5 روايات عالمية خالدة تحدثت عن عالمنا الراهن قبل مائة عام

بولغاكوف وجيد ودرايزر ولويس وأيالا

5 روايات عالمية خالدة تحدثت عن عالمنا الراهن قبل مائة عام

هي خمس روايات صدرت قبل مائة عام، نستعيد أحداثها الكبرى، وجمالياتها الخاصة، والسياقات التي كتبت فيها. إنها "روايات ما بين الحربين"، كتبت بعد الحرب العالمية الأولى، وتنبأت بالثانية وما بعدها، حين افتقدت ما يكفي من جرعات الأمل والوعد بالسعادة في عالم مريب. هنا رحلة في عوالم روايات من روسيا وفرنسا وإسبانيا وأميركا، تباينت أساليبها الكتابية وجغرافياتها السردية، والتقت في تشخيص محنة الإنسان والعالم قبل مائة عام.

بولغاكوف و"قلب كلب"

إذا كان بطل رواية "المحاكمة" لفرانز كافكا أعلنها في نهاية الرواية: "ها أنا أموت مثل كلب حقير"، وفق قانون "المسخ" الكافكاوي، فإن رواية "قلب كلب" للكاتب الروسي ميخائيل بولغاكوف، الصادرة في السنة نفسها (1925)، هي أقرب إلى رواية "تحريات كلب"، لكافكا نفسه. بينما تحكي رواية بولغاكوف قصة كلب خضع لعملية جراحية جعلته يتخذ هيئة بشرية، حيث تحول الكلب شاركف، مؤقتا، إلى إنسان يعمل نائبا لمدير قسم تطهير موسكو من الحيوانات الشريدة، ليجدها فرصة سانحة للانتقام من القطط، خصومه "الأيديولوجيين"، إذا شئنا أن نستعير لغة بولغاكوف الساخرة، التي كتب بها هذا العمل الأدبي التاريخي. ذلك أنها رواية "الكوميديا السوداء" بلا منازع، ونموذج الأدب الهجائي، وقد جرى فيها مجرى أستاذيه غوغول وتشيخوف، حيث لا ثالث لهما إلا هو نفسه ميخائيل بولغاكوف.

ولئن كان كافكا أوصى بعدم نشر روايته، ليخونه صديقه ماكس برود وينشر الرواية بعد سنة من وفاته، أي في العام 1925، فإن رواية "قلب كلب" التي صدرت في ذلك العام لن تطبع في روسيا إلا عام 1987، بعد 47 سنة من وفاة مؤلفها، ذلك أن أصدقاء الكاتب هم الذين أشاروا عليه -قيد حياته- بألا ينشر الرواية في روسيا.

على غرار مجموعته القصصية "شيطانيات"، التي صدرت في السنة نفسها (1925)، يوجه بولغاكوف نقدا مضمرا لمخرجات ثورة 1917 ومضمراتها، وكيف أصبحت البروليتاريا تتحكم في العباد والبلاد، تكاد تعصف باستقرارها، ملمحا، بمكر روائي، إلى أن من ينتمون إلى القاع الاجتماعي لا يمكنهم أن يرقوا بالمجتمع والدولة. مثلما لم يستطع الطبيب الجراح بريوبراجينسكي أن يحول الكلب شاركف إلى إنسان، حيث قام بزرع الغدة النخامية لإنسان في رأس الكلب، بينما كانت الغدة النخامية لشاب سكير، مما جعل الكلب، وقد تمثلَ لنا بشرا سويا في تضاعيف الرواية، يتحول إلى كائن عدواني ومعربد، سيطلق عليه أحدهم اسم بوليغرافيتش، وسيمنحه وظيفة في بلدية موسكو، وسيحرضه ضد صانعه وسيده وولي نعمته الطبيب بريوبراجينسكي. وهنا، لم يفقد الكلب المتحول والمتحور، الصفات الإنسانية وحدها، بل حتى الصفة الكلبية الملازمة التي هي صفة الوفاء. ولذلك سوف يقوم الطبيب بإرجاع الكلب إلى وضعه الأصلي الطبيعي، معترفا بفشله في عملية تحويل الكلب إلى إنسان، هو الذي كان هدفه في البداية القيام بتجربة مخبرية للوصول إلى سر تجديد الشباب.

