في مديح الفريكة... ورثائها

كلّ بلد يعتبره طبقه الوطني

Getty Images
Getty Images
مزارع يقف بين حبّات الفريكة المتناثرة

في مديح الفريكة... ورثائها

"لم نأكل فريكة منذ خمس سنوات"، يقول صديق، ويضيف: " بقي لنا البرغل الذي يكاد يفارق موائدنا أيضا".

هذه العبارة التي كثيراً ما أسمعها حين نتحدّث كمجموعة أصدقاء وصديقات عن الطعام وطرق تحضيره بتلذّذ كبير، وفي منتصف الحديث نكتشف أننا نتحدث عن ماضينا، وحياتنا قبل عشر سنوات، حيث كان متاحا للجميع تناول الفريكة مع الدجاج مرة كل شهر كحدّ أدنى. لا أخفي ولعي بالمشاركة في أحاديث الطعام، وأتبادل مع أصدقائي وصديقاتي وصفات تحضير المؤونة، وأعتبر هذا الحديث تعبيرا عن حميمية وصداقة مؤكدة. إذ لا يجوز التحدّث مع الغرباء عن الطعام، إلا إذا كان الهدف شرح تاريخ مجهول لبشر في الضفة الأخرى يفكرون بأننا ما زلنا نعيش حياة بدائية غامضة وغير مفهومة، أنا دوما حين أفعل ذلك أزيد من يقينهم بأننا نحن كذلك. نصنع أطعمتنا بالطريقة نفسها التي فعل فيها أجدادنا ذلك قبل آلاف السنين.

يمنحني هذا التاريخ تحديا كبيرا للنضال من أجل وقف إنتاج الهرمونات التي دمّرت الأطعمة. لا يعجبني التطور في هذا المجال، وأتهم المختبرات بالإجرام. وأعتقد بأن الأرض لديها موارد تكفي خمسة أضعاف سكانها.

غابت الفريكة عن طعام السوريين، لأسباب كثيرة، أولها خروج الجزيرة السورية وشمال حلب، وأغلب الأمكنة الرئيسية المنتجة للقمح عن سيطرة النظام، والسبب الثاني تدني دخل المواطن السوري

غابت الفريكة عن طعام السوريين، لأسباب كثيرة، أولها خروج الجزيرة السورية وشمال حلب، وأغلب الأمكنة الرئيسية المنتجة للقمح عن سيطرة النظام، والسبب الثاني تدني دخل المواطن السوري بشكل عام وارتفاع أسعار الفريكة إلى مبالغ قياسية.

"لقد أصبحنا جميعا فقراء، وقلة من الزبائن تطلب طبق الفريكة لارتفاع ثمنه" يتابع صديقي الذي يعمل شيفا في أحد الفنادق الفاخرة "الأنواع الموجودة في السوق أغلبها تجارية، يمكن تسميتها قمح محروق وليس فريكة" والفرق بين القمح المحروق والفريكة ليس في الشكل فقط لكن في الطعم أيضاً. ما زلت أذكر موسم تحضير الفريكة وأعتبره عطر الطفولة الأزلي.

تُحضّر الفريكة في شهر مايو/ أيار قبل أن تصفر سنابل القمح، هذا الوقت لم يكن مناسباً لوصولنا إلى القرية، لذلك لم أحضر هذا الطقس إلا مرات قليلة بقيت في ذاكرتي إلى الأبد.

Getty Images
طبق من الفريكة قبل طهيها

 المدارس تغلق أبوابها في الأسبوع الأول من يونيو/ حزيران وتحتاج العائلة إلى أيام قليلة لتحضير نفسها للسفر، لذلك كنا نصل دوما إلى القرية بعد موسم تحضير الفريكة التي تُعدّ من القمح قبل اكتمال نضوجه "القمح الأخضر الطري"، يجري انتقاء أفضل أنواع سنابل القمح التي تقطف بعناية وتحمل إلى مكان بعيد عن الحقول، وتُرتّب على أحجار بينها فراغات لتنسلّ السنابل بعد احتراقها في خفة، وتترك سيقان القمح وأوراقه لتصبح رمادا، ولا يجوز أن تتحول الفريكة إلى رماد وإلا فقدت خصوصيتها وأصبحت قمحا محروقا يجب جرشه لتقديمه مع الشعير المطحون علفا للجياد والبغال المدللة.

 في المرات القليلة التي حضرت فيها هذا الطقس كنت أنظر إلى النار المقدسة التي تتحول شعلتها إلى اللون الأزرق، أتشمّم رائحتها الرائعة، سيقان وسنابل قمح خضراء تشتعل وتنثر رائحة عطر حقيقي، نار زرقاء أقرب إلى الخضراء تنبعث من تلك المحرقة، أتنفّس رائحة النار، أعبّها في أنفاسي كأنني أستنشق عطر امرأة أشتاق إليها.

