ماذا لو لم يُولد "البيتلز"؟

كتاب جديد للمحلل النفسي والناقد بيير بيار

Getty Images
Getty Images
المحلل النفسي الفرنسي بيير بيار

ماذا لو لم يُولد "البيتلز"؟

صدر في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، عن دار "مينوي"، سلسلة "مفارقة"، بباريس، كتاب جديد للمحلل النفسي والناقد الأدبي الفرنسي بيير بيار(Pierre Bayard) بعنوان: "وماذا لو لم يولد أعضاء فرقة البيتلز؟"(Et si les Beatles n’étaient pas nés?)،وهو الكتاب الثالث ضمن نوع من الانشغال النقدي دشنّه المؤلِّف في كتابين سابقين، بالدار نفسها، وبالسلسلة عينها: صدر الأول سنة 2010 بعنوان: "وماذا لو غيّرتْ الأعمالُ من مؤلِّفها؟" ( Et si les œuvres changeaient d’auteur)،وصدر الثاني سنة 2014 بعنوان: توجد عوالمُ أخرى(Il existe d’autres mondes).

في تصدير الكتاب، ينطلق المحلل النفسي والناقد الأدبي من أننا كثيرا ما نتجاهل الخسائر التي تكون الأعمال الكبرى هي السبب فيها، فهي ترمي بأعمال أخرى إلى الهامش، مع أنها أعمال لا تخلو من فائدة، وهي وإنْ لم تكن بالشهرة نفسها، فهي لا تستحق الاستصغار. وفي نظره، هناك نوعان من المعرفة، من معرفة الواقع، يمكن أن نلجأ إليهما من أجل أن نمنح وضعا اعتباريا لتلك الأعمال التي رمت بها الأعمال الكبرى إلى الهامش. ويسمّي النوع الأول: الزمان- البديل (l’uchronie)، وهو يعني أن نحاول أن نتخيّل ما الذي يمكن أن يقع لو اتخذتْ منعطفاتُ تاريخ الإنسانية مجرى آخر، وهل يمكن أن نتحدث عن إمكاناتالماضي:ماذا كان سيجري في الماضي لو لم يقع ذلك الحدثُ الذي غيّر مجرى الأحداث؟ والنوع الثاني يهمّ العوالم الموازية (les univers parallèles): وهذا مفهوم ظهر خلال القرن العشرين بعد الاكتشافات المهمة التي أنجزتها الفيزياء الكمومية، وهو يكشف عن نظرية تُدافع عن فكرة أنه في مقابل كل تشعّب من التشعّبات التي يعرفها الوجود الفردي أو التاريخ الجماعي، هناك مجموعة من الأحداث التي يبدو أنها لم تَحدُث ومع ذلك فمن الممكن أن تَحدث في عوالم موازية لعوالمنا.

ولاقتناع بيير بَيَار بأهمية الزمان البديل والعوالم الموازية، اقترحَ أن يقوم أولا بدراسة بعض الأعمال الكبرى التي ألقت إلى الهامش بأعمال أخرى صار لها وضع اعتباري أعلى في عوالم بديلة، وأن يوضح ثانيا كيف تمارس الأعمال الكبرى تأثيراتها السلبية على مجموع التاريخ الأدبي والفني حتى بعد لحظة ميلادها وظهورها. وهو يشرح في الأخير كيف أن لا شيء يبقى جامدا ولا شيء يبقى غير قابل لأن نتجنّبه، وكيف أن عددا من الرجال والنساء كانوا قد حاولوا في عصور سابقة مراجعة التراتبيات في المجال الأدبي والفني، بحثا عن قليل من العدالة الجمالية.

ينطلق المحلل النفسي والناقد الأدبي من أننا كثيرا ما نتجاهل الخسائر التي تكون الأعمال الكبرى هي السبب فيها، فهي ترمي بأعمال أخرى إلى الهامش، مع أنها أعمال لا تخلو من فائدة


 بعد هذه التوضيحات في التصدير، نجد الكتاب يتألف من أربعة أقسام وخاتمة. ويتكون القسم الأول- وهو بعنوان "حواجيب"من ثلاثة فصول: عالَمٌ من دون البيتلز، عالم من دون رودان، عالم من دون شكسبير: يسجل بيير بيار في الفصل الأول الخاص بفرقة البيتلز كيف أن تاريخ الأدب والفن يكذّب الفكرة التي تقول إن الأعمال الرائعة تنتهي بفرض نفسها في النهاية بشرط أن نتحلّى بقليل من الصبر، موضِّحا أن هذا التاريخ هو في الواقع مقبرةٌ ضخمةٌ للفرص الجمالية الضائعة، فالعمل الأدبي أو الفني ليس معطى خامّا بعيدا عن الظروف، ويكفي أن نتساءل: لماذا نجحت فرقة البيتلز في الظهور مع أن هناك فرقة موسيقية غنائية أخرى (les Kinks) لو سمحت لها الظروف لكانت في عالم آخر هي المجموعة الأكثر أهمية في الموسيقى الإنكليزية خلال الستينيات من القرن المنصرم. وكما عملت مجموعة البيتلز على حجب مجموعة (les Kinks)، فقد كان رودان السبب في حجب كاميل كلوديل الذي لم يظهر اسمه من جديد إلا في ثمانينات القرن المنصرم. والشيء نفسه بالنسبة إلى شكسبير الذي حجب اسمُه اسما لا يقلّ أهمية: بن جونسون، الذي ترك ما لا يقلّ عن خمسين مسرحية، وإلى حدود أواخر القرن الثامن عشر كان بن جونسون هو الأكثر شهرة من شكسبير، هذا الأخير الذي سيكون القرن التاسع عشر هو القرن الذي صنعه بعد أكثر من قرنين على وفاته.

