العراق...خريطة الميليشيات والانقسامات

مدنيون أسرى التنظيمات المسلحة وخزّانها

عناصر من الجيش العراقي بعد استعادة بلدة القائم وهي آخر المناطق التي كانت تحت سيطرة "داعش" على الحدود مع سوريا، في 4 نوفمبر 2017 (أ.ف.ب)

العراق...خريطة الميليشيات والانقسامات

في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، استطاعت تنظيمات مسلحة التلاقي عند نقطة الحدود بين مدينتي القائم والبوكمال، بإشراف مباشر على الرض لقائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الإيراني آنذاك قاسم سليماني، بعدما أمضت أشهرا وهي تشق طريقها عبر صحراء العراق وسوريا. وكانت هذه الفصائل نجحت في إلحاق الهزيمة بتنظيم "داعش" في المدينتين، والدفع بالآلاف من مقاتليه إلى شرق الفرات ضمن مناطق عمليات "قوات سوريا الديموقراطية".

كانت لحظة مفصلية في تاريخ المنطقة بعد حروب دامية شهدها كل من العراق وسوريا، تمتد جذورها إلى العام 2003 عقب سقوط النظام العراقي والفوضى العارمة التي تلته.

ميليشيات عراقية ولبنانية وسورية وأفغانية، كانت تقاتل جنبا إلى جنب مع الجيشين العراقي والسوري، وبغطاء غير مباشر من قوات التحالف الدولي في العراق بقيادة أميركا، ومباشر من الطيران والمدفعية الروسيين في سوريا، أسست لوجود دائم في هذه المنطقة الاستراتيجية لتأمين ممر بري خاص، إلى الجنوب من المعبر الحدودي الرسمي، يربط طهران ببيروت عبر بغداد ودمشق، وباتت هذه الميليشيات جزءا لا يتجزأ من المؤسسة الأمنية العراقية والسورية، تتمتع بحصانة كبيرة وموازنات هائلة وارتباط مباشر مع إيران.

للمفارقة، تحيط بهذا المعبر ثلاث قواعد أميركية كبرى، هي: قاعدة حقل العمر شرق الفرات، وعين الأسد في الأنبار، والتنف عند المثلث الحدودي العراقي – السوري - الأردني، بالإضافة إلى قاعدة استخبارات أميركية عند الحدود السورية- الأردنية في منطقة الركبان.

قوات من الجيش العراقي وعناصر من "الحشد الشعبي"، يتقدمون نحو مدينة القائم بالعراق بمحافظة الأنبار الغربية قرب الحدود السورية، حيث يقاتلون الخلايا المتبقية من تنظيم "داعش" في 3 نوفمبر 2017. (أ.ف.ب)

وتعرضت مواقع هذه الميليشيات لضربات جوية عدة خلال الأعوام القليلة الماضية شنّها الطيران الأميركي بعد استهدافها للقواعد الأميركية، كما يعتقد أن جزءا كبيرا من الضربات نفذتها إسرائيل لضرب شحنات أسلحة إيرانية إلى سوريا ولبنان.

لا يقتصر وجود الميليشيات عند هذه المنطقة الحدودية الحساسة في الأنبار، بل يمتد ليشمل محافظات عدة في العراق. مشهدٌ ما كان من الممكن توقع حدوثه، لكنه بات اليوم إحدى حقائق الجغرافيا السياسية الجديدة التي نتجت من "المغامرة الكبرى" التي قام بها أبو بكر البغدادي باستغلاله النقمة السنية ضد نظام الحكم في البلدين، وإعلان إقامة "دولة الخلافة" المزعومة، في منتصف عام 2014 عقب السيطرة على مساحات شاسعة من سوريا والعراق. مغامرةٌ أسست لشقاق مهول، وانتهت بكارثة دفع ثمنها الأكبر المكوّن السني، وحملت المكوّن الشيعي على عدم الركون إلى المؤسسة الأمنية والعسكرية العراقية، أو الثقة بقدرتها على حمايته، وبات معها وجود الميليشيات ضرورة تكاد تكون وجودية لا غنى عنها، بحسب اعتقاد قياديين فيها.

