ماذا نعرف عن "نوبة الهلع" عندما يتحول الدماغ نجما ملتهبا

تصل الأعراض إلى ذروتها في دقائق وتشمل ضيق التنفس والتعرق والارتعاش الى الرعب والاحساس بالهلاك

ماذا نعرف عن "نوبة الهلع" عندما يتحول الدماغ نجما ملتهبا

كان يوما عاديا لشاب ثلاثيني العمر رُزق بمولوده الأول قبل أيام. فجأة، غامت السماء أمام ناظريه، وارتفعت دقات قلبه فكاد يسمعها، وتعرقت كفاه، وشعر بأن هواء الدنيا غير كافٍ لرئتيه. على الفور، انتقل الشاب الى المستشفى، وعلى مدار أيام تالية، قام الأطباء بإجراء فحوصات طبية معمقة لم تُسفر عن شيء. أخبره أحد الأطباء إن ذلك العرض يحتاج طبيبا نفسيا.

شُخّص الشاب باضطراب الهلع (نوبة الهلع: "Panic attack") غير المعروف السبب، ومن يومها إلى الآن تتكرر تلك النوبات، دون إنذار، أو محفزات، أو أسباب. أخبره طبيبه النفسي أن العلم لا يعرف الأسباب الكامنة وراء نوبات الهلع، وأن السيطرة عليها لن تكون سهلة على الإطلاق.

الآن، يبدو أن العلماء على بعد خطوة واحدة من معرفة تلك الأسباب العصبية وراء الإصابة بالهلع، بعدما تمكن باحثون من معهد "سالك" الأميركي للدراسات البيولوجية من رسم خريطة للمناطق والخلايا العصبية والوصلات الدماغية التي تلعب الدور الرئيس في الإصابة بنوبات الهلع.

وبحسب ما ورد في دراسة منشورة في دورية "نيتشر" فإن تلك الخريطة يمكن أن توفر إرشادات لتطوير علاجات أكثر فاعلية لاضطرابات الهلع.

ما هي "خريطة الهلع الدماغية" : Panic Attack Pathway Mapping (PAPM)

نوبات الهلع هي نوبات مفاجئة ومكثفة من الخوف الشديد أو القلق الذي يظهر عاطفيا وجسديا. ويمكن أن تكون هذه النوبات مؤلمة ومنهكة للأفراد الذين يعانون منها، وغالبا ما تؤدي إلى الشعور بفقدان السيطرة أو الهلاك الوشيك.

تحدث نوبات الهلع بشكل غير متوقع، تصل الأعراض عادةً إلى ذروتها خلال دقائق وتشمل سرعة ضربات القلب، والخفقان، وضيقاً في التنفس، والتعرق، والارتعاش، علاوة على الخوف الشديد، الشعور بالانفصال عن الواقع، والخوف من الموت

وتُعَدّ نوبات الهلع شديدة الانتشار، فعلى الرغم من اختلاف شدتها ومدى تكرارها، عانى 90 في المئة تقريبا من البالغين من نوبة هلع واحدة على الأقل في حياتهم.

ويمكن أن تحدث نوبات الهلع بشكل غير متوقع أو استجابة لمحفزات معينة. تصل الأعراض عادةً إلى ذروتها خلال دقائق وتشمل سرعة ضربات القلب، والخفقان، وألماً أو انزعاجاً في الصدر، وضيقا في التنفس، والتعرق، والارتعاش، علاوة على الخوف الشديد، أو الرعب، أو إحساس الهلاك الوشيك، والشعور بالانفصال عن الواقع، والخوف من فقدان السيطرة أو الموت.

Sutterstook
صورة تعبيرية، لشخص مشتت ذهنيا يعاني من نوبة هلع

وعلى الرغم من عدم معرفة الأسباب الكامنة وراء تلك النوبات، إلا أن نوبات الهلع ترتبط بمجموعة من الأسباب والعوامل المختلفة، من ضمنها التوتر الشديد أو الضغط الناتج من العمل أو العلاقات أو أحداث الحياة، كما يمكن أن يؤدي الكحول أو الكافيين أو بعض الأدوية أو تعاطي المخدرات إلى إثارة نوبات الهلع لدى بعض الأفراد، وقد يساهم التاريخ العائلي لاضطرابات القلق أو التجارب المؤلمة في احتمال التعرض لنوبات الهلع.

