لبنان: استخراج الغاز وانتخاب رئيس للجمهورية

AP
AP

لبنان: استخراج الغاز وانتخاب رئيس للجمهورية

يتصدر الشغور الرئاسي ظاهريا سائر الملفات اللبنانية العالقة ويحاول البعض تسويقة وكأنه المدخل الأساس لمسار الحل الشامل للأزمات اللبنانية. إلا أن الحقيقة الدامغة في الاعتراف بأن الشغور الرئاسي ليس سوى أحد نتاجات الأزمات المستمرة التي عرفها لبنان منذ تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الأولى بعد توقيع اتفاق الطائف (وثيقة الوفاق الوطني) عام 1989 الذي تحول إلى دستور للبلاد.

الملفات إياها تتمحور حول عدم القدرة على إنتاج سلطة وطنية حقيقية، وعدم القدرة على بسط سيادة الدولة على كامل أراضيها وتطبيق الدستور بكافة مندرجاته، وهي ملفات تعايش معها رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومات، وتعايشت معها المؤسسات الدستورية والأمنية التي فقدت أدوارها تباعا قبل أن يبلغ التعثر والشلل مفاصلها كافة.

أجل لقد تماهى في لبنان المشهدان السياسي والأمني بالمشهد الإقليمي المتفجر، وأُخضع ما تبقى من هياكل المؤسسات الدستورية للإملاءات الخارجية، بما جعلها عاجزة عن إيجاد الحلول للأزمات الوطنية، وبما أفقد الحياة السياسية وزنها واتزانها.

AFP
اجتماع مجلس الامن الدولي في نيويورك في 17 اغسطس

لقد انشغلت الأوساط السياسية اللبنانية خلال الأسبوع المنصرم بجملة من العواجل الدولية والإقليمية المتصلة بالمشهد اللبناني على المستويين الأمني والسياسي، وعكست التقاطعات الواضحة فيما بينها حجم التلازم بين الملفات اللبنانية والاضطراب الإقليمي/ الدولي على أكثر من صعيد.

ضمن هذا السياق يمكن قراءة التلازم بين التمديد لمهمة قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل) المنتشرة في جنوب لبنان بموجب قرار مجلس الأمن 1701 ورسائل التهديد لهذه القوات من قبل "حزب الله"، وكيف أصبحت مسألة حصر السلاح في السلطة الشرعية اللبنانية بمنطقة جنوب الليطاني رهنا بالتوافقات الإقليمية حول مستقبل الميليشيات الإيرانية المنتشرة من اليمن جنوب البحر الأحمر إلى جنوب لبنان على البحر المتوسط، وربما باتت رهنا بتعثر المفاوضات حول الملف النووي.

لقد تماهى في لبنان المشهدان السياسي والأمني بالمشهد الإقليمي المتفجر، وأُخضع ما تبقى من هياكل المؤسسات الدستورية للإملاءات الخارجية، بما جعلها عاجزة عن إيجاد الحلول للأزمات الوطنية، وبما أفقد الحياة السياسية وزنها واتزانها

في هذا السياق أيضا، يفهم أمن منصات استخراج الغاز من المياه الاقتصادية الخالصة في لبنان كأحد الملفات الإيرانية، أو بشكل أوضح أحد أوراق القوة التي تحوزها طهران للاضطلاع بأدوار دبلوماسية وأمنية مع الشركات النفطية وتحقيق مكاسب سياسية لدى دولها. ويتداخل في هذا المجال اللاعبون الإقليميون والدوليون فيصبح أمن الحدود وتمديد مهمة القوات الدولية جواز مرور نحو الدور المرتجى لخدمة شركات دولية تعمل في استخراج الغاز، ويصبح تسهيل انتخاب رئيس للجمهورية رهنا بالنجاح في العثور على توافقات حول كل ذلك.

ثلاثة عواجل دخلت المشهد السياسي اللبناني خلال الأسبوع المنصرم:
الأول: صدور قرار مجلس الأمن رقم 2695 الذي أكد على حرية التحرك لقوات "اليونيفيل" في تنفيذ مهامها دون إلزامية أخذ الموافقة المسبقة والتنسيق مع الجيش اللبناني، بالرغم من التهديدات العالية النبرة التي وجهها "حزب الله" في حال عدم التجاوب مع إصرار وزير الخارجية اللبناني عبدالله بوحبيب على تعديل قرار مجلس الأمن رقم 2650. ويعبّر إصرار مجلس الأمن على عدم التراجع عن قراره السابق عن تصميم دولي على التدرج في تطبيق القرار 1701 المستند إلى الدستور اللبناني والذي يمنع أي نشاط مسلح في منطقة جنوب الليطاني خارج إطار الشرعية اللبنانية. ويروم "حزب الله" من خلال التهديد التذكير بالصدامات مع الأهالي، التي لطالما أدارها، وكان آخرها في 14 ديسمبر/كانون الأول 2022 لدى اعتراض دورية لـ"اليونيفيل" في جنوب لبنان تطوّر إلى إطلاق نار وأدى إلى سقوط جندي أيرلندي وجرح ثلاثة من عناصر القوة. وما بين القرار الدولي وتهديد "حزب الله" ترتسم العلاقة الإشكالية بين سيادة لبنان على حدوده ومصالح طهران من خلال الحفاظ على سلاح "حزب الله".

