أبو حنيفة النعمان (توفي 150ه)، القريب من حي الرصافة، الواقع في الجانب الشرقي لنهر دجلة، الذي كان له أثره الملحوظ في اختلاف ثقافة أهل هذين الحيين نتيجة وقوعه بينهما، إذ إن غالبية القاطنين من الرحل في الكرخ كانوا من شبه الجزيرة العربية، من وسطها تحديدا، في حين أن غالبية القاطنين في حي الرصافة من الرحل كانوا من أهل الشمال والشرق من العجم.

اكتفيت صباح يوم السبت بهاتين الزيارتين. في أثناء سيري هناك كان تأمل حال بغداد هو ما يسيطر علي، كانت الصور التي تتداعى من الذاكرة والصورة الشاخصة أمامي تذكرني بمصطفى جمال الدين (توفي 1996 م) وهو يقول:

بغداد ما اشتبكت عليك الأعصرُ

إلا ذوت ووريق عمركِ أخضرُ

مرّت بكِ الدنيا وصبحكِ مشمسٌ

ودجت عليك ووجه ليلكِ مقمرُ.

Hesham Alghannam
منطقة الكاظمية بجانب حي الكرخ، الذي يقع على الجانب الغربي لنهر دجلة

كانت هذه الأبيات تتردد في داخلي وأنا أنحدر مساء ذلك اليوم من فندق بابل صوب مطعم البغدادي في شارع أبو نواس، كانت المدينة شاخصة أمامي وأبيات جمال الدين تتردد سائرة معي في شوارعها وأزقتها. تأملت المكان ووجوه الناس التي تعطي للرائي انطباعا بوجود الأمل، على الرغم من مظاهر السلاح المنفلت، وأن هناك نورا مشعا ومستقبلا أفضل من ماضيهم ينتظرهم في نهاية النفق.

غالبية القاطنين من الرحل في الكرخ كانوا من شبه الجزيرة العربية، من وسطها تحديدا، في حين أن غالبية القاطنين في حي الرصافة من الرحل كانوا من أهل الشمال والشرق من العجم

وصلت إلى المطعم وتذوقت السمك المسكوف والمشوي على حطب السدر، والذي يقُدّم مع خبز ساخن، يتبعه الشاي المهيّل، كادت الصورة المتخيلة عن بغداد تتطابق مع الواقع الشاخص أمامي، غير أن اشتباك الأعصر على هذه المدينة أحدث أثره فيها. إلا أن رؤيتي لابتسامات البغداديين وسماعي لأحاديثهم في الشوارع في طريق العودة إلى الفندق كان له وقع في تخفيف حدة الاختلاف بين الصورتين.

وفي عصر اليوم التالي زرت مركز "رواق بغداد للسياسات العامة" (تأسس 2019) في العرصات بالكرادة وسط بغداد، والتقيت برئيسه عباس العنبوري مستشار لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب العراقي، والذي أخذنا في جولةٍ في الرواق وقاعة التدريب والمكتبة الحديثة، وأطلعنا على الأنشطة والفعاليات التي قام بها المركز، والشراكات التي عقدها مع مؤسسات ومراكز البحث الأجنبية، والبرامج التي يقيمها للشباب العراقي، واهتمامه بقضايا قد تكون حساسة في مجتمع مثل المجتمع العراقي، كقضايا الشباب والتطرف وتمكين المرأة.

ثم ذهبنا بعد ذلك إلى منطقة الجادرية لزيارة مركز "البيان للدراسات والتخطيط" (تأسس 2014) والتقينا بمديره التنفيذي علي طاهر الحمود أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة بغداد، حيث أطلعنا على مشاريع المركز المقامة أخيرا، ومنها مشروع (دبلوماسية مراكز الأبحاث) والذي طرحه المركز أخيرا ويهدف إلى استضافة باحثين في العراق من المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية، وذلك لبحث انعكاس الاتفاق السعودي الإيراني على العراق، ودوره في تثبيت هذا الاتفاق من خلال التنسيق مع الطرفين سياسيا واقتصاديا وأمنيا. وتمّ خلال الزيارتين مناقشة إمكانية التعاون مع هذه المراكز خلال الفترة المقبلة.

