أذكر، قبل بضع سنوات، تبدو اليوم عقودا لكثرة ما شهدته من أحداث، يوم رفع المنع عن قيادة المرأة السيارة في السعودية. كانت تلك بداية أدرك الجميع، في المملكة وخارجها، أنها لن تقف عند هذا الحدّ. وكانت الاحتفالات بهذه الخطوة تتجاوز حدود السعودية إلى المنطقة العربية برمتها. لطالما كانت السعودية دولة قيادية في العالمين العربي والاسلامي، أو الشرق الأوسط، وأيّ تحوّل تشهده لا بدّ أن ينعكس على المنطقة برمتها. نيل المرأة حقوقها في السعودية عنى، بين أشياء كثيرة، أن التغيير قادم هذه المرة ليس من باب "الثورات" والاحتجاجات والانقلابات، بل من باب الدولة. وليست مصادفة أن تترافق هذه التحولات الاجتماعية مع حملات مكثفة لمكافحة الفساد وحماية المال العام، ولا أن تأتي مع إطلاق مشاريع اقتصادية وتكنولوجية وثقافيةعملاقة، ولا مع خطوات سياسية أعادت رسم الكثير من التموضعات السابقة ومهّدت لمعادلات جديدة خليجياً وإقليمياً وعالمياً.
الدولة هي المفتاح، وهي القائد، في جميع هذه التحولات، وفي حين رأينا تآكل الدولة وانهيارها، في عدد من البلدان الأخرى، وما ترافق مع ذلك من استشراء للعنف والفساد والاضطرابات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية، فإن الخيار السعودي الاستراتيجي بأن تكون الدولة أولاً، مع ما يعنيه ذلك من تشريعات وقوانين وخطط متوسطة وطويلة الأمد تحمي التحولات وتضمن استدامتها وتضبط إيقاعها، كان يعني أيضاً حسما واضحا في الخيارات على المستوى الثقافي. لا يمكن أن تفرض الدولة خطابها وأن تكون خاضعة في الوقت نفسه لابتزاز الخطابات الأخرى، الأيديولوجية والدينية والاجتماعية، وضغوطاتها، سواء أكان مصدرها الداخل أم الخارج. وعدم الخضوع للابتزاز، في زمن هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، هو في حدّ ذاته تحدّ كبير، يعكس رؤية استراتيجية، بقدر ما يعكس قناعة عميقة، بأنه لم يعد من الترف خسارة المزيد من الوقت، وهدر المزيد من الموارد، والتراجع أمام "حملات" لا يعرف في كثير من الأحيان مصدرها ولا أسبابها الحقيقية.
"الرهاب" الذي أدّى بالجهات الرسمية في لبنان والكويت إلى منع الفيلم، وإلى تأجيل عرضه في عدد من البلدان العربية الأخرى، لم يكن ببساطة موجودا لدى الجهات الرقابية والرسمية في المملكة، ربما لأنها شاهدت الفيلم دون تلك الحمولة الأيديولوجية الثقيلة التي شاهده من خلالها الآخرون
عرض "باربي" في السعودية، على بساطته، يكاد يكون تجسيدا لكلّ ما سبق. ففي حين منع الفيلم في بلدين هما لبنان والكويت، كانا للمفارقة، في طليعة الدول العربية والخليجية في ممارسة الديمقراطية، سمح بعرضه في السعودية، لا بسبب قيمته الفنية العظيمة، ولا بسبب توافقه بالضرورة مع التوجهات الحكومية، ولكن ببساطة لأنه لا شيء يمنع عرضه. لم يكن موضوع سجال أن الفيلم لا يدعو إلى المثلية الجنسية، ولا يحطّ من مكانة الرجل، ولا يدعو المرأة إلى عدم تأسيس عائلة، ولا يروّج لقيم دخيلة، وغير ذلك من حجج سقطت لحظة إطلاقها. "الرهاب" الذي أدّى بالجهات الرسمية في لبنان والكويت إلى منع الفيلم، وإلى تأجيل عرضه في عدد من البلدان العربية الأخرى، لم يكن ببساطة موجودا لدى الجهات الرقابية والرسمية في المملكة، ربما لأنها شاهدت الفيلم دون تلك الحمولة الأيديولوجية الثقيلة التي شاهده من خلالها الآخرون. ولو سألت تلك الجهات عن الأسباب فلن تطالعك بخطاب أيديولوجي يدافع عن قيم الفيلم وأهميته ومكانته، بل سيكون الجواب ببساطة: إنه مجرد فيلم. ومن كسر عقدة قيادة المرأة السيارة، وهو الأمر الذي كان يعتقد باستحالته طوال عقود، لن يقلق من عرض فيلم موجّه في المقام الأول إلى جمهور النساء.
