أوكرانيا تحاول خدش الدرع الروسي... ولا تزال في وضع الهجوم

Reuters
Reuters

أوكرانيا تحاول خدش الدرع الروسي... ولا تزال في وضع الهجوم

بعد مضي شهرين على بداية الهجوم المضاد الذي طال انتظاره، لم تحرز القوات الأوكرانية سوى تقدّم يسير، ما أثار الشكوك حول ما تستطيع كييف فعله حقيقة، وما إذا كان تحرير كل الأراضي التي تحتلها روسيا حاليا هدفا واقعيا.

وتشير سلسلة من التقارير التي صدرت في الولايات المتحدة إلى أن المسؤولين الأميركيين يشعرون بتشاؤم متزايد بشأن ما إذا كان هذا الهجوم قادرا على تحقيق هدفه.

وليست هذه هي المرة الأولى التي تظهر فيها الشكوك حول الجهود الأوكرانية لاستعادة "السيادة الكاملة" على أراضيها؛ ففي هذا الوقت تقريبا من العام الماضي، أثار التقدم البطيء ولكن الحثيث للقوات الروسية في شرق أوكرانيا، والذي تُوج بالاستيلاء على مدينة سيفيرودونيتسك شرقي أوكرانيا، مخاوفَ مماثلة. ولم تمضِ سوى بضعة أسابيع حتى شنت أوكرانيا هجوما مضادا مفاجئا في خاركيف، ما أجبر روسيا على الانسحاب من تلك المنطقة الرئيسة التي تقع شمال شرقي أوكرانيا، ثم أتبعت أوكرانيا ذلك بهجوم مستمر أدى بعد أسابيع إلى قرار روسيا بالانسحاب من جزء كبير من مقاطعة خيرسون الجنوبية، بما في ذلك مدينة خيرسون نفسها.

يمكن القول إن الحرب في أوكرانيا هي وضع معقد ومائع، ومن الطبيعي أن يميل الرأي العام والتغطية الإعلامية للحرب إلى التأرجح جيئة وذهابا، حيث يرتفع التفاؤل أحيانا بشأن فرص أوكرانيا في الفوز، ثم ترجح كفة التشاؤم. وذلك لأن الحرب تتغير باستمرار، ومن الصعب التنبؤ بالكيفية التي ستنتهي بها. لقد زعم بعض الناس أن روسيا سوف تغزو أوكرانيا بسرعة وسهولة (وكانوا مخطئين)، أو أن الأسلحة الغربية لن تغير مجرى الحرب (وأعتقد أنهم كانوا مخطئين أيضا).

يمكن للمرء أن يجادل بأن وضعنا العسكري والسياسي الحالي مختلف، لكن هذا يوفر سياقا قيما. ومن الطبيعي أن تتأرجح المشاعر العامة والطريقة التي تغطي بها وسائل الإعلام الحرب بين النقيضين. واعتمادا على الظروف، فإن الأصوات التي تعرب عن التفاؤل بشأن مساعي أوكرانيا لاستعادة أراضيها تصبح أكثر وضوحا. ومع ذلك، ومع تأرجح البندول، فإن الأفراد أنفسهم الذين توقعوا بشكل غير دقيق غزوا روسيا سريعا لأوكرانيا أو شككوا في تأثير الأسلحة الغربية على مسار الحرب، يظهرون الآن بشكل بارز في وسائل الإعلام. تشبه هذه الظاهرة منحهم العلاج في وقت الذروة. في حين أن مفاتيح الفوز في الحروب غالبا ما تكون الصبر والتصميم، فإن هذه الصفات نادرا ما تملي التغطية الإعلامية.

وعلى الرغم من سقوط سوروفيكين، المهندس الذي كان يقف وراء خطوط الدفاع هذه، إلا أن إرثه لا يزال حيا. وقد قامت روسيا– مستخدمة معدات سوفياتية قديمة– ببناء حاجز دفاعي متعدد الطبقات أثبت أنه من الصعب اختراقه. وفي أغلب قطاعات خط المواجهة، لا يزال هناك ما لا يقل عن طبقتين، وفي بعض الحالات ثلاث طبقات من التحصينات التي يجب التغلب عليها قبل تحقيق أي من الأهداف الاستراتيجية التي تفكر فيها كييف. تشمل هذه الأهداف مدنًا مثل توكماك، وميليتوبول، وحتى ماريوبول. ومن شأن الاستيلاء على هذه المراكز الحضرية أن يضعف بشكل كبير ودائم قبضة روسيا على أجزاء من أوكرانيا ويعطل الاتصال الإقليمي بين جنوب أوكرانيا والحدود الغربية لروسيا. ومع ذلك، فإن التقدم الذي أحرزته القوات الأوكرانية كان، في أحسن الأحوال، معتدلا، وكانت كلفته كبيرة. ولكي نكون واضحين أكثر، إذا توقف الهجوم عند هذه النقطة، فمن المرجح أن يقيّم كهجوم فاشل.

