"بوكر" العربية لرواية ديستوبية تدور أحداثها في الماضي

"صلاة القلق" لمحمد سمير ندا ترسم صورة فانتازية للعالم من خلال قرية مصرية

"صلاة القلق" لمحمد سمير ندا

"بوكر" العربية لرواية ديستوبية تدور أحداثها في الماضي

بعد نحو 16 عاما على وصول رواية مصرية إلى التتويج بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر)، حيث كانت رواية "عزازيل" ليوسف زيدان عام 2009 آخر رواية تحرز هذه الجائزة، استطاعت "صلاة القلق" لمحمد سمير ندا (منشورات دار "مسكيلياني") أن تقتنص الفوز لهذا العام 2025 في منافسة قوية بين عدد من الروايات القوية والمتميزة من ست دول عربية هي، إلى مصر، سوريا ولبنان والعراق وموريتانيا والإمارات. جاء في حيثيات الفوز بالجائزة التي أعلنتها في العاصمة الإماراتية أبوظبي، رئيسة لجنة التحكيم لهذا العام الدكتورة منى بكير، أن الرواية "نجحت في تحويل القلق إلى تجربة جمالية وفكرية، يتردد صداها في نفس القارئ وتوقظه على أسئلة وجودية ملحة. كما نجح الكاتب في المزج بين تعدد الأصوات والسرد الرمزي بلغة شعرية آسرة، تجعل من القراءة تجربة حسية يتقاطع فيها البوح مع الصمت، والحقيقة مع الوهم".

تبدأ "صلاة القلق" بحادثة غريبة، حيث يسقط نيزك غريب يحدث دويا هائلا على قرية تدعى نجع المناسي، وكان من آثاره تحول وجوه أبنائها، بحيث بدت وجوههم أشبه بالسلاحف، ليخرج شيخ القرية معلنا أن ما حدث هو نتيجة غضب الله على القرية. تتوالى الأحداث الغريبة على الأهالي، فيبدأون بالبحث عن وسيلة للخلاص، فإذا بالشيخ يقترح عليهم صلاة يسميها "صلاة القلق" لها طقوس خاصة، فيستجيب له أكثرهم، لكن الأحداث لا تتوقف، بل تتكشف أحداث وأسرار أخرى في تلك القرية.

لا تمثل نجع المناسي قرية عادية في صعيد مصر، بل نتعرف فيها الى تلك العزلة التي فرضت عليها منذ أحداث حرب عام 1967

لا تمثل "نجع المناسي" قرية عادية في صعيد مصر، بل نتعرف فيها الى تلك العزلة التي فرضت عليها منذ أحداث حرب عام 1967، وفي الوقت الذي نعرف فيه أن هزيمة مصر أمام إسرائيل حدثت في ذلك التاريخ، فإن عزلة عن أحداث العالم الخارجي تفرض على تلك القرية من خلال خليل الخوجة الذي يكون بمثابة وزير إعلام القرية والوسيلة الوحيدة لمعرفة ما يجري خارجها، إذ يوهم الجميع أن الانتصار قد حدث، وأن الجيش المصري تمكن من تحرير فلسطين، بل أن الرئيس عبد الناصر لا يزال يتحدث الى الناس ويمارس سلطته، فيما تنقطع كل وسائل الاتصال الأخرى عن القرية، ويفاجأ الناس أن أبناءهم الجنود لا يعودون من الحرب.

محمد سمير ندا

بناء ثري

لعل أكثر ما يميز الرواية، اعتمادها على أكثر من فكرة ومن خيط سردي لتجذب القارئ إلى عالمها الذي يبدو غرائبيا، إلا أن الكاتب ينسج تفاصيله من الواقع، ففي الوقت الذي تبدأ بالفكرة الفانتازية الغريبة، وافتراض تاريخ بديل لهذه القرية المعزولة، يعود ندا ليبني عددا من الشخصيات الشديدة الثراء، تلك الشخصيات الثماني التي يرى فيها أنها هي التي تصنع الأوطان، لذلك يركز على بنائها ودورها، ويسعى لأن يمنح كل واحد منها صوته ويبني عالم النجع من خلالها، بدءا من نوح النحال الذي خاض رحلة شاقة من القاهرة إلى نجع المناسي، وتعلق بالحلم التاصري وكفر به على حد سواء، إلى محروس الدباغ وعاكف الكلاف وحامد النساج والغجرية شواهي والداية وداد وجعفر الولي وغيرهم. ومع كل شخصية منهم نتعرف الى مشكلات هذا العالم البسيط وأزماته وتحدياته، وكيف يسعى كل واحد فيه للخلاص من تلك العزلة المفروضة عليهم، ولكن المفاجأة أن أحدا منهم لا يتمكن من ذلك. وعبر بناء تلك الشخصيات وثراء عالمها، يجذبنا الكاتب حتى يصل بالقارئ إلى النهاية المفاجئة التي تكشف الكثير من غموض أحداث الرواية.

