اقتصاد فرنسا وانقلاب الغابون... دومينو الخسائر

باريس ضيّعت اليورانيوم والذهب وتتفادى التفريط بالنفط والمنغنيز والخشب والألماس والأحجار الكريمة

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يلتقي بشعب ماناغالا في بورت مورسبي في بابوا غينيا الجديدة في 28 يوليو/تموز 2023

اقتصاد فرنسا وانقلاب الغابون... دومينو الخسائر

أي لعنة تطارد المصالح الفرنسية في أفريقيا؟ تلك القارة التي ظل الاقتصاد الفرنسي يعتمد عليها في الحصول على المواد الأولية والثروات الطبيعية السطحية والباطنية المختلفة، لضمان تنافسيته مع الكبار الذين عززوا حضورهم الأفريقي، باسم نظام عالمي جديد قائم على صراع المصالح والثروات.

غداة كل انقلاب جديد في أفريقيا، يُطرح السؤال حول من يقف وراءه، وما حجم نقمة الحكام الجدد حيال المستعمر القديم، الذي يخسر تباعا محمياته أو مستعمراته التقليدية، ومصالحه الاقتصادية والجيوسياسية، وامتيازاته اللا المتناهية. فخلال ثلاث سنوات، شهدت أفريقيا جنوب الصحراء ثمانية إنقلابات قادها ضباط تخرج بعضهم في المدارس العسكرية الفرنسية. ويبدو أنهم عازمون على قطع شعرة معاوية مع باريس التي يتهمونها بإفساد الحكام ونهب الثورات وتفقير الشعوب. وعلى الرغم من الإدانة الدولية لاستيلاء العسكر على السلطة بالقوة وتعليق عضوية هذه الدول في منظمة الاتحاد الأفريقي، إلا أن الشارع الغاضب على حكامه الفاسدين يجهر بمعاداة الاستعمار القديم وإسقاط الأبوية الفرنسية (Paternalisme).

تتزعم النيجر "الغضب الأفريقي"، لتنضم إليها بوركينا فاسو ومالي وغينيا، ولا تعارضه شعوب أخرى داخل دول المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا "إيكواس" (ECOWAS). ما لا يُقال جهرا يُهمس به سرا، أن "الشعوب تريد تغيير العلاقات مع فرنسا وتفضل أن يتم ذلك بالطرق السلمية".

وتعتبر منطقة غرب أفريقيا أقدم المستعمرات الفرنسية في القارة وأكثرها خيرات وثروات. تمتد من شمال السنغال إلى جنوب ساحل غينيا وتوفر لفرنسا ما تحتاجه من طاقة ومعادن ومنتجات زراعية وغيرها.

ويتوقع أن تشكل سوقا استهلاكية تقدر بـ 800 مليون نسمة عام 2050 وفق تقديرات "إيكواس". ويمتد النفوذ الفرنسي جنوبا وسط القارة إلى البحيرات الكبرى والغابات الاستوائية، من تشاد إلى جمهورية الكونغو الديموقراطية على مساحة تتجاوز 3 ملايين كيلومتر مربع. وهي دول ذات دخل منخفض على الرغم من ثرواتها الطبيعية والمعدنية الهائلة.

قلق الرئيس

عبّر الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، عن قلقه من توالي الانقلابات الأفريقية على طريقة الدومينو، واتساع رقعة الزيت، معتبرا أن الأسباب نفسها والحماسة نفسها موجودة في دول أخرى، وأن الوضعية غير مستقرة في معظم دول القارة؛ "أنا متخوف جدا من وباء الانقلابات" (Epidémies de Putschs)، قالها أمام حشد من السفراء المعتمدين في القارات الخمس. وهم بدورهم متخوفون من أن يتم طردهم وإهانتهم كما حصل في نيامي، عاصمة النيجر، بعد نزع الحصانة الديبلوماسية عن السفير الفرنسي، سيلفان إيت، وعمد الانقلابيون إلى ترحيله. لكن الرئيس حسم الأمر موضحا أن بلاده لن تتخلى عن القارة السمراء: "إذا أبدينا الضعف... فسنكون خارج اللعبة"، في إشارة مبطنة إلى أن قوى اقتصادية جديدة تتوسع في أفريقيا، قد تزاحم الشركات الفرنسية التي تعتمد في علاقاتها الاقتصادية على صنّاع القرار المحليين.

ماكرون: "إذا أبدينا الضعف... فسنكون خارج اللعبة"، في إشارة مبطنة إلى أن قوى اقتصادية جديدة تتوسع في أفريقيا، قد تزاحم الشركات الفرنسية التي تعتمد في علاقاتها الاقتصادية على صنّاع القرار المحليين

وأفاد تقرير للخزانة الفرنسية أن تجارة باريس مع أفريقيا جنوب الصحراء تبلغ 2 في المئة من مجموع المبادلات الخارجية الدولية، وتمثل 11 في المئة من ورادات الطاقة والنفط والغاز، و10 في المئة من المواد الزراعية، إضافة إلى أهم واردات المعادن المختلفة. وهي سوق للصادرات الصناعية والتجهيزات والمواد الالكترونية والكهربائية. وبلغت التجارة البينية نحو 27  مليار يورو عام 2022  منها 16 مليارا من الصادرات و11 مليارا من الواردات.