 لأول مرّة أكتشف بأن للنار عطرا لا يقاوم ولونها لم أره مرة أخرى إلا في حقول الزيتون شتاءً حين نشعل ناراً في أغصان زيتون أخضر مبلّل بالماء، هذا لم يحدث كثيرا بعد هجري الطبيعة الأم، وارتكابي حماقة العيش في المدن والاندماج حتى الثمالة في حياة المقاهي والمطاعم والشوق إلى تلك الروائح والألوان.

 

نار مقدّسة

الجميع يراقب النار المشتعلة بخوف وتبجيل، حتى الرجل المشرف عليها، ينظر بخوف شديد إلى تلك السنابل التي يجب عزلها قبل أن تتحوّل إلى فحم، تُجمع السنابل المحترقة وتُبرّد يوما كاملا علـى الأقل، لتفصل "المدقات" السنابل عن قشورها وتعرض للهواء كي تتنثر القشور بعيداً عن حبوب الفريكة كهباء رقيق حزين.

Getty Images
حصاد الفريكة (القمح الأخضر الطري) في سوريا

 يجري اليوم استخدام الحصادات للحصول على الفريكة، وفي رأيي المتواضع، فإن الفريكة طبق عزيز فقد بعض قيمته حين بدأت الآلات تدخل في إنتاجه. ذلك أن إنناج الفريكة ليس عملية تجارية بحتة، بل روحية استمرت حسب الروايات أكثر من أربعة آلاف سنة، ولا يجوز للشركات العبث بها.

 حبات القمح الخضراء تتحوّل من سنابل تحتفظ بطعم آخر حليبها وخصوبتها، تتمايل مع الريح، تحمل اسمها الجديد "فريكة"، تُطبخ مع اللحوم والدجاج وتمنحنا طعما لا يمكن مقاومته لذواقة الطعام.

في موسم الفريكة تفوح في القرية روائح عطر غريب، وتتسع عيون الفلاحين ببراءة وتعلن أن مواسم الأرض قادمة.

كنت أنظر إلى النار المقدسة التي تتحول شعلتها إلى اللون الأزرق، أتشمّم رائحتها الرائعة، أتنفّس رائحة النار، أعبّها في أنفاسي كأنني أستنشق عطر امرأة أشتاق إليها

لم يكن ممكنا لعائلة فلاحين سوريين أن يشتروا هذه الأشياء من السوق، إنها جزء من أمنهم الغذائي الذي توارثوه عبر آلاف السنين، ولم يُطرح سؤال لماذا نفعل ذلك. " الفريكة " جزء من الفطرة الإنسانية لهؤلاء البشر الذين اعتقدوا بأنهم الوحيدون الذين يمتلكون امتياز هذا الطقس. ويتحسّرون على العالم الآخر البعيد وراء البحار لأنهم لا يعرفون هذه الأطعمة.

 الفريكة طبق سوري ومصري وعراقي ويُنتج في أغلب البلاد العربية، إلا أن كل بلد يعتقد بأنه طبقه الوطني الخاص.

 

حكاية الفريكة

الفريكة كما كل أنواع الطعام لها حكاية، وهناك روايات متعدّدة تروى في التاريخ عن اكتشاف الفريكة لكن أشهرها وأكثرها تداولا هي الرواية التي تبنتها جميعة "سلو فود" التي تعرّف نفسها بأنها حركة عالمية لديها شراكة مع منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، لضمان "طعام طيب ونظيف وعادل للجميع". تقول الرواية بأنه أثناء أحد الحروب حوالي عام 2300 قبل الميلاد، قام جنود بحرق حقول قرية شرق متوسطية قبل الانسحاب منها، واضطر السكان الفقراء لفركها وتخليصها من الهباب والقشور المحترقة، بعد طبخها اكتشفوا طعمها اللذيذ، وبدأوا بإنتاجها وتجويده حتى وصل إلينا منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا.

Getty Images
مزارعون خلال إنتاج الفريكة في سوريا

أفكر بـأن الجنود الذين أحرقوا القرية (أعتقد أنها قرية سورية) كانوا سببا في هذا الاكتشاف العظيم، كما الحرب التي أحرقت سوريا بحجرها وبشرها، كانت سببا في منع السوريين من الوصول إلى غذائهم الملكي، وتدمير آخر سلالة قمح طبيعي في العالم بعد تدمير قمح العراق.

اليوم ابتعدت تلك الأيام التي رأيت فيها النار الزرقاء للمرة الأولى، ما زال وجه أمي وخالاتي اللواتي "ينسفن" الحبات الخضراء الناضجة، مشعا في ذاكرتي إشعاع وجوههن بأمل لطالما كان الشعلة التي أتارت حياتي. لا أشبع من التغزّل بمشهد فلاحات قويات يصنعن غذاء أطفالهن في شجاعة نادرة رغم كل الظروف. ما زالت تلك الشعلة تتقد في روحي، تحولت إلى نار مقدسة، قد تكون ذات يوم كلمة السر التي تنهض بأرضنا وبلادنا المقدسة.

font change

مقالات ذات صلة