انقطاع الكهرباء والاتصالات في إسبانيا... بروفة أولية لعالم ديستوبي

الهواتف جثث ميتة والهواء الطلق ملاذا

JOSE JORDAN -AFP
JOSE JORDAN -AFP
مسافرون ينتظرون في محطة فالنسيا-خواكين سورولا خلال انقطاع الكهرباء الواسع

انقطاع الكهرباء والاتصالات في إسبانيا... بروفة أولية لعالم ديستوبي

للوهلة الأولى، لم يكن حدث انقطاع الكهرباء والاتصالات في عموم إسبانيا، ومعها البرتغال وأجزاء من فرنسا، حدثا دراماتيكيا تماما، ليس بالقدر المتوقع على الأقل، وإن أحدث خللا واضحا وجسيما في بنية الحياة اليومية، بما في ذلك الخدمات الأساسية مثل النقل الجوي والبري، وهو الخلل الذي ترجم ازدحاما شديدا وانسدادا لبعض الطرق السريعة الرئيسة، لا سيما في العاصمة مدريد، وهو ما دفع بالحكومة الإسبانية إلى حال من الطوارئ والانعقاد شبه الدائم، تخلله اجتماع لرئيس الوزراء بيدرو سانشيز مع القيادات الأمنية الرفيعة.

إلا أن الحدث على ضخامته لم يتسبب بحالة من الهلع الجماعي، كالذي تتسبب به الكوارث المفاجئة عادة، فلم يندفع الناس عشوائيا إلى متاجر الأغذية، علما أن كثيرا من سلاسل البيع أعلنت إقفال متاجرها لأسباب لوجستية على الغالب تتعلق بصعوبة التأقلم سريعا مع أنماط البيع التقليدية، والحال أن زيارة لبقالة صغيرة في الأمس، تقدم نموذجا عن هذه الصعوبة، إذ تبين أن عملية الشراء البسيطة باتت تستغرق ضعف الوقت، لأن البائع كان مضطرا إلى زيارة الأرفف للتعرف الى اسعار المواد الاستهلاكية، كل على حدة، ثم جمع حصيلة سعر المواد عبر الآلة الحاسبة أو حتى على الورق.

الصين الصين

الكلمة الأولى التي هتفت بها بعد ذيوع خبر أن هناك انقطاعا شاملا للكهرباء والاتصالات قد يستمر 72 ساعة، بحسب التقارير الأولية، هي: "الصيني"، قاصدا بذلك المتاجر التنويعية المملوكة لصينيين والتي تبيع شتى أنواع الحاجيات المصنوعة في الصين، بما في ذلك بعض المواد الغذائية، ولا سيما المياه، والمنتشرة تقريبا في كل حي أو منطقة سكنية في إسبانيا. كنت أحسب أنني أصبت الجائزة الكبرى لمجرد أن خطرت ببالي هذه الفكرة، بهدف التزود السريع ببعض الأساسيات، مثل مصابيح الإنارة التي تعمل بالبطارية، أو الشموع، أو البطاريات إلخ، لكن سرعان ما تبين لدى وصولي إلى المتجر القريب من سكني، أن كثرا غيري من سكان الحي باتوا داخل المتجر، بل بات هناك طابور صغير ينتظر الواقفون عنده دورهم للدخول إلى المتجر. كلمة "الصيني" التمعت إذن في رؤوس كثيرة في اللحظة نفسها.

الشعور الثاني جاء جامعا بين مشاعر متضاربة من الخجل والسخرية والقلق. لا بد أن كثرا تذكروا في تلك الدقائق والساعات الأولى، أيام أزمة كوفيد19، حين اندفع الناس في أماكن عدة من العالم بصورة هستيرية لشراء المواد الأساسية. راودني هذا الشعور حين رأيت رجلا يحمل رزما عدة من ورق التواليت، في حين رأيت امرأة تحمل ثلاث رزم من الفحم الصناعي الذي يستخدم للشواء والمستلزمات المصاحبة له من كبريت وأدوات إشعال. لكن الناس كأنما لا يريدون تصديق أنهم ربما يكونون الآن على أعتاب مشهد مماثل، فتجدهم يتجمهرون لكن دون اندفاع ودون تنافس، ويشترون أشياء كثيرة، بعضها ربما لا ضرورة له، إنما بخجل ومع ابتسامة واهنة مرتسمة على الأفواه.