بعد أن انتهت زياراتي ليوم الأحد قصدت منطقة المنصور جانب الكرخ ببغداد، وتناولت العشاء في واحد من مطاعم "كاكا صمد" (مؤسس مجموعة مطاعم صمد)، ولعلي أتطرق هنا إلى قصة "كاكا صمد" أحد بسطاء الناس، الذي بدأ مشواره في سبعينات القرن الماضي كعامل في مطعم شعبي بمدينة كركوك شمالي العراق، وباجتهاده وحبه لما يقوم به شاع صيته في العراق فاتجه للعمل في العاصمة بغداد، ومن ثم شق طريقه وحيدا ساعيا نحو تحقيق حلمه بامتلاك مطعمه الخاص، وبالفعل تمكن من تحقيق حلمه وامتلاكه مجموعة مطاعم.

Hesham Alghannam
كلية الإمام الأعظم في جامع الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان في بغداد

مما يلفت الانتباه في قصته هذه، أنه وأثناء الفترة العصيبة والممتدة من 1990 إلى 2003 وما صاحبتها من أحداث مثل: الحصار الدولي ضد العراق، والعقوبات الاقتصادية، وغيرها، وما نتج عن هذه الأحداث من وضع مأساوي في العراق، إلا أن كثيرا من العراقيين الذين لا علاقة لهم مباشرة بالسياسة لم يجعلوا ما وقع على بلدهم ككل وعليهم كأفراد ينهي آمالهم ويحطم أحلامهم.

هناك كثير من الأبطال البسطاء مجهولي الهوية وبلا وجوه بالنسبة إلينا، الذين كانت لهم قصصهم البطولية الخاصة بهم وانتصاراتهم والتي لا يعرفها الناس، على الرغم من كونها تستحق الإشارة إليها، فتاريخ الأمم لا تصنعه الأحداث أو الأزمات السياسية الكبرى فقط.

هناك كثير من الأبطال البسطاء مجهولي الهوية وبلا وجوه بالنسبة إلينا، الذين كانت لهم قصصهم البطولية الخاصة بهم وانتصاراتهم التي لا يعرفها الناس، على الرغم من كونها تستحق الإشارة إليها، فتاريخ الأمم لا تصنعه الأحداث أو الأزمات السياسية الكبرى فقط

وقبل عودتنا إلى فندق بابل، في انتظار زيارة جامعة بغداد الأم، مجمع الجادرية (تأسس أواخر خمسينات القرن الماضي)، والذي يضم مجموعة من الكليات، مثل: كلية الهندسة، وكلية العلوم، وكلية العلوم السياسية، وكلية الإعلام، التقينا بعميد كلية العلوم السياسية عادل بديوي، والذي أخذنا في جولة في أروقة الكلية والقاعات الدراسية، وشاهدنا الطلاب والطالبات وهم يؤدون امتحاناتهم النهائية في غرف ومبانٍ مرت عليها عقود بلا تجديد، كما أطلعنا عميد الكلية على برامج الكلية وأهدافها المنشودة، بالرغم من ضعف الإمكانات، في المرحلة المقبلة.

ثم انتقلت لزيارة جامعة النهرين، التي تأسست عام 1987 تحت اسم جامعة صدام، قبل أن يتم تغيير اسمها إلى جامعة النهرين عام 2003. كان الهدف الرئيس من إنشاء هذه الجامعة ولا يزال، يتمثل في جعل الدولة العراقية رائدة في مجال البحث والابتكار، ومواكِبة للتقدم التقني المعاصر من خلال إعداد كفاءات وطنية علمية قادرة على اللحاق بركب حركة التطور، والأخذ بيد العراق إلى الازدهار.

التقيت هناك بعميد كلية العلوم السياسية علي فارس، والذي أخذنا إلى باحة الكلية، ثم قاعة حضارات النهرين لحضور مناقشة رسالة ماجستير في الفلسفة السياسية؛ مستوى آخر من النقاش يختلف عن لسان حال وواقع السياسة في بلد يحاول النهوض من كبوته.

