وجوب التشكيك في الطروحات المعيبة للسلام في السودان

Reuters
Reuters
أطفال سودانيون على متن عربة تعبر الحدود السودانية -التشادية هربا من القتال في دارفور في 4 اغسطس

وجوب التشكيك في الطروحات المعيبة للسلام في السودان

يبدو أنّ اقتراح قوى الحرية والتغيير الذي طرحه طه عثمان إسحق، هو بداية لمناورة سياسية أخرى لن تؤدي إلا إلى مزيد من الاضطراب السياسي وسط الأزمة المستمرة التي تعصف بالبلاد، وتهدف إلى تحقيق أهدافٍ سياسية على حساب الحرب.

ويتضمن ذلك الاقتراح الدعوة لمنح "قادة" الطرفين المتحاربَين: الجيش، و"قوات الدعم السريع"، الإذن بالمشاركة في الأنشطة السياسية بعد أن تضع الحرب أوزارها، وإغفال الجرائم والتجاوزات التي حدثت بتبرير هذه الجرائم التي حصلت وتحصل باعتبار أنها مجرد عرَض من أعراض المرض المتمثل في الحرب المستمرة. إنّ حملة الترويج لذلك هي في واقع الأمر مسعى سياسي يهدف إلى حماية امتيازات الفساد الراسخة التي مارسها بعض الأفراد خلال المرحلة الانتقالية، والتي كان هدفها استبدال التمكين الآيديولوجي لحزب المؤتمر الوطني المخلوع بتمكين إقليمي.

علاوة على ذلك، يبدو أن هذه الحملة تجري بإرشادات تُمليها جهات أجنبية، تهدف في المقام الأول إلى الحفاظ على وجود سياسي لوكلائها، وتأمين ممارسة تأثيرهم على جهاز دولة السودان. ويجري ذلك من أجل حماية مصالح الدول الأجنبية في الحصول على مزيد من الأراضي والموانئ، وصفقات الذهب.

المنطق الكامن وراء هذه الحملة معيب في جوهره

1_ سُميت الانتهاكات التي وقعت على وجه التحديد بـ"جرائم الحرب". وقد جرى ذلك في سياق اعتبار هذه الأفعال جرائم جنائية تختلف عن الأعمال الحربية. فهذه جرائم وليست من طبيعة الحرب، وليست حتمية الوقوع بوقوع الحرب. وينطبق هذا الأمر على جميع أنحاء العالم، كما ينطبق على التجارب التي مر بها السودان، إذ انخرطت حركات صراع مسلحٍ مختلفة في مواجهات شرسة مع القوات المسلحة السودانية في الجنوب وفي الشرق وفي دارفور، وكردفان، والنيل الأزرق. وارتكبت القوات المسلحة السودانية الانتهاكات نفسها التي شهدناها منذ 15 أبريل/نيسان، كالقصف العشوائي، واعتقال واحتجاز المدنيين، وما إلى ذلك. لكننا لم نشهد تعرض هذه الحركات إلى المستشفيات، ونهب منازل المواطنين، وسرقة ونهب الممتلكات، واختطاف النساء واغتصابهن، أو القتل الجماعي على أساس الهوية. فقد وصلت حركة خليل إبراهيم إلى أم درمان واقتحمتها، ولكننا لم نسمع عن ارتكاب جنودها حالة اغتصاب واحدة، أو نهب سيارة مواطن واحد، أو سرقة ممتلكاته.

SUNA/ AFP
صبي أمام منزل دمرته مياه الفيضانات في ام درمان في 6 اغسطس

إنّ جرائم الحرب التي ترتكبها الميليشيات هي جرائم تعكس الطبيعة الفاشية للميليشيا وليست مجرد آثار جانبية من آثار الحرب. فالعدالة الانتقالية ليست مجرد كلمة تتكرر خاوية من أي مضمون، بل تشمل الاعتراف بالجرائم، وتحديد المسؤول عنها، والاعتذار عن ارتكابها بقصد التهرب من المساءلة الجنائية. لكن لا يجوز التهرب من المساءلة السياسية ومكافأة المغتصبين على جرائمهم، لأن ذلك يفتح الباب على مصراعيه أمام تكرار تلك الجرائم.