"قلب كلب" تعود بنا إلى مصادر الكتابة الروائية وأصولها، ممثلة في الحكاية الخرافية بأبعادها الرمزية الناصعة والمعبرة، منذ "كليلة ودمنة"، مرورا بحكايات لافونتين، وصولا إلى أعمال الكوميكس

عمل سردي ساخر كتب بمعرفة روائية زاخرة، كيف لا وكاتبها هو طبيب الرواية الروسية. وهو طبيب فعلا، تخرج من جامعة كييف، قبل سنة من اندلاع الثورة البلشفية، وعمل طبيبا في المستشفيات العسكرية في سني الحرب. وإذا كانت رواية "قلب كلب" تذكرنا بمزرعة جورج أوريل، والكلب السيد بونز في "تمبوكتو" لبول أوستر، مثلما تذكرنا برواية "حين تركنا الجسر"، لعبد الرحمن منيف، وبطلها الكلب زهران، ثم "اللص والكلاب" لمحفوظ،... فإن "قلب كلب" تعود بنا إلى مصادر الكتابة الروائية وأصولها، ممثلة في الحكاية الخرافية بأبعادها الرمزية الناصعة والمعبرة، منذ "كليلة ودمنة"، مرورا بحكايات لافونتين، وصولا إلى أعمال الكوميكس وسينما التحريك.

رواية "قلب كلب"

أندره جيد و"المزيفون"

تبقى رواية "المزيفون"، أو "مزيفو النقود" للكاتب الفرنسي أندره جيد واحدة من أعظم روايات القرن العشرين. وقد صنفتها صحيفة "غارديان" على أنها واحدة من أفضل عشر روايات في التاريخ. هذه الرواية التي صدرت سنة 1925 ستكون من جملة النصوص التي رشحته لينال جائزة نوبل لعام 1947، إلى جانب "أقبية الفاتيكان" و"اللاأخلاقي" و"المستهتر" و"الباب الضيق".

يرى متتبعو المجد الأدبي لهذا الكاتب الاستثنائي أنه، وبخلاف مارسيل بروست الذي اختار الغوص في الماضي، ليصنع منه مجده الأدبي مع رائعة "البحث عن الزمن المفقود"، سعى أندره جيد إلى التخلص من الماضي الذي عاشه بألم، ليقبل على الحياة بلا حسيب ولا رقيب، مشككا في القيم نفسها التي تؤطر حياتنا. وقد انطلقت الرواية من تساؤلين جوهريين يؤطران سيرورة الكتابة عند جيد. التساؤل أولا كيف ينبغي أن نعيش هذه الحياة، ثم التساؤل عن الطريقة التي نكتب بها الرواية نفسها. ففي الرواية تخاطب ليليان روبير بكثير من السخرية "أتريد أن أقول لك يا عزيزي؟ إنك تملك جميع صفات الأديب: فأنت مغرور، خبيث، طماع، متلون، أناني...". ثم تعرّف ليليان الرواية بأنها فن الإصغاء، بينما يقدم لنا بطل الرواية برنار تصوره للكتابة الروائية، حيث يقول مخاطبا صديقه أوليفييه: "إن ما أريده هو أن أروي تاريخ مكان لا تاريخ شخص. إليك مثلا تاريخ ممشى حديقة كهذا، أريد أن أقص ما يجري فيه منذ الصباح حتى المساء".