ويقدر مجموع  الاستثمارات الفرنسية المتراكمة جنوب الصحراء بنحو 60 مليار دولار، لتلي بذلك المملكة المتحدة البالغة استثماراتها 65 مليار دولار. وقال التقرير إن هذه الاستثمارات تضاعفت مرتين في عشر سنوات بين 2010-2020. وتحقق باريس فائض قيمة تجارية مع جل الدول الأفريقية خاصة في منطقة غرب أفريقيا التي تضم ساحل العاج والسنغال، أكبر شركائها التجاريين. وتعتقد باريس أن أخطارها الاقتصادية في القارة تفوق أي أخطار مماثلة في أي قارة أخرى.

وحققت فائضا تجاريا مع دول غرب أفريقيا بلغ 2,3 مليار يورو عام 2022، بحسب تقرير الخزانة الفرنسية، 38 في المئة منها مع السنغال بقيمة 877 مليون يورو، تليها ساحل العاج بفائض فرنسي 374 مليون يورو، ثم مالي بـ350 مليون يورو.

بعد انقلاب الغابون

مباشرة بعد انقلاب الغابون، اهتزت بورصة باريس بعد خسائر سجلتها أسهم شركة "إيراميت" بنسبة 15 في المئة. وهي تستحوذ على مناجم المنغنيز والنيكل بنسبة 90 في المئة عبر منجم "مواندا" الأكبر في العالم. وتملك فرنسا 81 شركة عاملة في الغابون في مجالات البترول والغاز والمنغنيز والخشب والمعادن الثمينة والألماس والذهب، حققت العام الماضي أرباحا بقيمة 3 مليارات يورو بحسب تقرير الخزانة الفرنسية، أهمها "بروم إند موريل" و"إيراميت" و"توتال إينيرجي" و"آر فرانس" و"إيفاج وكولاس" و"بوربون" و"آر ليكيد" و"سي. أم. إيه. سي. جي. أم." و"ميريديام فاندز".

EPA

وفقا لصحيفة "لوموند"، فإن "الانقلاب العسكري الجديد في الغابون قد لا يشبه مثيله في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغينيا، لكنه يضع أمام فرنسا صعوبات جديدة ثقيلة ومكلفة، يرافقها تراجع عسكري في السنغال وساحل العاج". حاولت باريس تهدئة لغة الإدانة في إسقاط نظام حكم علي بونغو، الذي ظل مثل أبيه الراحل، عمر بونغو، حليف فرنسا الأكثر وفاء في مجموع أفريقيا. لم نسمع هذه المرة لغة التهديد والتشبث بالرئيس الشرعي كما حدث في انقلاب النيجر التي اعتبرته قطيعة ودعت إلى الحرب والنزال.

لم يخف الاتحاد الأوروبي، على لسان جوزيف بوريل،  وجود خلل في العملية الانتخابية الرئاسية التي سبقت إطاحة الرئيس الذي كان يعاني مضاعفات صحية من جلطة دماغية سابقة، سمحت لزوجته الفرنسية بالتدخل في الشؤون السياسية. ولم يصدر الاتحاد أي تهديد ضد القادة الجدد، واعتبر ضمنيا أن الانقلاب "سلمي" ومن "داخل السرايا والقصر والعائلة" قاده الجنرال أوليغي نغيما، القائد الجديد للدولة، وهو قريب الرئيس المخلوع علي بونغو، وخريج الكلية العسكرية الملكية في مكناس بالمغرب، وعمل ملحقا عسكريا في الرباط ثم في دكار في السنغال. 

أهمية الغابون تكمن في سواحله على المحيط الأطلسي وغاباته غير المتناهية، يعتمد في اقتصاده على النفط والغاز الذي يمثل 36 % من الناتج المحلي الإجمالي، و70 % من الصادرات، يليه المنغنيز 7 %، ثم الخشب ثالث الثروات، وقد بلغت المبادلات التجارية معه 846 مليون يورو، منها 536 مليونا صادرات فرنسية 

