خروج البرهان وما يترتب عليه

AFP
AFP

خروج البرهان وما يترتب عليه

شهد يوم الخميس الماضي 24 أغسطس/آب 2023، خروج القائد العام للجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان من مباني القيادة العامة بوسط الخرطوم، التي كان قد تحصن داخلها منذ اندلاع الحرب في السودان 15 أبريل/نيسان بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع. قام البرهان بإجراء عدد من الزيارات التعبوية لمواقع القوات المسلحة المختلفة، شملت "قاعدة وادي سيدنا" الجوية في أقصى غرب أم درمان ومواقع عسكرية أخرى. كما ظهر بشكل جماهيري مع المواطنين في الشارع وهو يحتسي قهوة من صانعة شاي على قارعة الطريق. وواصل البرهان رحلته ليتوقف في عطبرة قبل أن يصل إلى بورتسودان التي أصبحت مقرا للحكومة يوم 27 أغسطس/آب.

Reuters
القطاع الطبي السوداني يقترب من الانهيار

وقد زعزع خروج البرهان المفاجئ وظهوره الجماهيري من سردية سيطرة الميليشيا بشكل محكم على العاصمة. فظهر أعضاء الميليشيا المحيطون بمباني القيادة العامة في أول الأمر، ليقولوا إنهم شاهدوا طائرة عمودية تهبط للإجلاء، ولكنهم لم يهاجموها لأسباب إنسانية برروها بالظن بأنها كانت تجلي أحد المرضى، دون أن يوضحوا ما الذي دعاهم إلى هذا الظن. وبعد ذلك قالوا إنه هرب من القيادة العامة دون حتى أن يدري رفاقه به. ولاحقا عملت الآلة الإعلامية للميليشيا على نشر دعاية مكثفة بأن البرهان خرج نتيجة لصفقة دولية تمت بترتيب مع قوات الدعم السريع للسماح له بالخروج، وهو الزعم الذي كرره بعض قادة الحرية والتغيير لاحقا.

لكن البرهان أنكر في خطابه الحماسي لجنوده في قاعدة فلامنغو البحرية في بورتسودان هذه المزاعم، وقال إنه خرج في عملية عسكرية تم تنفيذها بواسطة قوات الجيش. وجاء خطابه بعيدا عن ملامح أي صفقة مع أي من الأطراف، بمن فيهم الإسلاميون الذين تنكر البرهان لهم في خطاب فلامنغو بشكل قاطع مما يرجح صحة خطاب البرهان، وما توارد عن مصادر عسكرية واجتماعية بمقتل اثنين من الضباط العاملين في حراسته، وإصابة أحد مساعديه العسكريين المقربين بطلقة رصاص في قدمه خلال العملية. وكذلك، يرجح صحة خطاب البرهان بانعدام التواصل المباشر وغير المباشر بين الجيش و"الدعم السريع" بعد توقف منبر مفاوضات جدة والخلافات الدائرة حاليا بين الوسطاء المشرفين عليه.

وفي حقيقة الأمر، فإن تفاصيل كيفية خروج البرهان من حصنه في القيادة العامة لا تهم كثيرا؛ فالهجوم المتواصل بواسطة ميليشيا قوات الدعم السريع على معسكر سلاح المدرعات الحصين جنوبي الخرطوم الذي استمر لعدة أيام على مدى الأسبوعين الماضيين والذي تم على ثمانية محاور باستخدام عدد كبير من قوات الميليشيا، دونما جدوى حتى الآن، أدى إلى سحب أفراد الميليشيا من مناطق ارتكازهم المختلفة داخل الخرطوم وتركيزهم في الهجوم على المدرعات، وهو ما سمح بدوره لقوات الجيش بالتقدم وإحكام سيطرتهم على بعض المواقع وتأمينها.