إن فساد "المنظومة" قد دفع الأمور نحو الأسوأ، فحين تشتري هذه المنظومة أمن العراقيين بالابتزاز، فإن المواطن لن يثق بها ولن يعتبر أنها تمثله، بل سيخشاها، وبالتالي سيكون مستعدا للتعاون مع الآخر ليحميه.

حيدر العبادي، رئيس حكومة العراق الأسبق

المالكي... "صدّامنا"

تداعيات كثيرة أعقبت غزو للعراق، أوصلت الأوضاع إلى هذا المنعطف الخطير، منها ما ترتب على القرارات المبكرة التي اتخذها الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، ومنها ما تتحمل مسؤوليته الأحزاب التي حكمت العراق الجديد، فكلاهما صب المزيد من الزيت على نار التطرف الذي لجأ اليه سنّة، بعد تحميلهم مسؤولية دعم النظام السابق.

كانت قوات التحالف قد استطاعت في حلول العام 2008 وضع حد للاقتتال الطائفي، وإلحاق الهزيمة بتنظيم "القاعدة" بمساعدة كبيرة من العشائر السنية التي قبلت الانخراط في ما عُرف حينها بـ"الصحوات"، مقابل إغراءات مادية ووعود بوقف الإجراءات الانتقامية لحكومة نوري المالكي الذي يوصف في المجالس الخاصة للسياسيين العراقيين بـ"صدّام الشيعة".

لكن الأوضاع في الحواضر السنّية لم تشهد أي تحسن ملموس، بل عادت الأمور إلى ما كانت عليه بعد خروج القوات الأميركية العام 2011، ما دفع هذه الحواضر إلى الانتفاض ضد حكومة المالكي، وبدء اعتصام مفتوح قرب الفلوجة.

يقول أمير عشائر الدليم علي حاتم سليمان الذي شارك بقوة في الاعتصامات إن ما جرى كان "ثورة سلمية مشروعة تعبر عما تريده المناطق السنّية التي تُعتبر أكثر من نصف العراق"، وإن المطالب كانت تتلخص في "وقف استخدام القضاء والسلطة والأجهزة الأمنية ضد السنّة".

لكن المالكي، رفض منذ اليوم الأول التعامل مع الاعتصامات كحركة مطلبية، و"كانت مقاربته للأمر طائفية"، بحسب اعتقاد محللين. ويقول المالكي في لقاء أُجري معه لمناسبة ذكرى الغزو إن «المخطط كان أن تسقط حكومة دمشق، وتنتقل بعدها "القاعدة" والمنظمات الإرهابية إلى العراق للالتحام مع المعسكرات التي كانت تنتظرهم في منطقة الجزيرة... ومن ثم إلى ساحات الاعتصام عند الشارع العام المؤدي إلى بغداد لإسقاط النظام، بحركة طائفية كانت تريد أن تقضي على أي وجود للطرف الشيعي في العراق».

عناص من الجيش العراقي و"الحشد الشعبي"، يتقدمون نحو مدينة القائم على حدود سوريا، لقتال "داعش" في 3 نوفمبر 2017. (أ.ف.ب)

هذا الاقتناع دفع المالكي إلى رفض تقديم أي تنازلات للمعتصمين، فاستمر الأمر على هذا النحو حتى نهاية العام 2013، حين أمر الجيش باقتحام ساحات الاعتصام، فيما كان الوضع الأمني في سوريا يزداد تدهورا، إذ كان تنظيم "داعش" قد أعلن ولادته قبل ذلك ببضعة أشهر، وسيطر على مساحات كبيرة من سوريا، وبدأ بالتقدم إلى المناطق الحدودية مع العراق، لتتساقط بعد ذلك ببضعة أشهر مدن ومحافظات عراقية عدة.

الانهيار المرير

 يقول رئيس "الحزب الديموقراطي الكردستاني" مسعود بارزاني إن "انسحاب القوات الأميركية خلف فراغا كبيرا"، وإن "الجيش العراقي لم يؤسس على أساس وطني"، وعلى الرغم من إدراكه هذه الحقائق، إلا أنه يعترف بأن الصدمة كانت مهولة لحظة سقوط مدينة الموصل في يد التنظيم، ويقول إن "داعش لم يكن يستهدف السيطرة على المدينة، وإن خطته (التنظيم) كانت تهدف إلى تحرير معتقلين من سجن بادوش بإشغال القوات الأمنية في المدينة، فكانت الصدمة أن الجيش الذي بناه الناتو في عشر سنوات تبخر في عشر ساعات".