الكلمة الأولى التي هتف بها كثر بعد ذيوع خبر أن هناك انقطاعا شاملا للكهرباء والاتصالات قد يستمر 72 ساعة، بحسب التقارير الأولية، هي: "الصيني"، قاصدين بذلك المتاجر التنويعية المملوكة لصينيين


إنها غريزة البقاء، فكرت، وهي أيضا الشعور الداهم بالخطر، أو توقع الخطر على الأقل. المستلزمات الأشد إلحاحا بين الجميع كانت: الشموع التي حمل الناس منها قدر ما تستطيع أيديهم، عبوات المياه التي ناء الناس بحملها إلى سياراتهم أو السير بها إلى بيوتهم، البطاريات، والأهم من ذلك كله أجهزة الراديو الصغيرة. تلك الأجهزة التي كانت تظل مكدسة عادة في المتاجر الصينية، ولا يلتفت إليها عادة إلا ربما إذا أرادت أمّ أو أب مفاجأة طفلهما بهدية غريبة يتسلى بها، باتت في غمضة عين السلعة الأكثر طلبا، وبدت السعادة بيّنة على وجه البائعة الصينية وهي تبيع الراديو الصغير الذي قد لا يتجاوز سعره عادة اليورو أو الاثنين بعشرة يوروهات. المفارقة أن معظم السلع هناك، بات سعر الواحدة منها فجأة عشرة يوروهات بالتمام والكمال، ربما اختصارا للوقت والنقاش والعمليات الحسابية المستهلكة للوقت.

AFP
رجل يبيع أجهزة راديو ومصابيح تعمل بالبطارية خلال الانقطاع في برشلونة

اسم الصين لم يحضر في الأذهان بسبب تلك المتاجر فحسب، فقد ذهبت رؤوس عديدة، سواء أعلنت ذلك أم لم تعلنه، إلى التفكير في أن سبب الانقطاع، كان هجوما سيبرانيا، المتهم الأول فيه طبعا روسيا، ثم تتوالى أسماء المتهمين، وثانيهم الصين، ثم كوريا الشمالية، ثم إيران. إنهم "المتهمون الاعتياديون" في حالات كهذه، غير أن قلة التفتوا إلى أن الصين على وجه التحديد باتت خلال تلك الساعات هي الداء والدواء في آن واحد. فهي من جهة قد تكون واقفة وراء الهجمات الإلكترونية المفترضة بداهة، ومن جهة أخرى هي المنتجة للكثير جدا من السلع التي يحتاج إليها الناس في الأزمات، وأهم ما فيها الألواح الشمسية والتكنولوجيا المصاحبة لها، التي انتشر استخدامها خلال السنوات الأخيرة، وإن من باب السعي إلى توفير تكلفة الكهرباء التي تضاعفت بصورة فلكية منذ حرب روسيا – أوكرانيا. تلك الألواح باتت ملاذ كثير من الناس خصوصا مع تقدم الساعات وهبوط الليل على عموم إسبانيا، حيث كنت تجد بيوتا كثيرة مضاءة بلمبات ناتجة من الطاقة المخزنة في بطاريات الألواح الشمسية.

REUTERS
سياح صينيون يستخدمون شبكة "واي فاي" في نزل ببرشلونة خلال انقطاع الكهرباء

اكتشاف الخارج

بجانب هذا الملمح الذي لم يتخذ طابع الإلحاح أو التدافع، وظلّت سمته "مدنية" في الغالب، على ما طلب رئيس الوزراء الإسباني من مواطنيه، كان لافتا ذلك الحس شبه الاحتفالي عند كثير من الناس. فالأعمال تعطلت فجأة، والكثيرون سارعوا إلى جلب أولادهم من المدارس خشية ازدحام محتمل بعد ذلك، وخرجت غالبية الناس إلى الشوارع، أو جلسوا عند أبواب منازلهم، بعضهم يستمع إلى راديو السيارة، أو تتجمع حفنة منهم حول جهاز راديو صغير يمتلكه أحدهم، إلا أن الأهم هو أن الناس، وعلى عكس أيام العزل خلال كوفيد19، باتوا معا في الخارج، وليس منعزلين داخل جدران بيوتهم.

خرجت غالبية الناس إلى الشوارع، أو جلسوا عند أبواب منازلهم، بعضهم يستمع إلى راديو السيارة، أو تتجمع حفنة منهم حول جهاز راديو صغير يمتلكه أحدهم

فرغم كل القلق والاضطراب، بدا أن هناك شيئا محررا في التخلص فجأة من الأجهزة الإلكترونية، لا سيما الهواتف الجوالة. صحيح أنك كثيرا ما يمكن أن ترى أفرادا يفحصون شاشات هواتفهم بين لحظة وأخرى، ليروا ما إذا عادت الحياة إليها، في تذكير مؤلم لما يمكن أن يصيب المجتمعات المعاصرة في حال انقطاع خدمات باتت جزءا من هويتهم ومن تكوينهم الاجتماعي والثقافي، ومن تلقيهم لذواتهم وللعالم من حولهم، إلا أن الغالبية العظمى احتشدوا معا في الشوارع والميادين والساحات، التي عادة ما تكون فارغة في مثل هذه الأوقات، أي منتصف أول يوم في الأسبوع، وكأن هذه الأوقات مستقطعة من سياق بات الجميع أسرى له، فرأوا فجأة احتمالات تصريف الزمن بصورة مختلفة عن تصريفها أمام شاشات ألواحهم وهواتفهم الذكية.