لا أحد يعتقد أن الفيلم، لو كان بالفعل مسيئا، كان سيسمح بعرضه في السعودية. القرار الرقابي هنا بالعرض لم يكن شجاعا بقدر ما كان ذكيا، لأنه يستطيع الدفاع عن نفسه، وسوق المبرّرات الكافية لهذا العرض. لا يمكنك السعي إلى تحقيق نهضة فنية وسينمائية، واستثمار المليارات في سبيل هذه النهضة، والتي وظّفت في صناديق استثمارية وإنتاجية وفتح مئات صالات سينما وإطلاق مهرجانات سينمائية وخلق مناطق سينمائية حرّة، واستقطاب المبدعين العالميين للإنتاج والعمل في السعودية، لا يمكنك فعل ذلك كله، وفي الوقت نفسه منع فيلم لأنه قد يقلق البعض أو يثير حفيظتهم، بناء على تفسيرات وتأويلات لا تصيب جوهر المسألة. كما لا يمكنك الانتصار للمرأة ودفعها إلى الواجهة، ورفع هامش تمثيلها ومشاركتها في رسم السياسات، على كافة المستويات، وتقلق من فيلم يتمحور حول المرأة، بل ولا يمكنك منع هذه المرأة الجديدة من مناقشة، والاحتجاج، على ما قد تجده تمثيلاً سيئاً لها في "باربي".
الجميع يعرف ويعترف أن الخطوات التي تتخذ في السعودية، ولاسيما في المجال الثقافي والاجتماعي، تنطلق من دعم شعبي غير مسبوق.
الخيار الذي انتصر هنا هو خيار الدولة. وهذا لا يقابله ولا يجب أن يقابله، بصورة صراعيّة، خيار المجتمع. وهذه مفارقة أخرى يجدر التوقف عندها. فالجميع يعرف ويعترف أن الخطوات التي تتخذ في السعودية، ولاسيما في المجال الثقافي والاجتماعي، تنطلق من دعم شعبي غير مسبوق. وفي المقابل، فإن من مارس المنع، في لبنان مثلاً، ليس "المجتمع". لم نسمع صوت المجتمع في هذه المسألة، لا عبر المؤسسات التي يفترض أن تمثله (الإعلام، الهيئات التمثيلية)، ولا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل سمعنا صوت "الدويلة"، صوت طرف يريد فرض رؤيته على الدولة والمجتمع معا، غير عابئ بالضرر الهائل الذي يلحقه بصورة الدولة من جهة، وبثقة المجتمع بنفسه وبدولته من جهة أخرى.
تجربة "باربي" تقول في نهاية المطاف إن الدولة تستطيع أحيانا أن تمارس حضورها وأن تفرض هيبتها، من دون أن تفرض يدا ثقيلة ووصاية أخلاقية لم تعد مقبولة على المجتمع، ولا أن تخوض معارك ضخمة ومصيرية، إذ يكفي أن تكون منسجمة مع نفسها، وأن تحترم المعايير التي وضعتها لنفسها، وألا تقع أسيرة خطاب قد لا يكون موجودا إلا في رؤوس حفنة ممن ما زالوا يعيشون في الماضي.