AFP
صورة للكاتب الفرنسي أندره جيد

ولعل في هذا التمثل النظري ردا استباقيا على النقاد الذين بالغوا في اعتبار "المزيفون" عملا مستلهما من سيرة أندره جيد وحياته الخاصة. وإن كانت الرواية نقدا صريحا لقيم البورجوازية الفرنسية التي ينحدر منها أندره جيد منذ أواخر القرن التاسع عشر، فها هو يخاطب أوليفييه مرة أخرى: "يا لطيف! البورجوازيون الفضلاء لا يدركون أن المرء قد يكون فاضلا بشكل مختلف عنهم".

والحق أن "المزيفون" إنما كانت من الأعمال الروائية السباقة نحو استثمار اليوميات والرسائل في بناء العالم الروائي، بدءا برسالة الابن الذي ترك رسالة لوالده غير الحقيقي، ثم رسالة لاورا إلى إدوار، تليها يوميات إدوار نفسه في الفصل التالي من الرواية. وهي يوميات نفسية إذا صح التوصيف، تكتب سيرة الوعي واللاوعي، وتسبر أغوار النفس البشرية، كما يليق برواية عظيمة.

ترقى رواية جيد إلى درجة من التأمل والتفكير والتجريد متخلصة من مذهب الواقعيين في العناية بالوصف والتفاصيل الحسية والمادية

رواية أندره جيد تنشغل بالوجود النفسي والحلمي والشعري للكائن، ذلك أنه "ما من شيء موجود بالنسبة إلي إلا شعريا"، كما نقرأ في يومية إدوار، وحيث "الواقعي لا يتميز عن الخيالي على صعيد العواطف"، كما يرد في يومية أخرى من يومياته. وهنا ترقى رواية جيد إلى درجة من التأمل والتفكير والتجريد متخلصة من مذهب الواقعيين في العناية بالوصف والتفاصيل الحسية والمادية. وهذا ما يعلنه إدوار صراحة بعدما "هز إدوار كتفيه وأطبق المذكرات على الرسائل"، ثم "قال لنفسه"، وجب أن نشدد على العبارة "قال لنفسه" إن الروائيين "بوصفهم الدقيق جدا لشخصياتهم يزعجون المخيلة أكثر مما يخدمونها، وإن عليهم أن يتركوا كل قارئ يتخيل هذه الشخصيات كما يحلو له". لتكون مثل هذه الرؤى النقدية إشارات ملهمة لأصحاب نظريات التلقي وفعل القراءة منذ الستينات، وللباحثين بعدها عن موقع القارئ من الرواية كما هو الحال عند أمبرتو إيكو وأتباعه. ثم ما بعدها، فإن إدوار "فكر في الرواية التي بعدها، والتي يجب ألا تشبه في شيء ما كتبه حتى الآن".

رواية "المزيفون"

ثم يعلن أندره جيد مذهبه الروائي بصريح العبارة التي ترد على لسان بطله: "تعرية الرواية من جميع العناصر التي لا تنتمي إلى الرواية بنوع خاص". وهو يشبّه الروائي بالفنان التشكيلي المعاصر، الذي لم يعد مهتما بالتفاصيل والعناية بها، بعد ظهور التصوير الفوتوغرافي. مثلما ينبهنا أندره جيد إلى ظهور السينما، التي باتت تتكفل نقل الواقع بدقة مادية، بينما على الرواية أن تسبر أغوار النفس البشرية وتنفذ إلى أسرارها، كما تقدم.

درايزر و"التراجيديا الأميركية"

يقينا، وباستقراء تاريخ الأجناس الأدبية، تمثل الروايةُ التراجيديا المعاصرة في عالم اليوم. ربما لهذا السبب أحس الكاتب الأميركي الشهير ثيودور درايزر بضرورة كتابة "التراجيديا الأميركية"، روايته التي أصدرها سنة 1925، بعد خمس سنوات من التأمل والتردد والبحث والصياغة. ثيودور درايزر هذا هو مهندس الرواية الواقعية في الولايات المتحدة، ليس فقط لأنه كتب عن الصراع الطبقي والتفاوت الاجتماعي في بلده، وإنما هي واقعية بالمعنى المرجعي لكتابة الواقع. ففي هذه الرواية، مثلا، سوف يستند كاتبها، بحسه الصحافي، وتجربته المهنية الواسعة، إلى جريمة حقيقية حدثت عام 1908، حيث احتفظ بجميع القصاصات الصحافية التي واكبت جريمة مشوقة ارتكبها أحد الشباب بالتخلص من عشيقته بعد حملها، حيث ألقى بها في النهر، بعدما استدرجها للقيام بجولة على متن قارب. وهي الخطة نفسها التي نفذها بطل الرواية كلايد غريفيث في حق عشيقته روبيرتا ألدين.

