"قناع بلون السماء " للأسير الفلسطيني باسم خندقجي تحلّق خارج أسوار السجن

فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية

لحظات مؤثرة وبكاء شقيق باسم خندقجى صاحب قناع بلون السماء الفائز بالبوكر

"قناع بلون السماء " للأسير الفلسطيني باسم خندقجي تحلّق خارج أسوار السجن

تقدّم رواية "قناع بلون السماء" التي أعلن الأحد في أبوظبي بالإمارات العربية المتحدة فوز كاتبها الأسير الفلسطيني باسم خندقجي بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر)، صوتا جديدا ومختلفا في الرواية الفلسطينية والعربية، واستطاع كاتبها أن يعبّر عن قضيته وقضية شعبه الحر بشكلِ قوي وجاد، وأن يطرح من خلالها قضية تشتت الهوية والمشكلات التي يعاني منها الفلسطينيون داخل الأرض المحتلة وخارجها، ولا شك أن وصول الرواية الى أهم جائزة في الرواية العربية سيضيف الى القضية بعدا آخر في المقاومة بالكلمة والكتابة التي لم تتوقف طوال سنوات، والتي يسعى فيها الفلسطينيون بكل دأبٍ وإصرار كل يوم. وإذ يأتي هذا الفوز في خضمّ الحرب الإسرائيلية الشعواء على قطاع غزة، فقد استقبل القرّاء العرب نبأ هذا الاختيار بفرحة عارمة، معتبرين أن لجنة تحكيم الجائزة لهذه الدورة التي يرأسها الروائي السوري نبيل سليمان الذي قال خلال كلمته في حفل الجائزة إن التصويت على الرواية جاء بالإجماع، أحسنت الاختيار، ليس فقط لأن الفائز هو أسير فلسطيني يقبع منذ عشرين عاما في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بل لأن الرواية في حدّ ذاتها تتمتع بالمواصفات الفنية التي تؤهلها للفوز.

باسم خندقجي روائي وأسير فلسطيني من مواليد 1983 حكم عليه بالسجن المؤبد ثلاث مرات داخل سجون الاحتلال، روايته "قناع بلون السماء" هي الجزء الأول من "ثلاثية المرايا" التي أعلنها شقيقه والمسؤول عن أعماله يوسف خندقجي، يليها "سادن المحرقة" التي انتهى منها أخيرا، و"شياطين مريم المجدلية".

الرواية هي أول رواية تصل إلى قائمة الجائزة العالمية للرواية العربية يكون كاتبها أسيرا في سجون الاحتلال، وكتب باسم خندقجي قبلها ديواني شعر وأربع روايات، لم تكن أي من رواياته توثيقا لمأساته في السجون بل على العكس من ذلك كتب الرواية التاريخية في "مسك الكفاية" التي تعود الى العصر العباسي وتتناول فيها حكاية السيدة الخيزران وكيف سعت للحصول على حريتها، وكذلك رواية "خسوف بدر الدين" التي تتحدث عن قطبٍ صوفي يتمرد على الفساد وعلى وعاظ السلاطين.

وصول الرواية الى أهم جائزة في الرواية العربية سيضيف الى القضية بعدا آخر في المقاومة بالكلمة والكتابة التي لم تتوقف طوال سنوات

من السطور الأولى، تبدو رواية "قناع بلون السماء" للأسير الفلسطيني باسم خندقجي محاولة جادة للدفاع عن التراث والتاريخ والحقيقة، وليس أدل على ذلك من اتخاذ الكاتب بطل روايته نور، الذي يدرس الآثار في فلسطين ويهتم بتوثيقها، بل ويسعى الى كتابة رواية عن "مريم المجدلية" يدحض فيها الروايات الغربية عنها، لكن القدر يقود هذا البطل لأن يمتلك وثيقة إقامة إسرائيلية ليتحول إلى شخصية اليهودي أور، ومن خلال ذلك التحول يتمكن من الاقتراب من عالم الإسرائيليين والتعرف الى عالمهم والاقتراب منهم.