لكن، وبحسب سونج هان، الأستاذ المشارك في معهد "سالك" والمؤلف الرئيس للدراسة، فإن الأسباب العصبية لنوبات الهلع مجهولة تماما "لذا قمنا باستكشاف مناطق مختلفة من الدماغ لفهم أين تبدأ نوبات الهلع"، كما يقول في تصريحات خاصة لـ"المجلة".

الدماغ البشري شبكة معقدة من المناطق المترابطة، ولكل منها وظائفها المتخصصة. من بين هذه المناطق، تبرز اللوزة الدماغية كمركز بالغ الأهمية، وغالباً ما يشار إليها باسم مركز الخوف في الدماغ

مركز الخوف في اللوزة الدماغية 

يعتبر الدماغ البشري شبكة معقدة من المناطق المترابطة، ولكل منها وظائفها المتخصصة. من بين هذه المناطق، تبرز اللوزة الدماغية كمركز بالغ الأهمية، وغالبا ما يشار إليها باسم مركز الخوف في الدماغ.

Sutterstook

يقع هذا الهيكل اللوزي الشكل في أعماق الفص الصدغي، ويلعب دورا محوريا في معالجة المشاعر، وخاصة الخوف والقلق. للوزة الدماغية دور فاعل في معالجة العواطف، وخصوصا الخوف. إذ تقوم بتقييم المعلومات الحسية الواردة، والكشف عن التهديدات المحتملة في البيئة، وإثارة الاستجابات المناسبة. يمكن أن يكون رد الفعل السريع والغريزي هذا منقذا للحياة في المواقف التي تتطلب اتخاذ إجراء فوري.

من خلال عملية تعرف باسم "تكييف الخوف"، تتعلم اللوزة الدماغية ربط المحفزات المحايدة بالأحداث المسببة للخوف. يساهم هذا التكييف في تكوين الذكريات المرتبطة بالخوف ويساعد الأفراد في توقع الأخطار المحتملة والاستجابة لها.

"لذا، لطالما اعتقدنا أن اللوزة الدماغية هي المنطقة التي تبدأ فيها نوبة الهلع"، يقول هان. إلا أن ذلك الاعتقاد تبين عدم صحته خلال العمل في تلك الدراسة، إذ اكتشف الباحثون أنه وحتى الأشخاص الذين لديهم ضرر في اللوزة لا يزالون يعانون من نوبات الهلع، "عرفنا في ذلك الوقت أننا بحاجة للبحث عن مكان آخر".

اتجهت أنظار الباحثين الى النواة الجانبية العضدية وهي منطقة صغيرة تقع في جذع الدماغ تشارك في مختلف الوظائف الفيزيولوجية وتلعب دورا مهما في معالجة المعلومات الحسية المتعلقة بالذوق والألم ودرجة الحرارة وبعض المشاعر.

تتلقى تلك النواة مدخلات من أجزاء مختلفة من الجسم، بما في ذلك الوجه والفم والأعضاء الداخلية، ثم تنقل هذه المعلومات الحسية إلى مناطق أخرى من الدماغ، مما يساهم في تنظيم الاستجابات الجسدية المختلفة، كما أنها مترابطة مع مناطق عدة في الدماغ، مما يسمح لها بالتأثير على الوظائف اللاإرادية مثل التحكم في معدل ضربات القلب وضغط الدم والتنفس، والاستجابات العاطفية، والإدراك الحسي، "من إحدى السمات المميزة للإصابة بنوبة هلع حدوث اضطرابات التنفس وضربات القلب. لذا، قمنا بفحص النواة الجانبية العضدية التي نعتقد أنها مسؤولة عن التحكم في تلك الحركات"، يقول هان.

فيروسات تغزو أدمغة الفئران

استخدم الباحثون نوعا خاصا من الفيروسات لتحديد خلايا دماغية محددة في الفئران. تبعث هذه الخلايا برسائل إلى مناطق الدماغ الأخرى المرتبطة بالعواطف مثل الخوف والأجزاء التي تتحكم في وظائف الجسم.

Sutterstook

باستخدام هذه الفيروسات، وجدوا أن تلك الخلايا العصبية تتصل بمناطق مهمة في الدماغ مسؤولة عن الخوف، مثل الجزء المركزي من اللوزة الدماغية، ونواة الدماغ في مناطق المخ الطرفية، ونواة الرفة الظهرية.