ويؤيد حيدر العبادي الذي خلف المالكي في رئاسة الحكومة وجهة النظر التي تقول إن فساد ما يصفها بـ "المنظومة الأمنية" قد دفع الأمور نحو الأسوأ، ويرى أنه "حين تشتري هذه المنظومة أمن العراقيين بالابتزاز، فإن المواطن لن يثق بها ولن يعتبر أنها تمثله، بل سيخشاها، وبالتالي سيكون مستعدا للتعاون مع الآخر ليحميه".

إحياء ذكرى مجزرة ارتكبها "داعش" في تكريت في 12 يونيو 2014 (غيتي)

بالفعل، رحب سكان حواضر سنّية بما فيها الموصل بسيطرة "داعش" على مناطقهم، خاصة في الأسابيع الأولى، "نتيجة النقمة الكبيرة من سياسات المالكي وأجهزته الأمنية والعسكرية تجاههم، قبل أن يدركوا لاحقا حقيقة التنظيم"، بحسب اعتقاد محللين.

ويرفض المالكي الاتهامات التي وجهت إليه بالمسؤولية عما آلت إليه الأوضاع، ويقول إن "مؤامرة كبرى كانت تحاك مع دول عربية وإقليمية"، وإن "الفشل في إسقاط نظام بشار الأسد هو ما دفع من يقف وراء هذه المؤامرة للجوء إلى الخيار الثاني بتأسيس "داعش" واحتلال المدن العراقية، بعد إعطاء أوامر"، من خلية يقول إنها "تشكلت في كردستان العراق لقادة الفرق العسكرية وآلاف عناصر الشرطة بالانسحاب الكيفي من مواقعهم، ليس في الموصل فحسب وإنما في تكريت وعلى الحدود السورية العراقية أيضا".

وصل الصراع الطائفي حينها إلى ذروة غير مسبوقة في بشاعته، إذ ارتكب التنظيم واحدة من أعنف المجازر في تاريخ العراق المعاصر، خلفت جرحا لن يكون من السهل تضميده. إذ اختطف تنظيم "داعش" المئات من أبنائهم (يقدر العدد بين 1500 و3000) المتدربين في قاعدة "سبايكر" قرب تكريت وهم في طريق عودتهم إلى بغداد، وبث صور قتلهم في إصدار طويل وبطريقة مرعبة، بإطلاق الرصاص عليهم بعد رميهم في حفر جماعية، أو برصاصة في الرأس وإلقاء جثثهم في نهر دجلة.

كانت لحظة فارقة في الوعي العراقي مع إدراكٍ حقيقي لجدية الخطر، خاصة مع معلوماتٍ عن اقتراب مجاميع التنظيم من العاصمة بغداد عبر ديالى وأبو غريب، واحتمال تحرك خلايا نائمة في الأحياء السنية في العاصمة لحظة بدء الهجوم.

يعتبر "جيش المهدي" بقيادة مقتدى الصدر من أوائل التنظيمات المسلحة التي تشكلت عقب الغزو، لإخراج القوات الأميركية والبريطانية من العراق، وكان قوة ضاربة في الحرب التي امتدت لأعوام 

"جهاد كفائي" ضد "جهاديين"

ضمن هذه الظروف، صدرت فتوى غير مسبوقة عن المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني عُرفت باسم فتوى "الجهاد الكفائي" للتصدي لـ "جهاديين سنّة"، وهي فتوى تلزم كل شيعي قادر على حمل السلاح للتطوع والدفاع عن العراق. خلافاً للسنّة، لا يستطيع الشيعي إلا أن يرضخ لفتوى السيستاني التي أدت إلى توافد عشرات الآلاف من الشبان للتطوع في فصائل كانت موجودة بالفعل، قبل أن تتأسس فصائل أخرى وتنخرط لاحقا ضمن "هيئة الحشد الشعبي".