Hesham Alghannam
كورنيش أبو نواس على نهر دجلة الذي يعد من أهم الوجهات السياحية في بغداد بعد تحديثه ضمن المعايير العالمية

في ختام الزيارتين، تبادلنا مع عميدي الكليتين وجهات النظر حول إمكانية التعاون بيننا وبين كلية العلوم السياسية على مستوى المؤتمرات والباحثين، والإشراف على طلبة الدراسات العليا وتبادل الزيارات، وإلقاء محاضرات في الرياض أو بغداد حول مواضيع قد تكون ذات اهتمام مشترك بين الطرفين، واتفقنا على جملة من المقترحات ستأخذ طريقها للتنفيذ والمتابعة.

بعد هاتين الزيارتين، تناولنا الغداء مع رفيقي البغدادي في مطعم مطل على دجلة الخير، حيث يشعر الرائي بتردد صوت الجواهري على الضفتين مرددا تحياته وأمنياته، وما تتسبب به هذه الأمنيات من ثقل في القلب بخاصة أنه يومنا قبل الأخير. كانت الصورة المتخيلة لبغداد تتطابق مع صورة حقيقية تغدو أكثر إشراقا كل يوم مع تعدد الزيارات وكرم الضيافة، حيث يغدو التنقل في شوارعها رديف تذكّر قصائد الجواهري، والسياب، ومصطفى جمال الدين، وعبد الرزاق عبد الواحد. فالمدينة طابعها الصبر وحب الحياة والابتسامة والترحاب التي نقابل بها كلما زرنا مكانا، وكانت كفيلة بإشراق الصورة أكثر.

في اليوم الأخير، التقيت مستشار رئيس الوزراء العراقي للسياسات الأمنية خالد اليعقوبي في قصر الزقورة، وهو عضو لجنة التنسيق الأمني والسياسي بين الرياض وبغداد، والمشرف على ملف إصلاح المؤسسات الأمنية في العراق. دار الحديث بيننا حول مستقبل التنمية في المنطقة العربية، والآفاق والفرص التي تقدمها رؤية المملكة 2030 لبناء اقتصاد المنطقة ككل. كما ناقشنا جدوى تقديم الخبرات والمشورة من خلال مراكز الأبحاث والدراسات وإمكانات التعاون في المستقبل المنظور.

Hesham Alghannam
جدارية على حائط أمني لمدخل جهاز مكافحة الإرهاب بالمنطقة الخضراء في وسط بغداد

كما كانت لي زيارة لجهاز مكافحة الإرهاب، الذي يعتبر أحد أكفأ الأجهزة الأمنية على مستوى المنطقة والعالم، والذي يعود تأسيسه لعام 2007، إذ كان له دور بارز في عمليات تحرير المناطق التي احتلها تنظيم داعش، وكان في استقبالنا رئيس جهاز مكافحة الإرهاب الفريق أول ركن عبد الوهاب الساعدي، الذي رحب بنا واستقبلنا استقبالا حارا. يعد عبد الوهاب الساعدي أحد القيادات ذائعة الصيت في جمهورية العراق، اشتهر بقدراته القيادية. شغل منصب نائب قائد جهاز مكافحة الإرهاب عام 2014، وقاد سلسلة من العمليات الناجحة ضد تنظيم داعش الإرهابي، والتي مكّنته من تحرير محافظات عدّة.

جهاز مكافحة الإرهاب، أحد أكفأ الأجهزة الأمنية على مستوى المنطقة والعالم، ويعود تأسيسه لعام 2007، إذ كان له دور بارز في عمليات تحرير المناطق التي احتلها تنظيم داعش

وعلى الرغم من نجاحاته، إلا أنه تم نقله عام 2019 للعمل في وزارة الدفاع بقرار من رئيس الحكومة آنذاك، من دون ذكر أسباب حول هذا الموضوع. يذكر البعض أن هناك أياديَ أجنبية خفية تقف خلف قرار النقل، موجّها أصابع الاتهام نحو إيران. قوبل هذا القرار بمظاهرات شعبية مطالبة بإعادته إلى منصبه.

وهذا ما حدث، ففي فترة حكومة مصطفى الكاظمي وتحديدا عام 2020، عُيّن الساعدي رئيسا لجهاز مكافحة الإرهاب، واستمر في هذا المنصب حتى وقتنا الحاضر. واقترحنا إمكانية عقد مؤتمر علمي ومساهمة محتملة له حول موضوع مكافحة النشاط الإرهابي.