سُميت الانتهاكات التي وقعت على وجه التحديد بـ"جرائم الحرب". وقد جرى ذلك في سياق اعتبار هذه الأفعال جرائم جنائية تختلف عن الأعمال الحربية

2- تفتقر هذه الحرب التي تجري اليوم في السودان إلى أي أسس تاريخية أو سياسية تتعلق ببنية الدولة السودانية، كما تدعي الميليشيا وحلفاؤها. إنها حرب تتصف بالسوء تجري بهدف الحصول على غنائم الانقلاب العسكري. إنها حرب وقعت بين شريكين في جريمة اختلفا لاحقا حول توزيع غنائمها. وفي ذلك الوقت، كشف أحد هذين الشريكين، أي قوات الدعم السريع، عن وجهه الحقيقي كمنظمة فاشية لا تتردد في القيام بأي شيء لتحقيق تطلعات ورغبات سيّدها. وفضلا عن جرائم القتل، والاغتصاب، والنهب، والقتل الجماعي، وغيرها من الانتهاكات التي ارتكبتها الميليشيا، دعونا نلقي نظرة على خطاب الكراهية والتمييز والعنصرية الذي يمارسه الناطقون باسم وسائل الإعلام التابعة لها في فيديوهات التحريض والتفاخر بالغنائم المنهوبة، لرؤية هذا الوجه القبيح. إن محاولة خلق أسس اجتماعية، وسياسية لهذه الحرب أمر خاطئ، بل أمر خطر لأسباب عديدة:
أولا، لأن هذا يعمق جذور هذه الحرب ويصبّ مزيدا من الزيت على نيرانها. إنه يعطي الميليشيات مبررات للتعبئة على أساس عرقي وجهوي، وهو الأمر الذي يزيد من تمزيق النسيج الاجتماعي في السودان، ويُعقّد قضايا التعايش المعقدة أصلا والقائمة بالفعل في البلاد.

Reuters
نازحون سودانيون قرب ام درمان في 6 اغسطس


ثانيا، لأنه ليس حقيقيا؛ إذ إن الميليشيا لم تتأسس على أساس مظالم المكونات الاجتماعية السودانية، إنما ميليشيا "قوات الدعم السريع" هي أداة عنف وقمع أنشأها النظام المخلوع، ليس لها أساس نظري أو سياسي سوى ممارسة واستخدام كافة أدوات العنف لتحقيق أهدافها، سواء أكان ذلك لحماية النظام كما شهدناها وهي ترتكب مجازر سبتمبر/أيلول 2013 في الخرطوم، ودارفور، وشمال كردفان، ومناطق أخرى حتى سقوط نظام البشير، أو لخدمة التطلعات الذاتية لسيّدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) كما شاهدنا منذ خلع النظام في أبريل/نيسان 2019 وحتى تاريخ بدء الحرب الحالية.
ثالثا، لأنها تَحْرم المواطنين والفئات الاجتماعية من هذه الأسس التي تدعي قوات الدعم السريع أنها تمثلها تمثيلا حقيقيا، أي لمصلحة ميليشيا القطاع الخاص التي تعمل فقط لصالح أصحابها، في وقت تجُر فيه هذه الجماعات إلى حروب وصراعات لا تعني المواطنين، أو لا تخدم مصالحهم الجماعية في أي شيء.
3- لا يمكن إصلاح القوات المسلحة السودانية بدمج منظمات ذات توجهات وتطلعات سياسية في قيادتها، وفق ما هو مطلوب حاليا، أي دمج "قوات الدعم السريع" في قيادة القوات المسلحة. بل يجب أن يكون الغرض من هذا الإصلاح تطهير القوات المسلحة وقيادتها من جميع الكوادر المُسيسة. كما يجب أن تكون القوات المسلحة السودانية الجديدة والموحدة هيئة وطنية غير سياسية مستقلة عن أي تأثير سياسي على صنع القرار الذي تُمارسه الكيانات السياسية التي ينتمي إليها القادة. 

من أجل إصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية، نحتاج إلى نزع الطابع السياسي عن مؤسساتها، وليس زيادة إضفاء الطابع السياسي عليها، ومحاولة الاستفادة من أجزاء منها

كما يجب أن يتضمن الطريق المؤدي لأن تصبح عضوا في القوات المسلحة والوصول إلى منصب قيادي، المؤهلات المهنية والأداء والتفاني. ولا يجب أن يكون ذلك من خلال التمكين السياسي الذي يمارسه الإسلاميون وحزب المؤتمر الوطني، ولا يجب أن يكون ذلك مكافأة على الحرب الأهلية، كما يرغب أنصار هذه الدعوة لقوى الدعم السريع. إنَّ هذا بمنزلة تهدئة سياسية غير مقبولة، وبمنزلة التخويف من مستقبل البلاد، وهذا في واقع الأمر ضربٌ من الابتزاز. وعلاوة على ذلك، وبحكم تكوينها العرقي، وغير المهني، فإن قيادة الميليشيا وأعضاءها يفتقرون بشدة إلى المؤهلات المهنية والأخلاقية المتعلقة بالمهنية العسكرية وقوانين الحرب والتعامل مع المدنيين، كما شهدنا هذا الأمر في هذه الحرب. لقد سعينا في دعوتنا المستمرة لإصلاح القوات المسلحة، وقطاع الأمن في السودان إلى الارتقاء بهذه الالتزامات الأخلاقية والمهنية كأولوية تحكم أدائها وممارستها. وهذه الدعوة لا تخلو من دوافع خفية. بل بالأحرى، تسعى بشكل انتهازي إلى الاستفادة من الوجود والتأثير العسكريين للحلفاء المحتملين داخل مراكز صنع القرار العسكري، وهو الأمر الذي يؤدي إلى استمرار الحلقة الشيطانية الشريرة في السودان التي تتمثل في التحولات غير السلسة، والديمقراطيات المعيبة، والانقلابات العسكرية، والديكتاتوريات الشمولية في نهاية المطاف، والتي تكررت ثلاث مرات على الأقل في تاريخ السودان الحديث. 