مقتدى الصدر في النجف (أ ف ب)

في خضم الفوضى والرعب من توالي الانهيارات الأمنية، هرعت إيران لنجدة حلفائها في العراق، وفتحت مخازنها من السلاح والذخيرة، وأرسلت مستشاريها الأمنيين وبدأت سريعا العمل على تقوية خطوط الدفاع عن العاصمة مع حلفائها من الميليشيات وفي مقدمتها "منظمة بدر" و"حزب الله" العراقي و"عصائب أهل الحق"، فيما أعلن مقتدى الصدر تغيير اسم تنظيمه من «جيش المهدي» إلى "سرايا السلام"، وتولى مهمة الدفاع عن المزارات في سامراء، التي أدى تفجيرها عام 2006 إلى تعاظم ضراوة حرب طائفية تسببت بمقتل عشرات الآلاف.

يلخص حيدر العبادي الذي تولى رئاسة الوزراء الوضع بالقول إن "الحالة باتت تبدو كأنها معركة طائفية، ما تسبب بمشكلة كبيرة، فهي من طرف "داعش" طائفية وبات يعتبر نفسه دولة، منظومة الدولة هي أيضا تبدو طائفية، فكانت معركة لن يخرج منها أي منتصر"، وهذا ما أدى إلى التوافق على تغيير رئيس الحكومة نوري المالكي بدعم من المرجعية الشيعية، على حد قول العبادي.

لكن انسحاب المالكي من المشهد لم يخفف حدة الصراع الطائفي، بل على العكس، إذ تم استغلال ما جرى لشد عصب الطائفة الشيعية على نحو غير مسبوق، بتكريس وجهة النظر التي يعبّر عنها المالكي وتدعمها إيران، وترجمت على الأرض بغرفة عمليات موحدة شملت سوريا والعراق ولبنان ولاحقا اليمن، وحاولت في فترة معينة ان تشمل آخرين لإفشال ما وصفه المالكي بـ"المؤامرة" التي "تستهدف الوجود الشيعي في المنطقة"، وهو ما أدى إلى ارتكاب انتهاكات هائلة في حق السُنّة خلال الأعوام القليلة التالية التي تم خلالها إلحاق الهزيمة بتنظيم "داعش" وإنهاء سيطرته الجغرافية في العراق وسوريا.

يختصر علي حاتم سليمان ما جرى، بالقول إن "القوات النظامية والإرهاب انتقما من المناطق السنية بالمستوى نفسه، سواء في العراق أو في سوريا".

 وينتقد بحدة الغطاء الجوي للتحالف الدولي على ما جرى، ويطالب بالكشف عن «مصير آلاف المغيبين ونبش المقابر الجماعية» وبإعادة محاكمة الآلاف من المحكومين "ظلما" بالإعدام.

قبر صدّام في يدي الخزعلي

اليوم، وبعد أعوام على طرد التنظيم من تكريت، وفي مشهد يختصر ما آلت اليه حال السنّة في العراق بعد مقتل صدام حسين الذي حكم البلاد باسم حزب "البعث" لعقود، يسيطر مقاتلون تابعون لـ"عصائب أهل الحق" على بلدة العوجة قرب تكريت، وعلى المضافة التي كان دفن بها صدام، بالإضافة إلى قبري نجليه قصي وعدي اللذين قتلا على يد قوة خاصة أميركية في الموصل، وبجانبهما قبور لبعض رموز النظام السابق، وتعرضت غالبيتها لتخريب متعمد عقب طرد "داعش".

تحت جنح الظلام منتصف العام 2014، وقبل سيطرة تنظيم "داعش" على مدينة تكريت ببضعة أسابيع، قامت مجموعة من أبناء عشيرة "البوناصر" التي يتحدر منها صدام حسين بنبش قبره وإخراج جثته ونقلها إلى مكان لم يتم الكشف عنه حتى اليوم.