العراق والرغبة الملحة في الانفتاح

في طريق عودتنا، وبعد رحلة تركت داخلي أثرا إيجابيا كبيرا عن العراق؛ فليس من رأى كمن سمع وليس من شاهد كمن قرأ، بدأت تستحضرني بعض الأحداث التي كنت أرى فيها رغبة ملحة من العراق في الانفتاح نحو العالم العربي.

وقد أستشهد بالعلاقات السعودية العراقية كمثال على هذه الرغبة العراقية، ففي الفترة الحالية تشهد العلاقات بين البلدين، بخلاف الماضي القريب، زخما إيجابيا وانفتاحا كبيرا في كثير من المجالات الأمنية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية. ومن صور هذا الانفتاح والزخم الكبير في العلاقات السعودية العراقية، الجهود العراقية الكبيرة في الوساطة بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية وترتيبها واستضافتها لخمس جولات من المباحثات، والتي كانت شرارة توقيع الاتفاق في الصين، وأثمرت بعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

Hesham Alghannam
إحدى اللوحات في قاعة كبار الزوار بمطار بغداد

ولعلي أستدل بتصريح المستشار المالي لرئيس مجلس الوزراء، مظهر محمد صالح بأن: المملكة العربية السعودية والعراق يلتقيان بمشتركات قوية في بناء الاقتصاد السياسي للسلام، قد تختلف قليلا عن البلدان المحيطة الأخرى، لا سيما أن البلدين مركزان مهمان للعالم الإسلامي ويجمعهما إضافة إلى أهمية المشترك الديني، ثقافة اللغة والجوار والترابط العشائري أو القرابة في مفاصل كثيرة.

وأيضا قوله: "إن المملكة تستطيع بحكم علاقاتها الاقتصادية بأسواق العالم (كونها ضمن مجموعة العشرين الأقوى اقتصاديا) أن تفتح آفاقا واسعة لنمو الاقتصاد العراقي، فضلا عن أهمية المملكة استراتيجيا وإطلالاتها البحرية القوية بين الخليج والبحر والأحمر، مما يساعد على تعظيم فرص النجاح اللوجستية للاقتصاديين معا"، مشيرا إلى أن نجاح العلاقات الاقتصادية بين المملكة والعراق سيؤدي بلا أي شك إلى نجاحات جمة في جميع مسارات التعاون الأخرى بين البلدين.

الدور السعودي في الانفتاح

أدركت المملكة العربية السعودية رغبة العراق الجامحة نحو الانفتاح على محيطه وعمقه العربي، وعلى الرغم من افتقار العراق بوضعه الحالي لإمكانات أساسية، قامت المملكة تأكيدا للعلاقات التاريخية المتينة وأواصر الإخاء والدم والنسب الضاربة في عمق التاريخ بينهما بتقديم العون للعراق، فأسستْ "مجلس التنسيق السعودي العراقي"، والذي يهدف إلى تعزيز التواصل وتنمية العلاقات الثنائية، وإزالة جميع معوقات الاستثمار بين البلدين.

كما عملتْ على تدشين مشروع الربط الكهربائي بين المملكة العربية السعودية والعراق، والذي سيغذي العراق بنحو 500 ميغاواط من الطاقة تقريبا، بهدف تنويع مصادر الطاقة العراقية، وسد حاجته من الكهرباء.

إضافة إلى تأسيسْ صندوق سعودي-عراقي مشترك، يقدر رأس ماله بثلاثة مليارات دولار، بهدف تعظيم وتشجيع الاستثمار الأجنبي في العراق.

المملكة يمكنها بحكم علاقاتها الاقتصادية بأسواق العالم أن تفتح آفاقا واسعة لنمو الاقتصاد العراقي، فضلا عن أهمية المملكة استراتيجيا وإطلالاتها البحرية القوية بين الخليج والبحر والأحمر

ولعلي استذكر هنا تصريح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لأحد الوفود الرئاسية للحكومة العراقية في إحدى زياراتها للمملكة العربية السعودية. حيث قال: "أنا ووزرائي مستشارون عندك. وعندي استعداد لأن أستثمر في العراق من المليار إلى المئة مليار".

هذا التصريح يمثل موقف المملكة في مؤازرة العراق للنهوض على قدميه في مواجهة التحديات التي تعصف به. ويعتبر كذلك دعوة صريحة من جانب المملكة العربية السعودية لبناء جسور الثقة مع الحكومة العراقية، وتوفير بديل وشريك استراتيجي معتبر للحكومة العراقية.