حدد الباحثون الدائرة العصبية الأولى التي تبدأ بها كل تلك الفوضى: بروتين صغير يبعث برسائل إلى جميع أنحاء الدماغ يسمى "PACAP"

من المثير للاهتمام أنهم اكتشفوا أن الخلايا التي تبعث -عبر مجموعة من المواد الكيميائية التي يفرزها الدماغ- برسائل إلى مناطق مختلفة من المخ يبدو أنها تساهم هي الأخرى في الإصابة بنوبات الهلع.

يقول هان: "يشبه الدماغ في حالة الإصابة بنوبة هلع نجما ملتهبا يُرسل ملايين الجزيئات في صورة إشارات عصبية في كل أنحاء المخ. فوضى كاملة يجب أن تُفكَّك إذا ما أردنا معرفة الأسباب الكاملة لذلك المرض".

حدد الباحثون الدائرة العصبية الأولى التي تبدأ بها كل تلك الفوضى، "تتكون هذه الدائرة من خلايا عصبية متخصصة ترسل وتستقبل الببتيد العصبي (بروتين صغير يبعث برسائل إلى جميع أنحاء الدماغ) يسمى Pituitary adenylate cyclase-activating polypeptide" (PACAP)".

لكن الأهم من ذلك أن الباحثين تأكدوا أيضا أن بروتين "PACAP" والخلايا العصبية التي تنتج مستقبلاته هي أهداف محتملة قابلة للعلاج "يعني هذا بشكل مباشر أن ذلك الاضطراب يمكن علاجه في المستقبل".

خريطة دماغية لاضطراب الهلع

للبدء برسم خريطة دماغية لاضطرابات الهلع، نظر الباحثون الى النواة الجانبية العضدية التي تُعَدّ مركز إنذار الدماغ، فمن المثير للاهتمام أن هذه المنطقة الصغيرة من جذع الدماغ تتحكم أيضا في التنفس ومعدل ضربات القلب ودرجة حرارة الجسم.

"أصبح من الواضح أن تلك المنطقة على الأرجح متورطة في إثارة الذعر وإحداث تغييرات عاطفية وجسدية"، يقول هان مشيرا إلى أنها تُنتج أيضا بروتينا صغيرا يُنشّط الغدة النخامية، التي تُعَدّ المنظّم الرئيس لاستجابات التوتر.

لكن الرابط بين هذه العناصر والبروتينات بقي غير واضح، لذلك لجأ الفريق إلى حيوانات التجارب.

حقن الفريق مجموعة من فئران التجارب ببروتينات عصبية لمحاكاة الإصابة بنوبة هلع ثم وضعوا الفأر داخل أجهزة رنين مغناطيسي لتصوير دماغه وملاحظة نشاط الخلايا العصبية لاكتشاف العلاقة الفريدة بين دوائر الدماغ واضطراب الهلع.

Sutterstook

ووجدوا أنه أثناء نوبة الهلع، يتم تنشيط الخلايا العصبية التي تفرز الببتيد العصبي "PACAP". بمجرد تنشيطها، تطلق رسول الببتيد العصبي إلى جزء آخر من الدماغ يسمّى الرفة الظهرية، حيث تنتشر الخلايا العصبية التي تعبر عن مستقبلات "PACAP". تعمل رسل ذلك الببتيد على تنشيط تلك الخلايا العصبية المستقبلة، مما يؤدي إلى ظهور أعراض سلوكية وجسدية مرتبطة بالذعر لدى الفئران.

الهلع والقلق

يقول هان إن هذا الارتباط بين اضطراب الهلع ودائرة الدماغ التي تفرز الببتيد كان خطوة مهمة إلى الأمام لرسم خريطة لاضطراب الهلع في الدماغ. ووجد الفريق أيضا أنه من خلال تثبيط إشارات الببتيد، يمكنهم تقليل أعراض الذعر - وهي نتيجة واعدة للتطوير المستقبلي للعلاجات الخاصة باضطراب الهلع.

على الرغم من تصنيف اضطراب الهلع على أنه اضطراب قلق، إلا أن هناك العديد من الأعراض التي يختلف بها الأول عن الثاني.

فالهلع يؤدي إلى ظهور العديد من الأعراض الجسدية، مثل ضيق التنفس، وخفقان القلب، والتعرق، والغثيان، لكن القلق لا يحفز تلك الأعراض كما أن نوبات الهلع لا يمكن السيطرة عليها وغالبا ما تكون عفوية، في حين أن اضطرابات القلق الأخرى، مثل اضطراب ما بعد الصدمة تعتمد بشكل أكبر على الذاكرة ولها محفزات يمكن التنبؤ بها. يقول هان إن هذه الاختلافات هي سبب أهمية إنشاء خريطة دماغية لاضطراب الهلع، حتى يتمكن الباحثون من إنشاء علاجات مصممة خصيصا لاضطراب الهلع.