يمكن القول إن الحرب في أوكرانيا هي وضع معقد ومائع، ومن الطبيعي أن يميل الرأي العام والتغطية الإعلامية للحرب إلى التأرجح جيئة وذهابا

ومرد هذا أن الخطوط الدفاعية الروسية متعددةَ الطبقات تخفف كثيرا من أثر الثغرات التي تمكنت القوات الأوكرانية من استغلالها في الماضي. وتتكون الخطوط الدفاعية الروسية من مجموعة من الألغام، والخنادق المضادة للدبابات، والعوائق الخرسانية، بالإضافة إلى الخنادق والتحصينات المخصصة للمشاة. وهذا يعني أنه لا يمكن أن نتوقع من أوكرانيا "الاندفاعَ" إلى المواقع الروسية، الأمر الذي يسمح بوصول التعزيزات الروسية من المواقع الخلفية. كما تهدف التحصينات إلى استيعاب الهجوم. تُبنى خطوط الدفاع لحمل القوة المهاجمة على الحركة في منطقة ضيقة حتى تتعثر في نهاية المطاف، وهو الأمر الذي يتيح فرصة محاصرتها أو الانهيال على المهاجمين بوابل من نيران المدفعية. وهذا يعني أيضا أن استخدام عنصر المفاجأة يصبح أمرا في غاية الصعوبة، ويصبح استغلال المشاكل المعنوية أمرا شبه مستحيل؛ فالألغام لا تولي الأدبار للحفاظ على حياة المهاجمين.

اوكرانيون يحتفلون بذكرى استقلال بلادهم وسط دبابات روسية مدمرة في كييف في 24 اغسطس

وبمعنى أوسع، فإن هذا يعقد إلى حد كبير جدوى الهجوم التقليدي، ويمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة، حيث تعتمد الهجمات التقليدية عادة على حشد القوات بسرعة عند نقطة ضعيفة داخل التشكيل الدفاعي للعدو. ومع ذلك، فقد أظهر هذا النهج عيوبه من حيث التكاليف والمخاطر العالية. وتفتقر أوكرانيا إلى ترف الاعتماد على قدراتها الجوية والبرية المتفوقة لإضعاف دفاعات الخصم وخلق طريق للهجوم. علاوة على ذلك، قامت القوات الروسية بتعديل استراتيجياتها وهي مستعدة لشن هجمات مضادة بسرعة ضد الوحدات غير المجهزة والتي تحملت بالفعل صعوبات كبيرة للوصول إلى مواقعها الحالية.

وبدورها، أجبرت خطوط الدفاع المتعددة هذه الجيش الأوكراني على التكيف، وجعلته يعود إلى استخدام تكتيكات المشاة الخفيفة، بدلا من "استراتيجية الأسلحة المشتركة" الأكثر تقليدية، والتي تستخدم الدبابات والمركبات المدرعة التي يزودها بها الغرب بأعداد أكبر، جنبا إلى جنب مع أنواع أخرى من الوحدات (كالمدفعية والطائرات) لاختراق الخطوط الدفاعية الروسية.

ويفسر هذا القرار بعض الانتقادات التي واجهتها القوات الأوكرانية في الآونة الأخيرة. وفي الأسابيع التي سبقت الهجوم، في يونيو/حزيران، كانت أوكرانيا قد تلقت مجموعة من الأسلحة الغربية الجديدة، بما في ذلك دبابات ليوبارد ألمانية الصنع، وعربات برادلي أميركية الصنع وغيرها من المركبات المدرعة. وكانت الفكرة الكامنة وراء عمليات التسليم هذه هي استخدام هذه الأنظمة كوحدات متماسكة لاختراق الخطوط الدفاعية. 

أجبرت خطوط الدفاع المتعددة الجيشَ الأوكراني على التكيف، وجعلته يعود إلى استخدام تكتيكات المشاة الخفيفة، بدلا من "استراتيجية الأسلحة المشتركة" الأكثر تقليدية، والتي تستخدم الدبابات والمركبات المدرعة التي يزودها بها الغرب بأعداد أكبر

حاولت القوات الأوكرانية في الأيام الأولى من الهجوم استخدام هذه المركبات على شكل تشكيلات. ولكن الجيش الأوكراني سرعان ما وجد أن هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر عندما واجه الشبكة الدفاعية الروسية متعددة الطبقات. لقد وضعوا جانبا وحداتهم الأكثر جاهزية، واستقصوا الدفاعات الروسية، إلى أن عثروا على استراتيجية جديدة ربما كان جنرالات الغرب قد فكروا فيها عندما زودوا أوكرانيا بالدبابات والمركبات المدرعة. إنها استراتيجية تعتمد على هجمات مشاة أصغر عددا، ونيران مضادة للبطاريات لتدمير المدفعية الروسية، والاستنزاف والتقدم التدريجي.