DPA
جنود من قوة حفظ السلام الدولية "يونيفيل" برفقة جندي لبناني قرب الحدود اللبنانية - الاسرائيلية


الثاني: زيارة مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الطاقة والوسيط في اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل هاموس هوكشتاين إلى لبنان بالتزامن مع صدور قرار مجلس الأمن رقم 2695 وبالرغم من تهديدات "حزب الله". لقد عبّر هوكشتاين الذي كان عرّاب تنازل الرئيس السابق ميشال عون والحكومة اللبنانية عن جزء من حقوق لبنان البحرية، وعرّاب انتزاع مباركة "حزب الله" لهذا التنازل، عن سادية أميركية في قيادة المشهد اللبناني عبر القيام بزيارات سياحية في العاصمة بيروت وفي مناطق هيمنة "حزب الله" في البقاع والجنوب وعبر محادثات أجراها مع رئيس مجلس النواب نبيه بري تناولت ملف ترسيم الحدود البرية مع إسرائيل. 
يشكل الخوض في ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل مقدمة لإسقاط كل مبررات الإبقاء على سلاح "حزب الله" في منطقة عمل "اليونيفيل"، هذا ما تناوله القرار الدولي 2695 للمرة الأولى في البند المتعلق بقرية الغجر السورية والانسحاب من خراج بلدة الماري اللبنانية. وقد يعبّر أيضا عن رغبة أميركية في إخضاع طهران مرة أخرى لقبول الترسيم البري ودفع "حزب الله" لمباركته والإشادة به كما حصل في السابق. ولا بد من الإشارة إلى تزامن زيارة الوسيط الأميركي مع الانتشار الأميركي الكبير في الخليج العربي والبحر المتوسط وتعزيز القوات الأميركية في شمال شرقي سوريا والتلويح بإقفال الحدود بين العراق وسوريا.
الثالث: الزيارة المفاجئة لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان إلى بيروت والتي يبدو أنها رُتبت على عجل وربما يكون الدافع البارز لها هو التعزيزات العسكرية الأميركية المتسارعة على الحدود العراقية السورية وتداعياتها على مستقبل الميليشيات الإيرانية في سوريا وعلى استدامة الإمداد اللوجستي إلى لبنان. زيارة عبداللهيان التي استهلت بلقاء الرئيس نبيه بري ثم أمين عام "حزب الله" حسن نصرالله أملتها دون أدنى شك ضرورات التواصل مع حلفاء طهران في بيروت. وما تأكيد عبداللهيان، بعد اجتماعه بوزير الخارجية عبدالله بوحبيب، على استعداد إيران لتعزيز التبادل الاقتصادي مع لبنان، واستعداد الشركات الإيرانية لحلّ مشكلة الكهرباء إلا من قبيل ذر الرماد في العيون. 
 

أضفى توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول 2022 بعدا اقتصاديا هاما أضيف إلى البعد الأمني الذي لطالما مثلته الحدود الجنوبية مع إسرائيل

وتجدر الإشارة إلى أن ما أعلنه عبداللهيان في مؤتمره الصحافي بأن إيران لا تتدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، يناقض الواقع كليا، فالكل يعلم بالدور الإيراني في مصادرة الاستحقاق الرئاسي والتحكم قبل ذلك في عدد من الاستحقاقات الدستورية، ووضع كل ذلك في خدمة موقع إيران التفاوضي في أكثر من ملف مع الولايات المتحدة الأميركية وسواها من الدول الغربية. 

Reuters
مسؤولون لبنانيون على متن الحفار "ترنس اوشين بارنتس" في 22 اغسطس


لقد أضفى توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول 2022 بعدا اقتصاديا هاما أضيف إلى البعد الأمني الذي لطالما مثلته الحدود الجنوبية مع إسرائيل، بل يمكن القول إن هذا الترسيم قد فتح أفقا جديدا لمقايضة التوافقات على الأدوار الأمنية بتوافقات اقتصادية يحتاجها الجميع، لا سيما طهران التي طالما سعت دون أن تتمكن من تحويل نفوذها الأمني عبر ميليشياتها المسلحة إلى مكاسب سياسية ثابتة ومعترف بها. هذا ما ذهبت إليه طهران عندما ارتضى "حزب الله" تجاهل كل طروحاته السابقة واستكان خلف رئيس الجمهورية السابق ميشال عون بقبول الخط 23 لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل بدلا من الخط 29 الذي اقترحه الوفد العسكري المفاوض، مما أفقد لبنان أكثر من 1300 كيلومتر مربع من حقوقه البحرية. بل أكثر من ذلك، فقد سعى إعلام الحزب إلى التأكيد على دوره في حماية منصات الاستخراج انطلاقا من نصر مزيف ادعاه.
يتساءل اللبنانيون بحذر عميق عن الثمن الذي يتوجب دفعه لإنجاز الترسيم البري لا سيما أن إنجاز الترسيم البحري كانت له كلفة باهظة من حقوق لبنان في المنطقة الاقتصادية الخالصة وإن لم يعترف بها لبنان، فهل ينجح الوسيط الأميركي في وضع "حزب الله" للمرة الثانية أمام خيار المواجهة أو التنازل؟ وبمعنى آخر: هل سيدفع لبنان ثمن الترسيم مزيدا من التنازل عن سيادته، وما هو الدور المستقبلي لسلاح "حزب الله"؟ وهل يصبح توزيع الأدوار حول منصة استخراج الغاز هو الطريق لانتخاب رئيس للجمهورية؟ 
 

font change

مقالات ذات صلة