الأسير الروائي باسم خندقجي

لكن الرواية تدخل إلى أكثر من فكرة شائكة داخل الوعي العربي في فلسطين من جهة، وفي ما يمكن أن يكون مقاومة أو مواجهة للعدو الإسرائيلي من جهة أخرى، وهو  الذي يحول الرواية من القضية الخاصة بفلسطين الى الفكرة العامة الشديدة الأهمية والحساسية وهي مقاومة المحتل بالفكر والكتابة، ذلك أن بطل الرواية نفسه ليس مقاوما بالمعنى العسكري، بل اتخذ منذ البداية خيار المقاومة بالبحث التاريخي والتنقيب عن الأصول وتوثيقها، وهو الأمر الذي يتجلى بوضوح في شخصية كاتب الرواية نفسه، كونه أسيرا فلسطينيا يقضي في سجون الاحتلال نحو عشرين عاما، ولكنه طوال هذه الفترة لم يتوقف عن الكتابة.

يقسّم الكاتب روايته ثلاثة أقسام؛ في الأول يحمل السرد البطل نور مشهدي، الذي يعيش في المخيم ويعاني ما يعاني منه الفلسطينيون كل يوم من مضايقات وتهديدات، ونتعرف من خلاله الى ما يجري من مراسلات بينه وبين صديقه الأسير مراد، ورغبته في كتابة تلك الرواية عن مريم المجدلية، وما التحديات التي يواجهها أثناء جمع المادة التاريخية لهذه الرواية، وهو الأمر الذي يقوده في ما بعد إلى فريق بعثة التنقيب عن الآثار في القدس المحتلة، والذي يستغل للانضمام إليه تلك الهوية الإسرائيلية التي عثر عليها مصادفة، وينتقل بنا إلى القسم الثاني، "أور شبيرا"، حيث نجده وقد أعد العدة تماما لتلك المغامرة المحفوفة بالأخطار، سواء من خلال الأوراق المطلوبة أو استخدام اللغة أو محاولة تبني الأفكار ووجهات النظر اليهودية، وكيف يقاوم رغبته في العودة إلى أصوله الفلسطينية مع كل خبر أو حدث يسمع عنه أثناء وجوده في تلك البعثة، ومن ذلك أحداث "حي الشيخ جراح" التي جرت عام 2021، ولكنه لم يتمكن من ذلك بالطبع، حتى يصل إلى القسم الثالث، "سماء"، وفيه تتعمق تلك المواجهة بين نور وأور أثناء عمله داخل كيبوتس "مشمار هعيمق". 

بين هويتين

تراوح الرواية بين مكانين، بين نور الفلسطيني ومعاناته ومأساته، وأور اليهودي الذي يحاول أن يحصل على الحقيقة، والكاتب بينهما يحاول أن يعرض وجهة نظره بكل الطرق الممكنة، ولعل ذلك ما يقوده إلى المواجهة المباشرة في القسم الأول من الرواية، فها هو نور قبل أن يتحول إلى شخصية اليهودي يخاطب مجموعة من السائحين:

 "هنا سيِّداتي وسادتي حيث تقفون الآن تقع أنقاض وأطلال القرية العربيَّة الفلسطينيَّة صرعة. التي نُكبت وهُجِّر أهلها البالغ عددهم أربعمائة نسمة في شهر تموُّز من عام ١٩٤٨. بلى هُجِّروا. وها هم الآن يقبعون لاجئين ولاجئات في مخيَّمات اللجوء. لقد دمَّرت العصابات الصهيونيَّة القرية؛ لتُشيِّد مكانها «كيبوتس صرعة». وهذا بيت مختار القرية يشهد على ذلك. حيث تقفون أنتم الآن فوقه. وأمَّا هذا المقام الذي أقف فوقه، فما هو إلَّا مقام الشيخ سامت الذي كان يتبارك به أهل القرية والقرى المجاورة، مُقدِّمين له النذور والقرابين طلبا للحبل والذرِّيَّة. بلى، سيِّداتي سادتي. لا يوجد شمشون هنا ولا ما يحزنون. لا يوجد بطلٌ خارق. لا يوجد قبورٌ للأبطال الخارقين. فشمشون مثل سوبرمان لا يموت، أمَّا هنا، حيث تقفون، فلا يوجد سوى نكبةٍ وشعب هجر من أرضه".  