Reuters
جندي اوكراني امام دبابة اوكرانية مدمرة في منطقة زاباروجيا في 25 اغسطس

وخلف الأبواب الموصدة، انتقد بعض المسؤولين الأميركيين قرار كييف القاضي بالتوقف عن استخدام هذه المعدات بشكل جماعي، معتبرين أن الجيش الأوكراني يكره المخاطرة لدرجة أنه لا يستطيع تحقيق النجاح. ورد المسؤولون الأوكرانيون على ذلك الانتقاد بقولهم إنهم لا يستطيعون تطبيق التكتيكات الغربية، التي تعتمد على مجموعة من أنظمة الأسلحة التي لا يملكها الأوكرانيون؛ بما في ذلك الطائرات الحربية والصواريخ بعيدة المدى. 

وهذا ليس نقاشا جديدا؛ فمنذ بداية الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا، تَجَادَلَ الخبراء والمسؤولون حول نوع الأسلحة التي يجب توفيرها لأوكرانيا. وكما أشار بعض الخبراء لا توجد أسلحة سحرية ستغير مجرى المعركة على نحو مفاجئ. لكن هذا لا يعني أنّ عمليات تسليم الأسلحة أمر غير مفيد؛ إذ إنها توفر فرصا جديدة لاستخدام تكتيكات مختلفة، أو لضرب أهداف جديدة كانت خارج نطاق العمليات في وقت سابق. فسلاح واحد لن يغير الديناميكية العسكرية. لكن الأنظمة المختلفة ذات الأغراض المختلفة، والتي يتم توفيرها بطريقة منسقة، قد تؤدي المهمة. وهذا يفسر أيضا الانتقاد المستمر ضد "التسليم التدريجي" البطيء للأسلحة الغربية إلى أوكرانيا.

وفي ساحة المعركة، اتبعت القوات الأوكرانية نهجا عمليا من خلال تكييف معداتها لتتناسب مع التكتيكات التي أثبتت فعاليتها، وليس العكس. وبالإضافة إلى العودة لتكتيكات المشاة على نطاق أصغر، اتخذت كييف مبادرة كبيرة لاستهداف طرق الإمداد الروسية وأراضيها المحلية. إن إدخال طائرات دون طيار طويلة المدى جديدة، إلى جانب الصواريخ المضادة للطائرات التي تعود إلى الحقبة السوفياتية المعاد استخدامها وسلسلة من السفن غير المأهولة المحملة بالمتفجرات، مكّن أوكرانيا من ضرب المواقع الخلفية للقوات الروسية، بما في ذلك الجسور الحيوية المستخدمة لجلب القوات الروسية تعزيزات. في حين أن هذه الهجمات الفردية قد لا تضمن النصر بشكل مستقل، فعندما تقترن بمكاسب إقليمية إضافية، فإن لديها القدرة على خلق فرص جديدة ونقاط ضعف يمكن الاستفادة منها في المستقبل.

وعلاوة على ذلك، تقصف الطائرات دون طيار الأوكرانية المدن الروسية بانتظام. وعلى مدى الأيام الستة الماضية، تعرضت موسكو يوميا لهجمات بطائرات دون طيار. وفي هذه الحالة، فإن الهدف مختلف، حيث تسعى كييف إلى إعادة الحرب ضد روسيا "في عقر دارها،" لتلفت انتباه ذلك الجزء من الشعب الروسي الذي تجاهل الحرب، وهو أمر قد ترغب القيادة الأوكرانية في تغييره. ولا تخلو هذه الاستراتيجية من المخاطر، لأنها قد تولد الدعم، بدل النقمة، لحرب بوتين في واقع الأمر. لكن حملة محدودة من الهجمات يمكن أن تسلط الضوء أيضا على هشاشة النظام الذي يعتمد على لامبالاة جزء من شعبه.

بعد مرور شهرين على الهجوم المضاد في أوكرانيا، بات من الواضح أن النصر السريع الذي كان يتمناه البعض لن يتحقق. وقد أدت التكتيكات الدفاعية الروسية إلى إبطاء التقدم الأوكراني، لكن الحرب لم تنته بعد. نحن لسنا في حرب استنزاف، بل في خضم هجوم مضاد أوكراني متطور. وفي الأسابيع الأخيرة، كانت هناك زيادة بطيئة ولكن ملحوظة في وتيرة التقدم الأوكراني، حتى في المناطق التي واجهوا فيها صعوبات في السابق. ويبقى من السابق لأوانه القول ما إذا كان هذا المنحى مؤقتا أم لا، ولكن الجيش الأوكراني لديه القدرة على استئناف عمليات أكثر سرعة إذا ضعفت الدفاعات الروسية. في الواقع، هذه هي الاستراتيجية الأوكرانية. 
 

font change

مقالات ذات صلة