بناء العالم والتخلص من الوهم

بعد أن نتعرف الى أحداث القرية وتفاصيل عالمها وما دار بين شخصياتها، يأتي فصل الختام بعنوان "هوامش كاتب الجلسات"، الذي يبدو بمثابة التعريف والكشف أو نهاية الرحلة الثرية التي خاضها القارئ، ساعيا الى كشف اللثام عن الألغاز التي تناثرت على طول الرواية، ليكتشف أن فصولها المعنونة باسم "جلسات"، لم تكن إلا اعترافات من أحد أفراد هذه القرية، وهو حكيم، الذي عرفنا أنه أبكم.

لم أعرف كيف ترسم حدود الأوطان بالألغام ولافتات التحذير، والأسلاك الشائكة، ولأي غاية تسال من أجلها شلالات الدم بغير حساب

وأنه يفعل ما طلبه منه الطبيب المعالج، وهنا ينقلب السحر على الساحر، وتتقافز الأسئلة في ذهن القارئ: هل كان ما قرأه محض خيال وهلوسات من مريض أم أنه حقيقة واقعية يرويها المتضرر في نهاية المطاف؟ هنا تبدو الكتابة وسيلة الكاتب/ السارد لبناء العالم والتخلص مما فيه من وهم ودمار:

"الكتابة توفر كل صنوف العناء، إذ تجنب المرء التردد واللعثمة، وتحرر من سطوة نظرات المستمع، خلف الورق تتوارى مشاعر وتختبئ دموع وتحتبس صرخات، ربما كان لها أن تشتت الأسماع، وفوق ذلك ترتب الأحداث، وتكتسي الحكاية بالهدوء. جربت كل شيء، مضيت والوطن جنين ينبض في أحشائي، لم أعرف كيف ترسم حدود الأوطان بالألغام ولافتات التحذير، والأسلاك الشائكة، ولأي غاية تسال من أجلها شلالات الدم بغير حساب، وطني الذي أذكره اختطفه خليل، ووطني الذي أصبو لمعانقته ما يزال جنينا يتنقل بين حجرات الذاكرة، يبحث عن مخرج".

حفل تسليم الجوائز

الصوت المهيمن

هكذا، يمزج محمد سمير ندا بين الفانتازي والواقعي، وبين التاريخي الافتراضي والبسيط المعيش، ويضع حجرا جديدا في رواية ديستوبية لا تذهب إلى المستقبل بل ترجع الى الماضي وتفترض تاريخا متخيلا بديلا. وهو يتمكن من خلال ذلك كله، من نقد السلطة الحاكمة وطريقة السيطرة على البسطاء والفقراء بوسائل الإعلام المختلفة. ورغم أن الرواية تبدو معتمدة على تعدد الأصوات، إلا أن القارئ سيتبين له في النهاية أن كل هذه الأصوات ما هي إلا صوت واحد، هو المهيمن المتحكم في مصائر الشخصيات وحكاياتها، وكأنه يرمز به إلى حال تلك السلطة القامعة التي تفرض صوتها وإرادتها على البسطاء حتى تصل بهم إلى أن يفقدوا حياتهم وماضيهم وربما مستقبلهم.

تراهن الرواية في بنائها وتفاصيلها على القارئ الصبور، وتعتمد التجريب الذي يحترم عقله ويدفعه إلى مواصلة القراءة

تراهن الرواية في بنائها وتفاصيلها على القارئ الصبور، وتعتمد التجريب الذي يحترم عقله ويدفعه إلى مواصلة القراءة، ليس من خلال لغة جافة وبناء معقد، وإنما من خلال عالم ثري ولغة تميل إلى الشاعرية في أحيان كثيرة، بالإضافة إلى مقدمات كل فصل من الفصول التي يستخدم فيها الكاتب مقاطع من أغاني عبد الحليم حافظ المعبرة عن أحداث ذلك الفصل، حتى تأتي النهاية بصورة يضعها الكاتب وكأنها مقتطعة من جريدة "الأهرام" في ذلك الوقت، ولكنها تشير إلى "مستعمرة الجذام" ثم تقرير الطبيب الذي يكشف ملابسات وتفاصيل الرواية بشكل مكتمل.

محمد سمير ندا يستلم جائزته

محمد سمير ندا روائي مصري ببغداد في 1978، وانتقل مع والده إلى عدد من الدول العربية حتى استقر به المقام في القاهرة عام  1996، تخرج من كلية التجارة، وكان والده سمير ندا من أبرز كتاب جيل الستينات المصري ومن أوائل من قدموا جمال الغيطاني ويوسف القعيد وغيرهما، صدرت له أكثر من رواية أشهرها "وقائع استشهاد إسماعيل النوحي" وتوفى عام 2013.

أما "صلاة القلق" فهي رواية محمد سمير ندا الثالثة، سبقتها في 2021 رواية "بوح الجدران" التي يعتبرها صاحبها تحية لوالده ومحاولة لتوثيق تجربته وسيرته، ورواية "مملكة مليكة" في 2016، التي لم تحظ بالانتشار أو الاهتمام النقدي.

font change