AFP
ازدحام في مداخل محطة سانتس للقطارات في برشلونة خلال الانقطاع

اكتشف الناس فجأة، أيضا، مهارة الكلام. في المتاجر الصينية التي يدخلها الزبائن عادة بصمت، ويخرجون منها بصمت، شأن غيرها من المتاجر، كان الجميع يتكلمون، يتمازحون، ويتبادلون المعلومات (القليلة) حول ما جرى ويجري ويتوقع أن يجري. إحدى السيدات مازحت سيدة واقفة بجوارها مع رزمة كبيرة من عبوات الحليب الطويل الأمد، "لا بد أنكم تحبون الحليب"، فأجابت السيدة ضاحكة "صرنا من بلدان العالم الثالث"، فعقبت السيدة المسنة مشيرة إلى ما تحمله بحرص "أهم شيء البطاريات"، تلك حكمة قديمة على الأرجح لسيدة لا بد أنها عرفت في حياتها أزمات عديدة سابقة.

مشتريات الناس هذه، تحت وطأة الشعور بالخطر المحتمل، لم تكن محكومة بالعشوائية في الضرورة. قبل أشهر أصدر الاتحاد الأوروبي تحذيرا لافتا لمواطني تلك البلدان، يتضمن سيناريوا شبيها بما شهده بعضها في الأمس، ويعدّد مجموعة أساسيات على الناس الحصول عليها تحسبا لاستمرار الأزمة لمدة 72 ساعة، وهي تتضمن أولويات مثل الدواء والماء، كما تتضمن البطاريات وأجهزة الراديو والمال النقدي والمعلبات.

REUTERS
مسافرون يصطفون لركوب القطارات السريعة بعد عودة تدريجية للكهرباء في فالنسيا

مع منتصف ليل الإثنين/ الثلاثاء، بدأت الكهرباء بالعودة إلى معظم أنحاء إسبانيا، وبدأت أيضا التقارير الأولية حول سبب هذا الانقطاع. رئيس الحكومة الإسبانية لم يقدم سببا حاسما (حتى لحظة كتابة هذا المقال)، إلا أن شركة الكهرباء الإسبانية أفادت بأن السبب كان "تذبذبا قويا مجهول المصدر" بين شبكات الكهرباء، أما شركة الكهرباء البرتغالية فكانت أكثر تحديدا إذ أفادت بأن السبب هو ظاهرة نادرة تدعى "الاهتزاز الجوي المستحث"، وهي ظاهرة قد تحدث لأسباب طبيعية (التغير المناخي، الزلازل) أو بشرية على السواء.

 ما كان الناس يتندرون حوله في السابق، أو يرونه فقط في أفلام الخيال العلمي، من يوم تنقطع فيه وسائل الإنترنت في العالم بأسره، عاشوه متجسدا خلال تلك الساعات العشر


على الرغم من عودة خدمات الكهرباء والاتصالات، وعودة الحياة إلى طبيعتها، رغم أن الكثير من الخدمات الموازية (مثل القطارات) لم تعد إلى العمل بكامل طاقتها، فإن الغموض في تحديد السبب الحاسم لما حدث، يظل عامل قلق بالنسبة إلى كثيرين. فما كان الناس يتندرون حوله في السابق، أو يرونه فقط في أفلام الخيال العلمي، من يوم تنقطع فيه وسائل الإنترنت في العالم بأسره، عاشوه متجسدا خلال تلك الساعات العشر (ابتداء من الواحدة بعيد الظهر تقريبا)، وهو ما يعني أن سيناريوا كهذا، وما دام قد وقع للمرة الأولى، قابل للتكرار.

Paul Hanna - AFP
شرطي يستخدم مكبر صوت لإخلاء ساحة محطة أتوتشا خلال الانقطاع الشامل للكهرباء في مدريد

سيناريو نهاية العالم، لا يعني نهاية العالم حقا، بقدر ما يعني نهاية العالم كما نعرفه وكما نشأنا على معرفته وعلى تدبير أمورنا وفقا لهذه المعرفة، وهذا العالم كما أكدت أحداث الأمس في إسبانيا والبرتغال، لم يعد ثابتا مستقرا، ولا يمكن التعويل على استمراره، وهذا الشعور العارم ليس نابعا فحسب من المفاجآت التي قد تأتي بها الطبيعة، بل من التحولات السياسية العميقة التي يشهدها العالم، منذ عودة دونالد ترمب إلى السلطة في الولايات المتحدة، واهتزاز مفهوم الحماية الذي كانت توفرها بلادها للاتحاد الأوروبي، من ذلك "العدو" الروسي المتربص على حدودهم، والذي ينتظر أدنى إشارة ضعف أو وهن للانقضاض عليهم. أما الصين فيمكنها الرهان مستقبلا على مزيد من الفرص الاستثمارية في قارة يبدو أنها تواجه مشكلة حقيقية في النهوض باحتياجاتها الأساسية.

font change

مقالات ذات صلة