يتهم قيس الخزعلي زعيم "العصائب" أبناء عشائر تكريت بـ"ارتكاب مجزرة سبايكر"، وفي المقابل تتهم العشائر السنية "العصائب" بـ"ارتكاب مجازر كبيرة" في حق أبنائها في محافظة صلاح الدين وديالى، بالإضافة إلى "عمليات تهجير شملت حتى بلدة العوجة وأبناء عشيرة البوناصر".

عناصر من "حركة النجباء" في بغداد في 31 مايو 2019 (غيتي)

تناسل التنظيمات

من أكبر التنظيمات التي كانت موجودة قبل سقوط النظام العراقي، "فيلق بدر" بقيادة هادي العامري، الذي ضمّ بضعة آلاف من المقاتلين في إيران، وشارك إلى جانبها في الحرب ضد بلاده، وعاد إلى العراق فور السقوط.

وكان الفيلق يمثل الذراع العسكرية لـ "المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى" بقيادة محمد باقر الحكيم، وتحول بعد غزو العراق إلى منظمة وحزب سياسي مستقل بقيادة العامري، دون أن يتخلى بالطبع عن جناحه العسكري رغم إعلانه ذلك.

ويعتبر "جيش المهدي" بقيادة مقتدى الصدر من أوائل التنظيمات المسلحة التي تشكلت عقب الغزو لإخراج القوات الأميركية والبريطانية من العراق، وكان قوة ضاربة في الحرب الطائفية التي امتدت لأعوام وقتل خلالها عشرات الآلاف من المدنيين.

انشق عن "جيش المهدي"، تيار بقيادة قيس الخزعلي وأكرم الكعبي اللذين شكلا "عصائب أهل الحق"، التي ضمت بحسب اتهامات رسمية من مقتدى الصدر "أسوأ المجموعات داخل جيش المهدي وأكثرهم تشددا". وانشق الكعبي لاحقا عن "العصائب" ليشكل تنظيمه الخاص الذي عرف باسم "المقاومة الإسلامية – حركة النجباء".

تحت جنح الظلام منتصف العام 2014، وقبل سيطرة "داعش" على مدينة تكريت ببضعة أسابيع، قامت مجموعة من أبناء عشيرة "البوناصر" التي يتحدر منها صدام حسين، بنبش قبره وإخراج جثته ونقلها إلى مكان لم يتم الكشف عنه حتى اليوم

كتائب "حزب الله"

في المرحلة نفسها وبعيداً عن الأنظار، كان العمل جاريا على قدم وساق لتأسيس تنظيم جديد سيحظى بالرعاية الإيرانية الكبرى، هو "كتائب حزب الله العراقي"، الذي يعتبر اليوم إحدى أقوى الميليشيات على الساحة العراقية، وكما توأمه اللبناني تدير "الكتائب" شبكة كبيرة ومعقدة من المؤسسات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية.

وتؤكد مصادر على صلة وثيقة بالتنظيم، أن من أسسه هو القيادي في «حزب الله» اللبناني عماد مغنية الذي اغتيل في دمشق عام 2008 بالتعاون مع أبي مهدي المهندس الذي قتل مع قاسم سليماني في ضربة جوية أميركية بداية العام 2020، على الرغم من انه لم يعلن رسميا توليه قيادة التنظيم حتى بعد وفاته، ولا يكشف التنظيم عن هرميته وتركيبة قيادته، ولكن يعتقد اليوم أن أبا حسين الحميداوي هو قائد التنظيم.

تنتشر الكتائب في مناطق عدة من البلاد بما فيها المعبر الحدودي عند مدينة القائم، وتتخذ من منطقة جرف الصخر جنوب غرب بغداد مقرا رئيسيا لعملياتها.

وكانت معركة جرف الصخر من أولى المعارك التي شنتها الميليشيات ضد تنظيم "داعش"، وتمت استعادة السيطرة عليها في أكتوبر/تشرين الأول عام 2014، ومنذ ذاك التاريخ أعلنت منطقة مغلقة عسكريا، وتحوي مقار ومخازن سلاح ومعسكرات بإشراف مباشر لـ"حزب الله" الذي يمنع حتى المسؤولين الأمنيين العراقيين من زيارتها.