عكس الدول الأخرى، لم تشهد الغابون أي انقلاب في تاريخها منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960. تنتمي الغابون إلى المجموعة الاقتصادية لوسط أفريقيا التي تشمل أنغولا، بوروندي، الكاميرون، جمهورية أفريقيا الوسطى، الكونغو، الكونغو الديموقراطية، الغابون، وغينيا الاستوائية. تأسست المجموعة عام 1983، وتعتبر الغابون من بين الأعلى دخلا بنحو 8600 دولار للفرد، وناتج إجمالي يقدر بـ22 مليار دولار، وعدد سكان يبلغ نحو 2,5 مليون نسمة. الغابون بلد مستقر يدعو إلى السلام والتعايش، يحكمه رئيس مسلم وشعب 80 في المئة منهم مسيحيون، له تجربة محترمة في الممارسة الديموقراطية المحلية قبل أن تصاب بالانحراف. لم يكن نظام الغابون السياسي أكثر فسادا من بقية الأنظمة الأخرى المدعومة من فرنسا، التي تربط ولاءها بحجم المصالح الممنوحة للشركات المقربة من قصر الإليزيه. لكن أهمية الغابون تكمن في سواحله على المحيط الأطلسي وغاباته غير المتناهية، بين الصحراء الكبرى شمالا وصحراء كلاهاري جنوبا، يعتمد في اقتصاده على النفط والغاز الذي يمثل 36 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، و70 في المئة من الصادرات، يليه المنغنيز 7 في المئة، ثم الخشب ثالث الثروات، وقد بلغت المبادلات التجارية معه 846 مليون يورو، منها 536 مليونا صادرات فرنسية و310 مليونا واردات غابونية. 

دومينو الخسائر

ربما أدركت باريس متأخرة، ومعها بروكسيل، أن الدومينو لعبة سقوط حقيقية ضد مصالح فرنسا الحيوية، وقد لا تتوقف في وسط القارة. وقد تكون الانقلابات المحتملة ضمن الدول الأكثر قربا من سياسة باريس في القارة. الخلاف ليس مع الحكام بل مع علاقتهم بالاستعمار القديم والتسبب في الفوارق الاجتماعية والفساد المالي مع الشركات الأجنبية. 

باريس، التي  ضيّعت اليورانيوم والذهب في منطقة الساحل، تتفادى حاليا التفريط بالنفط والمنغنيز والخشب والألماس والأحجار الكريمة، أو ما تبقى من كعكة عمرها قرن ونصف قرن كانت توازي ثلث خيرات القارة السمراء على مساحة تزيد على 10 مليون كيلومتر مربع، كانت تكفي أجور مئات الآلاف من الجنود والموظفين وراء البحار والباقي يُنقل إلى باريس لتغطية عجز الخزينة. 

التوقيت سيئ، والاقتصاد الفرنسي يمر بفترة عصيبة وصفها برونو لومير، وزير المالية، بـ"الأصعب والأقل يقينية" بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، والتغيرات المناخية، والحاجة إلى الانتقال إلى الطاقة الخضراء في ظل ارتفاع أسعار المحروقات، وتكلفة الإصلاحات الاجتماعية، وتحديات المديونية التي تقارب 120 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي والتشرذم السياسي الداخلي.

باريس، التي ضيّعت اليورانيوم والذهب، تتفادى حاليا التفريط بالنفط والمنغنيز والخشب والألماس والأحجار الكريمة، أو ما تبقى من كعكة عمرها قرن ونصف قرن كانت توازي ثلث خيرات القارة السمراء، كانت تكفي أجور مئات الآلاف من الجنود والموظفين وراء البحار والباقي يُنقل إلى باريس لتغطية عجز الخزينة

لا أحد في حلقة القرار الفرنسي كان يتوقع  تألب كل هذه الصعوبات الظرفية العالمية وتزامنها مع انقلابات قد تحرم الاقتصاد من أقوى عناصر تنافسيته، وهي مواد أولية رخيصة ودائمة، وصفقات تجارية واقتصادية بغطاء سياسي وابتزاز محلي يساعد في تقليص عجز الخزينة التي تطمح إلى بلوغ 4,4 في المئة من الناتج الإجمالي عام 2024. وتساهم القارة السمراء في النمو الاقتصادي السنوي بما بين ربع ونصف نقطة، وتمنح فرصا هائلة للشركات الفرنسية في الخارج، وقد لا يستطيع الاقتصاد الصمود طويلا إذا أزيحت فرنسا من أفريقيا. 

المستفيدون الجدد

كان الرئيس الصيني شي جين بينغ يصف الرئيس الغابوني المخلوع، علي بونغو، بصديق الصين القديم، والحقيقة أن العلاقات بين بكين وليبرفيل تطورت كثيرا في السنوات الأخيرة وانتقلت إلى الشراكة الاستراتيجية الشاملة، وحازت الصين امتيازات في مجال التنقيب واستخراج المنغنيز والأخشاب والنفط، كما حصلت على عقود عمل في مجال البنى التحتية، وأصبحت المزود الثاني بعد فرنسا والزبون الأول للخشب.

لكن خسائر فرنسا السياسية لا تنحصر فقط في الدول التي تشهد انقلابات أو عدم استقرار سياسيا، بل امتدت إلى شمال أفريقيا القريبة حيث تحصل الصين وروسيا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا على عقود عمل واستثمارات ضخمة بعشرات مليارات الدولارات، مما دفع الرئيس ماكرون إلى وصف العلاقات مع دول المغرب العربي بأنها ليست في المستوى الذي يجب أن تكون عليه. وهو يدرك أن الطريق نحو أوروبا يجب أن تمر أولا عبر البحر الأبيض المتوسط.

font change

مقالات ذات صلة