ما يهم الآن، هو ما سيتخذه البرهان من خطوات بعد هذا الخروج. فما يهم الناس في المقام الأول والذي هو إنهاء هذه الحرب وإيقاف الاقتتال الدائر فوق رؤوس السودانيين، في حرب قتلتهم وانتهكت حرماتهم ودمرت بلادهم وشردتهم بين العالمين، وهم لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

تفاصيل كيفية خروج البرهان من حصنه في القيادة العامة لا تهم كثيرا؛ فالهجوم المتواصل بواسطة ميليشيا قوات الدعم السريع على معسكر سلاح المدرعات الحصين جنوبي الخرطوم أدى إلى سحب أفراد الميليشيا من مناطق ارتكازهم

البرهان مواجه بتحديات على رأسها تحرير الدولة من قبضة الإسلاميين والتي تمددت في مفاصلها خلال فترة الحرب، مستفيدين من استمرار وجود جهاز الدولة العميقة الموروث من عهد حكم عمر البشير؛ حيث لعب الإسلاميون دورا لا جدال فيه في إشعال فتيل هذه الحرب، بإطلاق الرصاصة الأولى التي لاقت هوى في أنفس الميليشيا التي كانت مستعدة بخطتها للانقلاب والاستيلاء على جهاز الدولة، فيما كان الجيش غافلا عما يدور في داخله وحوله. فاندلعت في وجهه الحرب، بينما كان قائده العام لا يزال على سرير نومه. وقد استفاد الإسلاميون من اندلاع الحرب، بتقديم أنفسهم كحليف مدني وحيد مناصر للجيش في معركته ضد الميليشيا. وعلى الرغم من انتهازية وعدم صدقية هذا الزعم، فقد استفاد الإسلاميون منه ليعيدوا تفعيل مراكز دولتهم العميقة في مفاصل أجهزة الحكم. وقد انعكس ذلك في مجالات عديدة، خدمية واقتصادية عدلية بعدما شاهدنا خروج قيادات النظام المخلوع من السجون وتجولهم بين الولايات، دونما حسيب أو رقيب أو قرارات من الأجهزة العدلية والنيابية والشرطية. وانعكس بشكل أكبر في مجال السياسة الخارجية التي شهدت عودة دبلوماسية الإخوان المسلمين الفجة التي استعدت العالم بأسره على السودان في مطلع التسعينات. ظهر ذلك في تعطيل تأشيرات دخول موظفي المنظمات الإنسانية، وإعاقة انسياب الإغاثة الإنسانية وهي أمور لا مبرر لها على الإطلاق ولا جدوى منها غير التضييق على الناس، في ظل ظروف ومعاناة الحرب. ووصل خطل السياسة الخارجية التي يخط كتابها في السودان حاليا الإخوان المسلمون إلى استعداء المجتمع الدولي والأمم المتحدة، بإعلان الممثل الخاص للأمم المتحدة شخصية غير مرغوب فيها وعدم السماح بعودته إلى البلاد بدلا من محاولة كسبه إلى صفها. دبلوماسية البصيرة أم أحمد* التي تصنع الأعداء في لحظات الحاجة إلى المحافظة على الأصدقاء. 

البرهان مطالب بتبرئة ساحته وساحة جيشه الذي يتولى قيادته من تهمة الانحياز السياسي. وكذلك يحتاج إلى تنقية واختصار مجلس حكومة الأمر الواقع المسؤولة عن إدارة البلاد بشكل يجعله قادرا على أداء مهام تقديم الخدمات الرئيسة للسودانيين في مناطق البلاد المختلفة بأفضل ما يمكن في ظل هذه الظروف. ومن الضروري أن يعي الجميع أن هذه الحكومة لن تتمتع بأي شرعية سياسية غير ما يتطلبه تقديم الخدمات الضرورية بشكل فاعل، وأن أي صبغة سياسية لها سيحكم عليها بالفشل بل وبزيادة الاستقطاب في ظل الحرب.