"قناع بلون السماء" هي الجزء الأول من "ثلاثية المرايا" يليها "سادن المحرقة" التي انتهى منها أخيرا، و"شياطين مريم المجدلية"

في القسم الثاني من الرواية بعنوان "أور"، يتعرف البطل الى شخصيات أخرى من تلك البعثة الآثارية، ويتعلق تحديدا  بإيالا اليهودية الشرقية التي تعبّر عن انتمائها واعتدادها بنفسها، وكيف يحدث ذلك الصراع بينها وبين من تعتبره يهوديا من الإشكناز، ثم يتعرف الى سماء الفلسطينية من حيفا والتي تعمل معهم في البعثة أيضا، وتعتز بهويتها ووطنيتها، ولا تعترف بإسرائيل رغم كونها من عرب الداخل، وتسعى إلى فرض وجودها وإثبات أصولها في كل نقاش بين أفراد البعثة، ويحار نور/أور بين الشخصيتين، وبين هويته الأصلية والهوية القناع التي أجبر نفسه أن يتحرك بها، ويدور بينه وبينهم عدد من النقاشات حول الأصول والهوية تجعله يفكر في مستقبله بشكل مختلف، كما يندمج في حالة البحث والتنقيب في الآثار، ذلك الذي يبدو الكاتب متوحدا فيه مع الأرض وتفاصيلها بطريقة تشعر القارئ أن الكاتب على دراية بتفاصيل ذلك النوع من الأبحاث، ولكن لا يلبث البطل أن يتورط مرة أخرى في سؤال الهوية، هل يمكن أن يستمر في حاله على هذا القناع أم أن عودته الى فلسطينيته أمر لا مفر منه، في النهاية يصرّح أور مخاطبا صديقه:

"لست خائنا ولا مطبّعا ولا ضابط شاباك. ربَّما أكون مجنونا تائها ملتبسا! هكذا كنتُ سأُجيبها يا مراد. كدت أقول لها أنا اسمي نور اسألي عنِّي صديقي مراد. الشيخ مرسي. أزقَّة المخيَّم. صمت أبي. جدَّتي سميَّة. قبر أمِّي. اسألي مريم المجدليَّة. ولكنَّها انسحبت من أمامي، هي التي انقلبت من وردةٍ يانعة إلى ثورةٍ عارمة، بعد أن باغتُّها باسمي وأصلي. إذ لم أعد قادرا على الوقوف عاجزا أمام تعرُّضها للإهانة والتقريع من قبل أيالا. فهكذا مرَّة واحدة انتزعت قناعي لأُعلمها بأسرار حكايتي، ولكنَّها أنكرتني وقبَّحتني ولعنتني.. معها حقّ، أليس كذلك يا مراد.. معها حقّ. لهذا أنا أشعر بالراحة الآن بعد اعترافي هذا. فأنا في الرمق الأخير من قناعي هذا"

تسلمت ناشرة الرواية، رنا إدريس، صاحبة دار الآداب الجائزة بالإنابة عن الكاتب باسم خندقجي

لا تكتفي الرواية بعرض هذا الصراع المهم والحيوي جدا الذي يدور بين هويتين متناقضتين والذي استطاع الكاتب أن يعبّر عنه من خلال الحوار بين شخصيات العمل بشكل متقن، ولكن تحتوي الرواية أيضا على تلك الفصول من البحث الدؤوب الذي يقوم به نور للتعرف الى سيرة مريم المجدلية ومحاولته الإحاطة بكل تفاصيل حقبتها التاريخية والشخصيات المؤثرة في حياتها، ثم الربط الذي يقوم به بين حكايتها وما تعيشه القدس وأرض فلسطين المحتلة من صراع ومحاولات لطمس كل الآثار المسيحية والإسلامية على السواء، وكأنه يريد أن يوضح من جهة أخرى بشكل غير مباشر أن فلسطين أرض لكل الأديان لا يمكن لفئة أو ديانة أن تحتكرها أو تزعم أنها صاحبة الحق الوحيد فيها.

font change

مقالات ذات صلة