قائد "فيلق القدس" في "الحرس" الإيراني قاسم سليماني الذي قتل بداية 2020 (أ ف ب)

خامنئي... مرجعاً

بالإضافة إلى "حزب الله"، تتبنى مجموعة من التنظيمات الشيعية نظام "ولاية الفقيه" الإيرانية التي رفضتها مرجعية النجف مذ أعلن الخميني تبنيها عام 1979، وتتيح هذه الفتوى للحاكم الديني ممثلا بالخميني آنذاك وخامنئي حاليا إدارة شؤون البلاد دينيا وزمنيا.

وتوصف الميليشيات التي تتبنى ولاية الفقيه بـ"الولائية" لتمييزها عن تلك التي تتبع مرجعية النجف، ومن أبرزها بالإضافة إلى "حزب الله" و"عصائب أهل الحق"، "كتائب سيد الشهداء" بقيادة أبي آلاء الولائي، و"حركة النجباء" بقيادة أكرم الكعبي، و"كتائب الإمام علي" وزعيمها شبل الزيدي.

خلافاً للعشرات من فصائل "الحشد" التي تنتظم في ما بات يُعرف باسم "هيئة الحشد الشعبي"، تنضوي "الفصائل الولائية" ضمن ما يسمى "محور المقاومة" الذي يشمل ميليشيات من العراق ولبنان واليمن وسوريا وغزة، تحت قيادة إيرانية مباشرة، كانت ممثلة بقاسم سليماني قبل أن يُقتل ويتسلم مكانه إسماعيل قآاني.

منذ إقرار تشكيلها عبر البرلمان العراقي عام 2016، تمتلك "هيئة الحشد الشعبي" منظومتها الأمنية الخاصة، وكذا جهازها القضائي، وتتمتع بحصانة كبيرة، ولا يتوقع أن يتم حلها إلا بفتوى من السيستاني تنهي العمل بفتوى "الجهاد الكفائي"، وهو  المطلب الذي تجاهلته المرجعية عقب مطالبة بعض التيارات المدنية به خلال "تظاهرات تشرين" ضد الحكومة، إذ يتهم المتظاهرون فصائل في "الحشد" بقتل واختطاف المئات منهم.

على الرغم من انتهاء المعارك ضد تنظيم "داعش" منذ أعوام، حافظت التنظيمات الشيعية على وجود دائم في محافظات سنية، كما هي الحال في نينوى وصلاح الدين والأنبار وكركوك وديالى، مع أن سكان هذه المحافظات طالبوا بإخراجها واستبدالها بقوات نظامية.

على الرغم من انتهاء المعارك ضد تنظيم "داعش" منذ أعوام، حافظت التنظيمات الشيعية على وجود دائم في محافظات سنية، كما هي الحال في نينوى وصلاح الدين والأنبار وكركوك وديالى، مع أن سكان هذه المحافظات طالبوا بإخراجها واستبدالها بقوات نظامية

حكام المرحلة

اللافت بالنسبة إلى أي شخص محايد يزور العراق حاليا، هو التباين الكبير في الطريقة التي ينظر فيها أبناء المكوّنَين الشيعي والسني إلى المشهد حاليا، إذ رغم انتفاضة جزء كبير من الشارع الشيعي ضد قيادات شيعية متهمة بالفساد في ما عُرف بـ«تظاهرات تشرين»، إلا أن صناديق الاقتراع دائما ما تعيد انتاج هذه القيادات على نحو لافت، كما حصل في الانتخابات الأخيرة.

لكن جولة صغيرة في الحواضر الشيعية تتيح فهم الأسباب التي تدفعهم لإعادة انتاج هذه الشخصيات التي توصف في الشارع الشيعي بـ"القوية والقادرة على حمايتهم من أي انهيارات شبيهة بتلك التي حدثت منتصف العام 2014 في المؤسسة العسكرية والأمنية النظامية وكادت تطيح حكم الشيعة"، بحسب قول محللين.

فمقتدى الصدر ونوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي بكل ما يمثلونه، هم قادة المرحلة حتى إشعار آخر قد يطول كثيرا على ما يبدو، فالصدع الذي ترتب على تجربة العقدين الماضيين أعمق بكثير من أن يتم رأبه بحكومة محاصصة جديدة.

font change