GettyImages
الكاتب الأميركي ثيودور درايزر يدوّن ملاحظات قبل سفره إلى روسيا لدراسة الشيوعية

المفارقة أن شابا آخر، لا يقل تهورا عن كلايد، ولا عن تشيستر غيليت الضالع في الجريمة الحقيقية لسنة 1908، نفذ الجريمة نفسها في حق عشيقته، سنة 1934، ليقرر القضاء إعدامه بواسطة كرسي كهربائي، على غرار ما حدث لكلايد غريفيث في رواية "التراجيديا الأميركية". هنا تتبدل الأدوار وتغدو الرواية مرجعا للواقع، في أقصى درجات التماهي بين التخييلي والواقعي في تجربة ثيودور درايزر، منذ روايته الأولى "الأخت كاري"، سنة 1900، التي تقتفي مصائر النساء بوصفهن ضحايا مجتمع ذكوري يزدري المرأة ويجهض أحلامها.

درايزر هو مهندس الرواية الواقعية في الولايات المتحدة، ليس فقط لأنه كتب عن الصراع الطبقي والتفاوت الاجتماعي في بلده، وإنما هي واقعية بالمعنى المرجعي لكتابة الواقع

لكن "التراجيديا الأميركية" ليست مأساة امرأة أو شاب يتعرض للإعدام، بل مأساة قيم وانحلال أخلاقي، من خلال نموذج الشاب اللاأخلاقي، المستهتر بالمشاعر الإنسانية، والمنتهك كرامة النساء والمجتمع سواء بسواء. فقد تسلح درايزر بموقف نقدي حيال المجتمع الأميركي، جعل أعماله موضع رقابة مستمرة، بينما عرف هذا الكاتب "اليساري" بمواقفه المنافحة عن حقوق الأقليات والمضطهدين.

رواية "التراجيديا الأميركية"

سنكلير لويس و"أوروسميث"

لا حرج في أن تكون غالبية روايات 1925 من الولايات المتحدة الأميركية، فقد كانت أميركا الشمالية تحمل مشعل الرواية إلى حدود الأربعينات، حين انتقلت شمس الرواية إلى سماء أميركا اللاتينية. أما عام 1925 فهو عام استثنائي في تاريخ الأدب الأميركي، ذلك أن سنكلير لويس سيكون أول أميركي يتوج بجائزة نوبل للآداب. هو الذي أصدر في تلك السنة عملا روائيا ضخما تحت مسمى "أوروسميث" بطل الرواية الشاب الطموح، الذي يدرس الطب في جامعة "وينماك". من المفارقات التي نطالعها في هذه الرواية أن مارتن أوروسميث كان يستطيع القراءة باللغة العربية، وكثيرا ما أزعج أو أحرج زملاءه وأساتذته حين أكد أن العرب كانوا سباقين إلى علم الكيمياء، "وقد أغضب زملاءه الكيميائيين بإثبات أن العرب سبقوهم جميعا في هذا المضمار"، نقرأ في هذه الرواية التي تدين الفساد والأفق المادي المحدود للمجتمع الأميركي يومها، بينما هي تمجد القيم الإنسانية السامية، كما يرد ذلك على لسان برومفيت، الطالب الجامعي المزاجي: "إننا معشر العلم ذوي العقيدة السخيفة في الجمال والولاء والأمانة، والعالم المثالي المنشود، بعيدون عن الصواب"، وهو يرى أن أستاذه غوتليب "يعرف كل ما يتصل بالقوى المادية، ولكن ما يروعني أن مثل هذا الرجل يمكن أن يكون أعمى بالنسبة للروح".