AFP
البرهان قبيل مغادرته الخرطوم في صورة وزعها مجلس السيادة الانتقالي في 29 اغسطس

 المهمة الأساسية والأكبر التي ستواجه البرهان باعتباره المسؤول الأول في النظام الحاكم اليوم بالأمر الواقع بعد خروجه من مباني القيادة العامة، هي كيفية العمل على استعادة السلام إلى السودان. يبدأ ذلك من إدراك أن الجذر الأساسي الذي تسبب في اندلاع هذه الحرب كان انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021؛ حيث تحالف الجيش و"الدعم السريع" الذي خلع الحكومة المدنية واستأثر بالسلطة، وانتهى بالتنازع بين شريكي الجريمة على مغانمها. وهو النزاع الذي دمر البلاد وشرد العباد. هذا الجذر الأساسي هو معضلة سياسية وينبغي حلها بترتيبات سياسية، وهذا أمر يتطلب إنتاج خطاب مغاير ومتزن وشفاف باتجاه القوى المدنية جميعها على حد السواء ما عدا قوى النظام القديم الذي ثار ضده وخلعه شعب السودان في ثورته المجيدة. هذا الخطاب المغاير ينبغي أن يتم في العلن وبشكل مبدئي وواضح ويتفادى نواقص العملية السياسية التي سبقت الحرب التي تمت وراء أبواب الغرف المغلقة وساهمت في إشعال حطب نيرانها. ما يحتاج إليه السودان هو "حل سياسي" مبدئي وتأسيسي وليس سوية سياسية تتعامل مع الدولة وجهاز حكمها ومواردها كغنائم ورشى سياسية. 
 

البرهان مطالب بتبرئة ساحته وساحة جيشه الذي يتولى قيادته من تهمة الانحياز السياسي. وكذلك يحتاج إلى تنقية واختصار مجلس حكومة الأمر الواقع المسؤولة عن إدارة البلاد بشكل يجعله قادرا على أداء مهام تقديم الخدمات الرئيسة للسودانيين

على مدى الأشهر الماضية ظهر جليا للجميع أنه لا يمكن حسم هذه الحرب عسكريا. هذه حرب مدن تتم داخل العاصمة وتتحامى بالمدنيين والمنشآت الخدمية المدنية والاستراتيجية والبنى التحتية الهامة. وأن استمرار المعارك لن يؤدي إلا إلى زيادة معاناة السودانيين وتفاقم دمار الوطن؛ لهذا فإن أي حل سياسي يجب أن يتضمن بشكل واضح وقابل للتطبيق النقاط الأساسية التالية: 
•    إصلاح المؤسسة العسكرية بشكل مهني وتنقيتها من أي وجود سياسي وتطويرها بشكل فاعل لأداء أدوارها الموكلة إليها كما يجب، بعيدا عن السياسة والاقتصاد وبقية شؤون الدولة المدنية.
•    وفي ذات الحين حل ميليشيا قوات الدعم السريع، وإنهاء وجودها المؤسسي (وذلك يعني إنهاء كافة شبكات وجودها المتداخلة سياسيا واقتصاديا وعسكريا التي تخلق نفوذها متعدد الأوجه على جهاز الدولة).
•    وكذلك إنهاء وجود أي تشكيلات عسكرية خارج إطار الجيش المهني الموحد (ويجري ذلك على قوات الحركات المسلحة كما يجري على كتائب المتطوعين الإسلاميين التي تم تشكيلها حاليا تحت اسم لواء البراء بن مالك). 

هذه واجبات لا يمكن التهرب منها من أجل بقاء الدولة السودانية والحفاظ على ما تبقى من مقدرات الوطن. وهي قرارات لا تحتاج إلى بقاء فلان أو علان في السلطة. كل الذين شاركوا في إشعال هذه الحرب ينبغي أن يغيبوا تماما عن مشهد المستقبل السوداني. ولكن التاريخ سيحفظ شجاعة الذين يأخذون الخطوة الأولى باتجاه الحل الذي يعيد السودانيين إلى بلادهم ويعيد بلادهم إليهم. 