الجانب الاقتصادي

يمكن القول إن المملكة العربية السعودية اعتمدت في علاقاتها الاقتصادية مع العراق على مبدأ "تمكين الشعب العراقي اقتصاديا"، وهو مبدأ ينطلق من فكرة أن الازدهار والتقدم الاقتصادي للعراق يعززان من استقراره واستقلاله السياسي ومن فرص السلام والأمن في المنطقة، وهو ما يخدم شعوب المنطقة جميعها.

للعراق بالتأكيد علاقات اقتصادية مع دول أخرى عديده في العالم، لكنه لا يستطيع تجاهل السوق الخليجية والسعودية خصوصا، وما توفره هذه السوق من فرص للاستثمار والتبادل التجاري تساعده في مسعاه لتحقيق اقتصاد مزدهر.

الجانب الدبلوماسي

وكما كان للطابع الاقتصادي ثقله في العلاقات السعودية العراقية، فإن هناك دورا كبيرا للدبلوماسية السعودية في إحياء العلاقات السعودية العراقية، فبعد نحو ربع قرن من توتر العلاقات بين البلدين، وبعد الانسحاب الاختياري أو الاضطراري للمملكة من العراق عام 2003، سعت المملكة وبخطى ثابتة نحو استعادة علاقاتها الدبلوماسية مع جارتها العراق، ووضعها في مسارها الأمثل. فقامت المملكة، ببناء علاقات بنَاءة مع القادة العراقيين الشيعة، أمثال: عمار الحكيم، وحيدر العبادي، ومقتدى الصدر.

ومن ثم عملت على جذب العراق لبناء علاقة دبلوماسية متينة، من خلال وضعها لمجموعة من المحفزات والإغراءات الإيجابية. وكما يبدو ظاهرا، تمكنت المملكة العربية السعودية وبدرجة كبيرة من إعادة بناء علاقاتها الدبلوماسية مع العراق.

لعلي استذكر هنا تصريح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لأحد الوفود الرئاسية للحكومة العراقية في إحدى زياراتها للمملكة العربية السعودية. حيث قال: "أنا ووزرائي مستشارون عندك. وعندي استعداد لأن أستثمر في العراق من المليار إلى المئة مليار".

عوائق تواجه الانفتاح

وبالنظر إلى ما يحققه الانفتاح العراقي على العالم العربي والإقليمي والدولي من مصالح مهمة للعراق، من تحقيق الأمن الوطني، وتعزيز نمو الاقتصاد والاستثمار في العراق، وصولا إلى حصول التنمية الشاملة المستدامة. فإنه وأثناء سعي العراق نحو الانفتاح، قد يكون هناك عائق يقف أمامه يحول دون تحقيق هذا الانفتاح.

يتمثل هذا العائق في وجود النفوذ الأجنبي المضر في العراق، وتبديده لمصالح العراق الوطنية، وضغطه المستمر على صناع القرار العراقي، والتأثير عليهم لوضع سياسات تخدم مصالحه، غير مبالٍ إن كانت هذه السياسات تتوافق مع المصالح العراقية أو تتباين معها.

العراق والمرحة المقبلة

يُعدّ الانفتاح العراقي نحو العالم العربي بداية مرحلة جديدة، تتسم بالسلم وبعيدة كل البعد عن التكفير والصراع الطائفي. سيلاحظ صانع القرار العراقي في هذه المرحلة، أن الانفتاح الخارجي يحتاج منه لموقف داخلي موحد، يعمل من خلاله على توحيد الخطاب السياسي داخليا، ومراعاة هواجس وآراء الفئات المهمشة، والتسامي عن الصغائر وربما بعض الكبائر، فالنظر على طريقة القوم أبناء القوم، وما أشبهَ الليلةَ بالبارحة، واستدعاء التاريخ القريب والبعيد في كل مناسبة لن يصنع مؤسسات دولة حديثة يطمح لها الشعب العراقي كافة، ولن يطمَئِن العرب لعدم انحياز العراق لأي كيان قد يشكل تهديدا أو قلقا لأمنه الإقليمي وأمن جيرانه العرب.

يُعدّ الانفتاح العراقي نحو العالم العربي بداية مرحلة جديدة، تتسم بالسلم وبعيدة كل البعد عن التكفير والصراع الطائفي.