AFP
صورة غير مؤرخة من ثلاثينات القرن الماضي للروائي الأميركي سنكلير لويس

في هذه الملحمة الروائية، على مدى 600 صفحة، نحن أمام موسوعة في عالم الطب والأوبئة والأدوية واللقاحات، لتكون بذلك "رواية المعرفة" مثلما هي "رواية الأخلاقيات"، وهي تحكي سيرة طالب الطب مارتن أورسميث، الذي تابع دراسته في جامعة وينماك، وكاد يتخلى عن استكمال دراسته حين أدمن الكحول، وانغمس في ملذات المدينة الأميركية الحديثة، لولا أنه عاد بقوة ليحقق طموحه ويحصل على دكتوراه في علم البكتيريا. وقد جعل مارتن من أستاذه غوتليب نموذجه وقدوته، وهو المعروف بإدانته الأطباء الجشعين. التحق مارتن بأهم المعاهد الطبية المتخصصة في صناعة الأدوية واللقاحات، وواجه انطلاقا من مختبراتها عددا من الأوبئة والأمراض، مثل التيفوئيد والدافتيريا والإنفلونزا وأمراض السل والزهري والالتهاب الرئوي. ورغم فشله في بداياته الأولى، سوى أنه ظل وفيا للمذهب العلمي، كما كان يقول أستاذه البروفسور الزاهد غوتليب، يرفض من جهة إغراءات المتاجرين بالأدوية وصحة المواطنين، ويتحدى اللاهوتيين وخطاباتهم التي تذرع الكنائس، وتحد من طموح العلماء في البحث والتجربة من أجل إنقاذ أرواح الناس. هي كما جاء في الرواية "ترجمة سيرة شاب لم يكن في عداد الأبطال ولكنه كان يعتبر نفسه باحثا عن الحقيقة". فهو "كان يتعثر ويصاب بنكسات في الحياة، وقد مضى على غرار غوتليب الذي كان يرفض احتكار بعض الشركات للأدوية وتجارة العقاقير، خاصة شركة داوسون وشركائه".

في هذه الملحمة الروائية، على مدى 600 صفحة، نحن أمام موسوعة في عالم الطب والأوبئة والأدوية واللقاحات، لتكون بذلك "رواية المعرفة" مثلما هي "رواية الأخلاقيات"

