هي خمس روايات صدرت قبل مائة عام، نستعيد أحداثها الكبرى، وجمالياتها الخاصة، والسياقات التي كتبت فيها. إنها "روايات ما بين الحربين"، كتبت بعد الحرب العالمية الأولى، وتنبأت بالثانية وما بعدها، حين افتقدت ما يكفي من جرعات الأمل والوعد بالسعادة في عالم مريب. هنا رحلة في عوالم روايات من روسيا وفرنسا وإسبانيا وأميركا، تباينت أساليبها الكتابية وجغرافياتها السردية، والتقت في تشخيص محنة الإنسان والعالم قبل مائة عام.
بولغاكوف و"قلب كلب"
إذا كان بطل رواية "المحاكمة" لفرانز كافكا أعلنها في نهاية الرواية: "ها أنا أموت مثل كلب حقير"، وفق قانون "المسخ" الكافكاوي، فإن رواية "قلب كلب" للكاتب الروسي ميخائيل بولغاكوف، الصادرة في السنة نفسها (1925)، هي أقرب إلى رواية "تحريات كلب"، لكافكا نفسه. بينما تحكي رواية بولغاكوف قصة كلب خضع لعملية جراحية جعلته يتخذ هيئة بشرية، حيث تحول الكلب شاركف، مؤقتا، إلى إنسان يعمل نائبا لمدير قسم تطهير موسكو من الحيوانات الشريدة، ليجدها فرصة سانحة للانتقام من القطط، خصومه "الأيديولوجيين"، إذا شئنا أن نستعير لغة بولغاكوف الساخرة، التي كتب بها هذا العمل الأدبي التاريخي. ذلك أنها رواية "الكوميديا السوداء" بلا منازع، ونموذج الأدب الهجائي، وقد جرى فيها مجرى أستاذيه غوغول وتشيخوف، حيث لا ثالث لهما إلا هو نفسه ميخائيل بولغاكوف.
ولئن كان كافكا أوصى بعدم نشر روايته، ليخونه صديقه ماكس برود وينشر الرواية بعد سنة من وفاته، أي في العام 1925، فإن رواية "قلب كلب" التي صدرت في ذلك العام لن تطبع في روسيا إلا عام 1987، بعد 47 سنة من وفاة مؤلفها، ذلك أن أصدقاء الكاتب هم الذين أشاروا عليه -قيد حياته- بألا ينشر الرواية في روسيا.
على غرار مجموعته القصصية "شيطانيات"، التي صدرت في السنة نفسها (1925)، يوجه بولغاكوف نقدا مضمرا لمخرجات ثورة 1917 ومضمراتها، وكيف أصبحت البروليتاريا تتحكم في العباد والبلاد، تكاد تعصف باستقرارها، ملمحا، بمكر روائي، إلى أن من ينتمون إلى القاع الاجتماعي لا يمكنهم أن يرقوا بالمجتمع والدولة. مثلما لم يستطع الطبيب الجراح بريوبراجينسكي أن يحول الكلب شاركف إلى إنسان، حيث قام بزرع الغدة النخامية لإنسان في رأس الكلب، بينما كانت الغدة النخامية لشاب سكير، مما جعل الكلب، وقد تمثلَ لنا بشرا سويا في تضاعيف الرواية، يتحول إلى كائن عدواني ومعربد، سيطلق عليه أحدهم اسم بوليغرافيتش، وسيمنحه وظيفة في بلدية موسكو، وسيحرضه ضد صانعه وسيده وولي نعمته الطبيب بريوبراجينسكي. وهنا، لم يفقد الكلب المتحول والمتحور، الصفات الإنسانية وحدها، بل حتى الصفة الكلبية الملازمة التي هي صفة الوفاء. ولذلك سوف يقوم الطبيب بإرجاع الكلب إلى وضعه الأصلي الطبيعي، معترفا بفشله في عملية تحويل الكلب إلى إنسان، هو الذي كان هدفه في البداية القيام بتجربة مخبرية للوصول إلى سر تجديد الشباب.