Getty Images
فرقة البيتلز

من دون ماركس

أما القسم الثاني من الكتاب، وهو بعنوان "تأثيرات" فهو يتألف من ثلاثة فصول: عالَمٌ من دون ماركس، عالم من دون فرويد، عالم من دون ميد (Mead): يصعب أن نتصور كيف سيكون العالَم المعاصر لو لم يكن هناك كارل ماركس، ولكن على الصعيد الفكري، يفترض بيير بيار أن ضحية ماركس المهمة هي برودون (Pierre- Joseph Proudon) الذي نشر سنة 1840 كتابا مهمّا بعنوان "ما الملكية؟"سيحاول ماركس لقاء برودون، وبعد أن نشر هذا الأخير كتابه "فلسفة البؤس"، سيطلب منه ماركس أن يكون مراسله وممثله، لكن برودون رفض لوجود اختلاف بين فكره الإصلاحي وفكر ماركس الذي يدعو إلى التغيير الجذري العنيف، وهو ما دفع ماركس إلى أن يكتب شيئا عنيفا ضد برودون سنة 1847: "بؤس الفلسفة".لكن الواقع هو أنه إلى حدود الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، فإن ماركس كان غير معروف، وبرودون كان الأكثر قبولا في كل أوروبا ذات النزعة الاشتراكية. أما بالنسبة إلى فرويد، فإن هناك في القرن التاسع عشر عددا من المفكرين الذين بدأوا يشكّون في فكرة ديكارت التي هيمنت لزمن طويل: فكرة أن الذات واعية بذاتها بشكل كامل. وعلى رأس هؤلاء، هناك بيير جانيت (Pierre Janet) الذي بدأت نصوصه تظهر على مسرح الطب النفسي الفرنسي أواخر القرن التاسع عشر (وخاصة كتابه (L'automatismepsychologique, 1889).

Getty Images
كارل ماركس (1818-1893)

والسبب الذي جعل نظرية جانيت لا تلقى النجاح الذي تستحق هو ذلك الدخول القوي للتحليل النفسي إلى المشهد الفكري الفرنسي انطلاقا من سنة 1915. ولكن في الوقت الذي كنّا نظنّ فيه أن نظرية الشخصيات المتعددة التي ابتكرها بيير جانيت قد ماتت إلى الأبد بعد فشلها في فرنسا، سنجدها تظهر إلى الوجود من جديد في الولايات المتحدة الأميركية بعد خمسين سنة من ظهورها الأول بفرنسا. وبخصوص مارغريت ميد (Margaret Mead) يتساءل المؤلف كيف عرف كتابها الأول (    AdolescenceàSamoa) نجاحا كبيرا- وهو أقرب إلى التخييل منه إلى العلم- مقارنة بكتابها الثاني (Trois sociétés primitives de Nouvelle-Guinèe) الذي له قيمة علمية كبيرة؟

حان الوقت لأن نَقبل- مهما كان الجرح النرجسي الذي يترتّب عن ذلك- أننا لسنا وحدنا في هذا العالم

 ويتألف القسم الثالث، وهو بعنوان: "تأثيرات بأثر رجعي"، من ثلاثة فصول: عالَمٌ من دون كافكا، عالم من دون بروست، عالم من دون بوفوار. أما القسم الرابع، وهو بعنوان: "تدخلات"، فهو يتكون من ثلاثة فصول: عالَمٌ من دون باسترناك، عالم من دون لويز لابي، عالم من دون حركة الفرسان الزرق.

  ومن خلال تلك الأمثلة كلها التي تناولها بيير بيار بالتحليل في الأقسام الأربعة من الكتاب، يخلص إلى ما يأتي:

من الضروري أن تقوم العلوم الإنسانية بقطيعة إبيستيمولوجية استنادا إلى ما قد يضيفه هذا المفهوم: الزمان- البديل(l'uchronie) إلى البحث العلمي: من الضروري أن يمنح تاريخ الأدب وتاريخ الفن الفرصة للخيال من أجل اختبار ما قد يأتي به التفكير عندما نلجأ إلى هذه الصيغة: "ماذا لو؟".

Getty Images
حشد من المشجعين المتحمسين يتدافعون عند بوابات قصر باكنغهام، لإلقاء نظرة على فرقة البيتلز

لابد من تأسيس نقد كمومي (critique quantique)-انطلاقا من تطورات الفيزياء النووية- ولتكن مهمته الأولى إعادة إبراز المؤلفين والأعمال التي لم تنل الاهتمام في مكانها وزمانها، والتي كان استقبالها بطريقة مختلفة في عوالم بديلة، ولتكن مهمتها الثانية الانطلاق من أجل اكتشاف المبدعين وإبداعاتهم التي أُهملت عبر التاريخ.

من الضروري تحفيز المتعلِّمين انطلاقا من التعليم المدرسي على إدراك أن هناك عوالم بديلة، وتشجيعهم على استكشاف العوالم الممكنة التي تحيط بهم. فقد حان الوقت لأن نَقبل- مهما كان الجرح النرجسي الذي يترتّب عن ذلك- أننا لسنا وحدنا في هذا العالم.

font change

مقالات ذات صلة