SUNA/ AFP
سودانيون مع ما تبقى من منازلهم في ام درمان في 6 اغسطس


كل ما حدث في هذه الحرب يجب أن يضع حدا في نهاية الأمر لهذه الحلقة المفرغة، ويجب أن يمهد الطريق للسلام والاستقرار والحكم الرشيد في السودان. إن القميص الملطخ بالدماء هو الحجة الكامنة وراء الجهود المبذولة لإدراج قوات الدعم السريع في قيادة القوات المسلحة عند مزجها عن قصد بإصلاح قطاع الأمن. ومن أجل إصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية، نحتاج إلى نزع الطابع السياسي عن مؤسساتها، وليس زيادة إضفاء الطابع السياسي عليها، ومحاولة الاستفادة من أجزاء منها. يُنجز الحل السياسي الهادف لإنهاء الحرب في السودان، ومن ثمّ إعادة بنائه من خلال معالجة الواقع والأسباب التي أدت إلى هذه الحرب، وليس بمحاولة تكييف الوقائع والأسباب واستغلالها لخدمة تطلعات شخصية وسياسية، وتسويق ذلك في سياق الواقعية السياسية. يشهد الواقع على أن وجود الميليشيا كمؤسسة بحد ذاته هو أحد أسباب الحرب، إن لم يكن السبب الرئيس الذي أدى إلى هذه الحرب. وأي حل لا يبدأ بإنهاء الوجود المؤسسي لميليشيا قوات الدعم السريع، ومن ثمّ التعامل الفردي مع جنودها كمواطنين مسلحين، سواء من خلال التأهيل العسكري، والاندماج في المؤسسات الرسمية، أو من خلال التأهيل المدني والتسريح، ما هو إلا مجرد تأجيل اندلاع نزاعٍ مسلح آخر في السودان.

هناك شيء مهم تجب معالجته، وهو أنه كائنا ما كانت الخطوة الأخيرة في سعينا لإيجاد حلٍّ لوقف الحرب في السودان، يجب أن لا تشمل تلك الخطوة بأي حال من الأحوال مكافأةَ أولئك الذين سببوا الحرب وشاركوا في صنعها

إنّ إصلاح القوات المسلحة والقطاع الأمني والعسكري في السودان هو حجر الزاوية في أي حل لوقف هذه الحرب ومنع تكرارها. وهي مطالب ثورة ديسمبر/كانون الأول الملطخة بدماء شهدائها. إنها مهمة وطنية، مثلها كمثل إصلاح النظام الاقتصادي والصحي في الدولة، ويجب أن يتحقق ذلك على أسس علمية ومهنية بعيدة عن التأثير السياسي، وبعيدا عن التحيزات الإقليمية والعرقية، إذا كنا جادين في ذلك الإصلاح. ويجب أن يبدأ ذلك بتحديد ورفض الإسلاميين الموجودين في مراكز صنع القرار داخل الجيش، عوضا عن مجرد تكرار وإعادة صياغة الحديث عن سيطرة الإسلاميين عليه. وهذا واجبٌ يتطلب جهدا من القوى السياسية الوطنية (للقيام بواجبها) بدلا من الكسل المتمثل في ترديد شعارات التعبئة التي تستخدمها الميليشيا للتعتيم على الرأي العام. هناك شيء أخير مهم تجب معالجته، وهو أنه كائنا ما كانت الخطوة الأخيرة في سعينا لإيجاد حلٍّ لوقف الحرب في السودان، يجب أن لا تشمل تلك الخطوة بأي حال من الأحوال مكافأةَ أولئك الذين سببوا الحرب وشاركوا في صنعها. فقادة الجيش وقوات الدعم السريع مسؤولون على قدر المساواة، كل بحسب ما التزم به، وهو ما أدى إلى اندلاع الحرب في السودان. ومحاولة مغازلتهم بإمكانية مواصلة حياتهم السياسية على نحو طبيعي بعد أن تضع هذه الحرب أوزارها هي بمنزلة عطاءٍ من الذين لا يملكون ذلك العطاء إلى من لا يستحقونه.

font change

مقالات ذات صلة