للوهلة الأولى، لم يكن حدث انقطاع الكهرباء والاتصالات في عموم إسبانيا، ومعها البرتغال وأجزاء من فرنسا، حدثا دراماتيكيا تماما، ليس بالقدر المتوقع على الأقل، وإن أحدث خللا واضحا وجسيما في بنية الحياة اليومية، بما في ذلك الخدمات الأساسية مثل النقل الجوي والبري، وهو الخلل الذي ترجم ازدحاما شديدا وانسدادا لبعض الطرق السريعة الرئيسة، لا سيما في العاصمة مدريد، وهو ما دفع بالحكومة الإسبانية إلى حال من الطوارئ والانعقاد شبه الدائم، تخلله اجتماع لرئيس الوزراء بيدرو سانشيز مع القيادات الأمنية الرفيعة.
إلا أن الحدث على ضخامته لم يتسبب بحالة من الهلع الجماعي، كالذي تتسبب به الكوارث المفاجئة عادة، فلم يندفع الناس عشوائيا إلى متاجر الأغذية، علما أن كثيرا من سلاسل البيع أعلنت إقفال متاجرها لأسباب لوجستية على الغالب تتعلق بصعوبة التأقلم سريعا مع أنماط البيع التقليدية، والحال أن زيارة لبقالة صغيرة في الأمس، تقدم نموذجا عن هذه الصعوبة، إذ تبين أن عملية الشراء البسيطة باتت تستغرق ضعف الوقت، لأن البائع كان مضطرا إلى زيارة الأرفف للتعرف الى اسعار المواد الاستهلاكية، كل على حدة، ثم جمع حصيلة سعر المواد عبر الآلة الحاسبة أو حتى على الورق.
الصين الصين
الكلمة الأولى التي هتفت بها بعد ذيوع خبر أن هناك انقطاعا شاملا للكهرباء والاتصالات قد يستمر 72 ساعة، بحسب التقارير الأولية، هي: "الصيني"، قاصدا بذلك المتاجر التنويعية المملوكة لصينيين والتي تبيع شتى أنواع الحاجيات المصنوعة في الصين، بما في ذلك بعض المواد الغذائية، ولا سيما المياه، والمنتشرة تقريبا في كل حي أو منطقة سكنية في إسبانيا. كنت أحسب أنني أصبت الجائزة الكبرى لمجرد أن خطرت ببالي هذه الفكرة، بهدف التزود السريع ببعض الأساسيات، مثل مصابيح الإنارة التي تعمل بالبطارية، أو الشموع، أو البطاريات إلخ، لكن سرعان ما تبين لدى وصولي إلى المتجر القريب من سكني، أن كثرا غيري من سكان الحي باتوا داخل المتجر، بل بات هناك طابور صغير ينتظر الواقفون عنده دورهم للدخول إلى المتجر. كلمة "الصيني" التمعت إذن في رؤوس كثيرة في اللحظة نفسها.
الشعور الثاني جاء جامعا بين مشاعر متضاربة من الخجل والسخرية والقلق. لا بد أن كثرا تذكروا في تلك الدقائق والساعات الأولى، أيام أزمة كوفيد19، حين اندفع الناس في أماكن عدة من العالم بصورة هستيرية لشراء المواد الأساسية. راودني هذا الشعور حين رأيت رجلا يحمل رزما عدة من ورق التواليت، في حين رأيت امرأة تحمل ثلاث رزم من الفحم الصناعي الذي يستخدم للشواء والمستلزمات المصاحبة له من كبريت وأدوات إشعال. لكن الناس كأنما لا يريدون تصديق أنهم ربما يكونون الآن على أعتاب مشهد مماثل، فتجدهم يتجمهرون لكن دون اندفاع ودون تنافس، ويشترون أشياء كثيرة، بعضها ربما لا ضرورة له، إنما بخجل ومع ابتسامة واهنة مرتسمة على الأفواه.