يشبه الدماغ في حالة الإصابة بنوبة هلع نجما ملتهبا يرسل ملايين الجزيئات في صورة إشارات عصبية في جميع أنحاء المخ

سونج هان، الأستاذ المشارك في معهد "سالك"

ويقول هان: "نظرا الى أن القلق يبدو أنه يعمل بشكل مختلف مع دائرة الهلع الدماغية، سيكون من المثير للاهتمام أن ننظر إلى التفاعل بين القلق والذعر، لأننا نحتاج الآن إلى شرح كيف أن الأشخاص الذين يعانون من اضطراب القلق لديهم ميل أكبر للتعرض لنوبات الهلع".

يساعد رسم خريطة لمسارات الإشارات العصبية المرتبطة باضطراب الهلع العلماء ومتخصصي الرعاية الصحية في فهم الآليات البيولوجية الكامنة وراء هذه الحالة؛ فتحديد الدوائر والوصلات العصبية المحددة المشاركة في توليد أعراض الذعر يوفر نظرة ثاقبة للأساس الفيزيولوجي للاضطراب؛ كما يُمكن أن تساعد الخريطة الشاملة في عمليات التشخيص بشكل أفضل. ويمكن أن يساعد في تحديد المؤشرات الحيوية أو التوقيعات العصبية المحددة المرتبطة بالحالة، مما يسهل الكشف المبكر وأساليب العلاج الشخصية.

يشبه الدماغ في حالة الإصابة بنوبة هلع نجما ملتهبا يرسل ملايين الجزيئات في صورة إشارات عصبية في جميع أنحاء المخ... فوضى كاملة يجب أن تُفكَّك إذا ما أردنا معرفة الأسباب الكاملة لذلك المرض.

نسبة محاولات الانتحار

لكن الأمر الأهم أن رسم تلك الخريطة يمكن أن يساهم في التنبؤ باستجابات العلاج. يقول هان إن فهم الاختلافات الفردية في الدوائر العصبية قد يساعد في التنبؤ بكيفية استجابة الأفراد للعلاجات المختلفة، مما يؤدي إلى استراتيجيات علاجية أكثر تفصيلاً وفاعلية.

خلال دراسة سابقة أجريت على عينة سريرية مكونة من 100 مريض يعانون من اضطراب الهلع المزمن، كان لدى 42 في المئة منهم تاريخ من محاولات الانتحار. يرتبط الجنس الأنثوي والعزوبية أو الطلاق بزيادة خطر محاولة الانتحار. وتحدث 73.8 في المئة من محاولات الانتحار بعد نوبة الهلع الأولى و64.3 في المئة بعد بداية اضطراب الهلع. يقول هان إن ذلك الاضطراب المنهك "يحتاج إلى تضافر المزيد من الجهود لمعرفة الأسس البيولوجية الكامنة وراءه وتطوير علاجات تحمي ملايين الأشخاص من قتل أنفسهم".

من المرجح أن تكون الخريطة الأولية نقطة انطلاق، "فمن الضروري إجراء المزيد من التحقق من صحة مسارات الدماغ المحددة وتحسينها من خلال الأبحاث الإضافية والتجارب وتحليل البيانات"، على قول هان الذي يرى أن هذه العملية تتضمن الدقة والموثوقية في تحديد دوائر عصبية محددة مرتبطة باضطراب الهلع.

لكن؛ ماذا عن ترجمة نتائج الدراسات قبل السريرية إلى التطبيقات السريرية؟

يقول هان إن ذلك الأمر يحتاج الى تصميم دراسات تتضمن مشاركين من البشر للتحقق من أهمية مسارات الدماغ المحددة لدى الأفراد الذين يعانون من اضطراب الهلع: "يمكن استخدام تقنيات تصوير الدماغ، مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي أو التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني، لفحص هذه المسارات لدى الأفراد الذين يعانون من نوبات الهلع ثم استخدام المعرفة المكتسبة من الخريطة لتطوير التدخلات المستهدفة. لكن ذلك سيحتاج إلى مزيد من البحث والعديد من السنوات".

font change

مقالات ذات صلة