وهذا يقودنا للسياسة الخارجية التي يفترض أن تكون قائمة على مبادئ التوازن، والاحترام، والمصالح المتبادلة، واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية بما يؤمن استقرارها السياسي والاقتصادي. ولو طُبقت هذه المبادئ لرأينا علاقات العراق بجيرانه العرب، خصوصا عمقه الطبيعي، المملكة العربية السعودية، تتخذ مسارا مختلفا ومزدهرا وأكثر مواءمة وملاءمة من الماضي البعيد والقريب.

الخاتمة

يُعدّ العراق أحد الأقطاب الإقليمية في المنطقة قبل الأزمات التي عصفت به، ويسعى الآن للعودة إلى مكانه الطبيعي على الخريطة الإقليمية والدولية، متداركا الأخطاء والعثرات والظروف التي أدت به إلى هذه الحالة، وعلى الرغم مما مرّ به العراق، وما نتج عن هذه الظروف من خسائر بشرية واقتصادية وسياسية، إلا أن هناك رغبة ملحة من الساسة العراقيين في الانفتاح وبناء العلاقات مع العالم العربي والإقليمي والدولي، وللاستفادة من ذلك سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

يُعدّ العراق أحد الأقطاب الإقليمية في المنطقة قبل الأزمات التي عصفت به، ويسعى الآن للعودة إلى مكانه الطبيعي على الخريطة الإقليمية والدولية، متداركا الأخطاء والعثرات والظروف التي أدت به إلى هذه الحالة

وحتى يضمن العراق العمل من دون حصول أي مشكلات تعوق تحقيق هذه الغاية، قامت الحكومة العراقية من خلال تبنيها لسياسة الحياد الإيجابي بالوساطة بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، باستضافتها لخمس جلسات من المحادثات التي كان لها الدور الكبير في إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد انقطاع دام ثماني سنوات.

كان للمملكة العربية السعودية دور ملحوظ في تقديم العون للعراق أثناء رحلته نحو الانفتاح على محيطه من خلال تدخلها الاقتصادي الناعم، إذ سارعت إلى تأسيس مجلس تنسيقي بين البلدين، وتدشين المشاريع الهامة التي تساهم في نهضة العراق، إضافة إلى إنشاء ما من شأنه تعزيز الاستثمار السعودي في العراق، وتمهيد الطريق للمستثمرين الآخرين.

وما دفع المملكة العربية السعودية للقيام بهذا الدور هو الرغبة السعودية في تحقيق الارتقاء بالمنطقة ككل، وبخاصة الجيران المهمين كالعراق، وأن تكون نقطة جذب للاستثمارات والمبادرات الرائدة في المجالات الحيوية. والعراق دولة أساسية لا تنهض المنطقة من دونها، والمملكة أحرص الكل على هذه النهضة الشاملة بما فيها نهضة العراق وعزته واستقلاله.

تسعى المملكة العربية السعودية للارتقاء بالمنطقة ككل، وبخاصة الجيران المهمين كالعراق، وأن تكون نقطة جذب للاستثمارات والمبادرات الرائدة في المجالات الحيوية

هذه الخطوة العراقية المهمة نحو الانفتاح كان يشوبها بعض المخاوف، والتي تمثلت في النفوذ الأجنبي في العراق الذي يعيق انفتاحه على محيطه العربي والإقليمي والدولي، إذ يمكن لهذه التدخلات المستمرة أن ترجع العراق إلى نقطة الصفر كلما حاول النهوض.

إن ما تقوم به الحكومة العراقية هو خطوة مهمة وتطور إيجابي على مستوى علاقاته الدولية، والعربية منها على نحو خاص. وعلى الرغم من أن البعض في الداخل العراقي لا يؤيد هذه الخطوة ويحاربها لحماية مصالحه الخاصة، إلا أن مصلحة الشعب العراقي أهم وأبقى، وهذا أمر وشأن داخلي تقع على عاتق العراقيين معالجته، لكن وبلا أدنى شك تعكس جملة هذه الخطوات التقريبية توجها حقيقيا واستراتيجيا من المملكة لعودة العراق إلى الحضن العربي بعد سنين عجاف من الغربة.

font change


مقالات ذات صلة