ينتصر صاحبنا في كل ذلك لما سماه "عقيدة العالِم"، الذي جعل منه طبيبا يبحث عن الحقيقة، على عكس زملائه الذين يسعون نحو الشهرة والمال. وفي ذلك نقد صريح للسياسات الدوائية والمؤسسات الصحية والعاملين فيها من أطباء إحيائيين وغيرهم. يقول صاحبنا كما جاء في المتن: "إنني أرتكب أخطاء كثيرة، لكن شيئا واحدا أحافظ عليه نقيا، وهو عقيدة العالِم". وبعدما راكم الطبيب الشاب تجربة ضافية في المختبرات، سوف ينتدبه معهد ماكغورك للالتحاق بالهند الغربية، من أجل مواجهة الطاعون الذي طوى البلاد وداهمها. اصطحب معه الطبيب الحديث العهد بالزواج زوجته لورا، واستطاع أن ينقذ أرواح الآلاف حين لقحهم ضد الوباء بمصل مضاد للبكتيريا، اخترعه ودوره بمعرفته المتفانية، لكن الطاعون، أو "الموت الأسود" اللعين، سوف ينتقم منه بطريقته القذرة، حين قضى على حبيبته لورا، فعاد صاحبنا إلى نيويورك، مشدوها من هول المفارقة، ما بين الإحساس بالانتصار على الطاعون، حين بات اسمه يتردد في مدرجات الجامعات ومختبرات المراكز الطبية، وفي أروقة البرلمان وصولا إلى رئاسة الدولة، وما بين الإحساس بالانكسار، وقد فقد حبيبته التي عاشت معه أجمل أحلامه وأيامه، بتطلعات ريفيين بسيطين يحلمان بالقليل لهما، وبالكثير والجميل للإنسانية. لكنه حين عاد إلى نيويورك سوف يحظى بتقدير كل المؤسسات، وترحيب من لدن "علية القوم"، وقد أصبح مصدر فخر واعتزاز. وهنا سيلتقي بالثرية جويس، وسيتزوجها لينتقل إلى أرقى طبقات المجتمع الأميركي، حيث بات مطالبا بحضور الحفلات والاجتماعات واللقاءات الرسمية، إلى أن صار مطالبا برئاسة معهد يكرس التوجه الرسمي للسياسة العمومية الرسمية، والتي ظل مارتن من أشد منتقديها. ضاق صاحبنا ذرعا بهذه الأجواء والأوساط التي صارت تمنعه من شغفه الأساس، الذي هو البحث العلمي، والتعبد في مختبره، بحثا عن أمصال ولقاحات جديدة، لكل الأمراض المعدية، وفي مقدمتها وباء الإنفلونزا، يومها. وهنا، سيلتحق صاحبنا بصديقه ورفيقه في الدراسة الطبيب تيري ويكت، المنعزل في بيته القروي الذي يحمل اسم "ملاذ الطيور"، تاركا زوجته وابنه، ليكرس حياته للبحث والتجربة. وفي أحد المساءات، استقل مارتن رفقة صديقه تيري قاربا بسيطا، حين طفت أحلامهما فوق النهر، حين خاطب مارتن رفيقه في لحظة مكاشفة: "إنني أشعر وكأنني أبدأ بحق في العمل... إن هذه المادة الكينينية قد تثبت نجاحها وفاعليتها.. سوف نزاول عملنا فيها عامين أو ثلاثة، وربما نحصل على شيء ثابت، وربما نفشل!". انتهت الرواية، دون أن تنتهي قناعات الحالمين بالأفضل. إنها رواية "البطل ذي الوجه الواحد"، الذي لم يبدل تبديلا، وظل وفيا لأخلاقيات مهنته، من خلال رواية برعت في تقديم رؤيته.

رواية "أوروسميث"

والأكيد أن قارئ اليوم، وهو يطالع هذه الرواية، سوف يتذكر أيام جائحة كوفيد19، وقلق الحجر الصحي الأخير، الذي عاشه العالم قبل مائة عام من اليوم، بسبب الطاعون، أو وباء الإنفلونزا.

أيالا و"تراجوكوميديا"

ينتهي بنا المطاف في إسبانيا، هنا حيث بزغت أول رواية "تراجيدية كوميدية"، بقلم الكاتب الإسباني الكبير فرنسيسكو أيالا، أحد أفراد جيل 27، لوركا وألبيرتي وساليناس وبيثنتي ألكسندري وغيرهم. إنها رواية "تراجوكوميديا رجل بلا روح"، للكاتب المثير للجدل، الذي عاش أزيد من مائة عام، وحاز جائزة ثرفانتس وقبلها الجائزة الوطنية للرواية. إنه فيلسوف الرواية الإسبانية، وكان من الرعيل الأول الذي حصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة مدريد في بداية العشرينات، والتحق بألمانيا، حيث تعرف إلى أعلام وعلامات المدارس الفلسفية الألمانية الرائدة.