AFP
لاجئون سودانيون في شرق التشاد في 14 اغسطس

تتوارد الأخبار أيضا عن عزم البرهان في بدء جولة خارجية تبدأ بمصر والسعودية وجنوب السودان، وهذا طبيعي باعتبار أنها الدول الأكثر ارتباطا بالسودان. ولكن أعتقد أيضا أن المهم هو أن تضم هذه الجولة إثيوبيا باعتبارها مقر الاتحاد الأفريقي والجارة الشرقية الأكبر للبلاد، وأيضا تضم دولة كينيا لإنهاء حالة التوتر الدبلوماسي بين السودان وكينيا. وهي وضعية توتر غير ملائمة للأوضاع حاليا، فاستقرار السودان وإيقاف الحرب فيه هو شأن إقليمي ولا يخص السودان وحده ولا يؤثر على شعبه فقط، وإن كان التأثير الأكبر يقع عليهم بطبيعة الحال، ولكن كافة دول الجوار والإقليم تتأثر به ومن الطبيعي أن يكون لها اختلافاتها مع طرفي الحرب. 

لكن مناقشة هذه الاختلافات لا ينبغي أن تكون عبر عنتريات قطع العلاقات والمواجهات الكلامية والتي هي انفعالات غير ذات معنى في ظل هذه الأوضاع. بل ينبغي أن تعي كافة الأطراف أن السودان في هذه الأوضاع في حاجة لجميع مساهمات أصدقائه وجيرانه الصادقة باتجاه إيقاف الحرب. وأن هذه المساهمات هي لخدمة أمن واستقرار المنطقة والإقليم والعالم بأسره أيضا، وأنها لا يمكن ولا يعقل ما دامت جاءت في إطار معلن من قبل المنظمات الإقليمية والقارية والدولية التي ينتمي لها السودان، أن تكون منحازة لهذا الطرف أو ذاك. لا يحتاج البرهان إلى وضع السودان في موقع تفضيل أو عداء لأي من المبادرات المطروحة، بل إن الأفضل- وهو يمثل بحكم الأمر الواقع حكومة البلاد- أن يدعو كافة هذه الجهود والمبادرات لإيقاف التنافس فيما بينها والتنسيق بتقسيم الأدوار فيما بينهم بشكل فاعل يخدم هدف وقف الحرب في السودان. 
 

كل الذين شاركوا في إشعال هذه الحرب ينبغي أن يغيبوا تماما عن مشهد المستقبل السوداني. ولكن التاريخ سيحفظ شجاعة الذين يأخذون الخطوة الأولى باتجاه الحل الذي يعيد السودانيين إلى بلادهم ويعيد بلادهم إليهم

وهذا يأخذنا إلى النقطة الأخيرة، والتي يجب أن يضعها البرهان في اعتباراته إذا ما قرر في إطار جولته القادمة حضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي سيبدأ أعماله في 5 سبتمبر/أيلول المقبل، وهو ضرورة إنهاء حالة العداء العبثية التي صنعها وفق نصائح دبلوماسيي "البصيرة أم أحمد" مع المنظمة الأممية؛ فالمنظمة الأممية ليست دولة نناصبها العداء أو التحالف أو الصداقة، بل هي منظومة دولية تعمل وفق قواعد محددة للتعاون الدولي، ونحتاج حاليا في ظروف الحرب- وسنحتاج لاحقا وبشكل أكبر في حالة توقف الحرب- إلى الاستفادة من نظم هذا التعاون الدولي إلى أقصى حد ممكن، لما فيها من فائدة للسودان وشعب السودان. 

* البصيرة أم أحمد في الفولكور السوداني، يستخدم اسمها لضرب المثل عن سوء النصيحة. وهي عجوز كانت تدعي الحكمة بين أهل قريتها. هرع إليها الناس ذات حين يسألونها عن حل مشكلة عجل أدخل رأسه في زير ماء (وعاء من الفخار ضيق الرأس يستخدم لتبريد الماء بشكل طبيعي في الريف السوداني) ليشرب، ثم استعصى عليه إخراج رأسه، فقالت لهم: أولاً نذبح العجل، فذبحوه.. ثم قالت: اكسروا الزير لتخرجوا الرأس. فانتهى بهم الأمر إلى أن خسروا العجل والزير.
 

font change

مقالات ذات صلة