إنها رواية "البطل المهزوم"، وهي تروي سيرة كائن مجهول الهوية، "بلا روح"، منذ ولادته حتى وفاته، حيث يقضي حياته تحت سلطة الطاعة والإذعان، والخضوع للقواعد والقيم التي يفرضها المجتمع

أفاد أيالا من الإرث المسرحي الأوروبي، ليكتب أول رواية تراجوكوميدية، والحال أن المسرحية التراجوكوميدية هي تلك التي تجمع بين التراجيديا والكوميديا حيث يتعاقبان في العمل الواحد، حسب التعريف المعتمد لمعجم أوكسفورد. هكذا، نلفي في رواية أيالا الكثير من السخرية ونلتمس من أحداثها الكثير من المواقف الهزلية والمشاهد المضحكة، ولكنه ضحك كالبكاء، بعبارة المتنبي. إنه خطاب الكوميديا السوداء الذي تصاعد في سردية ما بعد الحرب العالمية، موجها نقده اللاذع للاختيارات والقرارات السياسية، بكثير من مكر المجاز وحيل الهزل والتعريض. ومن جهة أخرى، كانت رواية أيالا من الأعمال السباقة إلى توظيف الرسائل والمخطوطات في الرواية، على غرار "المزيفون" لأندره جيد، وذلك عبر مرويات نتعرف فيها إلى سيرة بطل الرواية ميغيل، فضلا عن المواقف الساخرة وأخرى الدرامية رفقة باقي الشخصيات الرئيسة: كورنيلو ودون لوثيتو.

رواية "تراجوكوميديا"

يتفق النقاد الإسبان على أن هذه الرواية إنما تمثل محاولة مبكرة وجريئة من قبل مؤلف شاب لتجديد النثر الإسباني، حيث أدرجوا الرواية في إطار السرد الطليعي، لكنها تشي أيضا باهتمامات أخلاقية ووجودية ستطبع كل أعمال أيالا اللاحقة.

لقد أثر نفيه بعد الحرب الأهلية واتصاله بالفكر الأوروبي والأميركي بعمق في رؤيته النقدية للسلطة والتاريخ، والفرد. ورغم أن أعماله الأكثر شهرة تنتمي إلى فترة النضج، فإن نصوصا مثل "تراجوكوميديا رجل بلا روح" تكشف بالفعل عن رؤية معقدة للكائن البشري في مواجهة المجتمع وذاته. فمن خلال أسلوب مبتكر ورمزي، يقدم أيالا سخرية واضحة ومريرة من مجتمع عصره. العنوان نفسه، "تراجيكوميديا رجل بلا روح"، يكشف عن النبرة الساخرة واليائسة، معا، التي يرسم بها المؤلف صورة البطل: شخصية تمثل فقدان الإرادة والفكر الخاص والأصالة في عالم مضطرب. رواية تعكس لنا مدى تأثر أيالا الكاتب والفيلسوف بأطروحات شوبنهاور وكيركيغارد ونيتشه وأورتيغا إيغاسيت وبيرانديللو وكافكا، من خلال سردية جديدة، جمعت ما بين التعبيرية والوجودية، مع روح عبثية أيضا. وقد أكدت هذه الرواية رغبة سردية عارمة في القطع مع أساليب الكتابة التقليدية، حيث يُجمع النقاد مرة أخرى على وصفها بالرواية الطليعية.

AFP
رئيس الوزراء الإسباني السابق خوسيه لويس رودريغيز ثاباتيرو يهنئ الكاتب فرنسيسكو أيالا بعد منحه وسام "مواطن فخري" لمدينة غرناطة، 3 فبراير 2006

ثم إنها رواية "البطل المهزوم"، وهي تروي سيرة كائن مجهول الهوية، "بلا روح"، منذ ولادته حتى وفاته، حيث يقضي حياته تحت سلطة الطاعة والإذعان، والخضوع للقواعد والقيم التي يفرضها المجتمع، دون أي قدرة على النقد أو التمرد. ويراهن فرنسيسكو أيالا على الصرح المسرحي كثيرا، مستحضرا قناعيه الكبيرين: التراجيديا والكوميديا، في تقاطعهما، مثلما يقدم لنا أحداث الرواية والمواقف التي تتعرض لها الشخصيات، في صيغة مشاهد مسرحية، مستعيرا هذه المشهدية من التصميم المعماري للعمل المسرحي.

font change