حكايات سعيد شيمي مع السينما وأهلها

ثلاثة كتب تروي مسيرته

سعيد شيمي

حكايات سعيد شيمي مع السينما وأهلها

القاهرة: يجول بنا سعيد شيمي في ثلاثيته "حكايات مصور سينما: الغريب والخفي أثناء عمل الأفلام"، الصادر أخيرا عن دار "الهالة للنشر والتوزيع"، داخل كواليس مسيرته السينمائية الحافلة وأسرارها.

قدّم شيمي الى المكتبة العربية 35 كتابا، 15 منها ألّفها في أوقات الفراغ أثناء عمله مديرا للتصوير، أما البقية فكتبها بعد بلوغه السبعين واعتزاله التصوير مكتفيا بتدريسه. معظم هذه الكتب يدور حول ثلاث ثيمات عامة، لكنّ الشخصيات تحتلّ النسبة الكبرى في قائمة موضوعات كتب شيمي، ومن تلك الشخصيات زملاء في مهنة التصوير، منهم عبد العزيز فهمي وأوهان ورمسيس مرزوق ومحسن نصر وطارق التلمساني وعصام فريد، وغيرهم. وقد حرص شيمي على اختيار أسماء تمثل أجيالا ومذاهب مختلفة بداية من الرواد الأساتذة إلى المجايلين ومن بعدهم.

لا يقف إبحار شيمي عند أهل المهنة، بل يتجوّل بتمهّل وروية معتمدا على تداعي الذاكرة مستعيدا فترات زمنية وشخصيات تركت أثرا في نفسه: "ما يخطر ببالي وذاكرتي من حوادث وأحداث خلال عمري، ربما تكون شيقة ومفيدة للبعض، أو لا تعني شيئا لآخرين"، يقول في مقدمة الجزء الأول من الثلاثية "في وجداني ما زال عقل طفل يلهو حتى وأنا أقترب من عمر الثمانين، لِمَ كل هذه الأشياء التي أحتفظ بها؟".

بدأ سعيد شيمي حياته السينمائية مصورا ومخرجا. وحمل أول فيلم لطالب كلية التاريخ جامعة القاهرة، عنوان "حياة جامعية". تحايل شيمي وقتها على محدودية الإمكانات فصنع من صندوق للمياه الغازية "شاريو" لتحريك كاميرا استعارها من خاله هاوي التصوير، مستعينا بزملائه في الدراسة لتأدية الأدوار. وقد أصبح ذلك ديدن شيمي خلال رحلته الطويلة مع التصوير، فهناك الكثير من التحديات التي واجهها بالابتكار والتحايل على الظروف، وهو ما يفرد له في ثلاثيته ساحات مختلفة.

أمسك يوسف وهبي صورة الأشعة، ووقف ينظر إليّ وإلى الكاميرا القريبة منه ومن صورة الأشعة التي ستبدأ بها اللقطة، وقال لي: إنت بتعمل أيه هنا؟

سعيد شيمي

في حديث سابق مع طلاب معهد السينما، أكد شيمي أن الشغف هو الهدف الأكبر الذي ظل محافظا عليه طوال حياته، فحين كان يشعر بحالة من التكرار أو التشابه في مرحلة ما من عمله، يلجأ إلى عالم آخر بديل يقوم من خلاله بالتصوير وفق حالة الشغف التي اعتادها، وكان من نتائج ذلك على سبيل المثل تجربة التصوير تحت الماء للمرة الأولى من خلال فيلم "جحيم تحت الماء" (1989) إخراج نادر جلال وهي تجربة جريئة في الإنتاج تضاف إلى رصيد الفنان الراحل سمير صبري.

في أحد فصول الجزء الثاني يحكي شيمي عن حادثة عارضة مر بها بصحبة أخته وأمه أثناء ذهابهم لأداء الحج، عندما اشتعلت النيران بأحد المحركات الجانبية أثناء هبوط الطائرة، واصفا شعوره بالمشهد الحقيقي من وجهة نظر المصوّر، حتى أنه عنون الفصل "كما يحدث في الأفلام". 

لا تقف حكايات شيمي عند كواليس الأفلام، فهو يتخذ من هذه الحكايات مدخلا لشهادته حول سلسلة من التحولات التي شهدها المجتمع المصري بداية من الانتقال من الحكم العثماني، مرورا بتحقيق حكم مصري وطني على أيدي الضباط الأحرار في 1952، ثم معايشة الحلم القومي وانهياره لاحقا بهزيمة 67، وصولا إلى التغير الجذري عقب انتصار أكتوبر 73 وما تبعه من انفتاح. لا يفوّت شيمي أي فرصة للتعليق وللإشادة في بعض الأحيان، بملامح أو أهداف أو حتى سلوك الناس العاديين في فترات مختلفة من التاريخ المصري، عبر مواقف إما عاشها بالفعل أو سمع وقرأ عنها في نطاق الأسرة والمحيطين به أو من خلال الكتب التاريخية.

 

يوسف وهبي وسعاد حسني وعماد حمدي

تحفل حكايات شيمي بالأسماء، بيد أن مجموعة من هؤلاء لهم النصيب الأكبر، وفي مقدمتهم المخرجان محمد خان وعلي عبد الخالق، ويليهما عاطف الطيب ونادر جلال وأشرف فهمي، وإن بقي لحضور خان مكانة مختلفة. كما تتضمن الحكايات أسماء لعلامات في السينما التسجيلية مثل أحمد راشد وفؤاد التهامي وسعد نديم. يقول شيمي عن تجربته مع الفيلم التسجيلي: "تعوّدت في تصوير الأفلام التسجيلية أن أقابل الصعاب وأقاومها". قدم شيمي ما يقارب سبعين فيلما تسجيليا، وتحضر في الثلاثية أسماء مخرجين ربما يسمع عنهم القارئ للمرة الأولى.

البطل الرئيسي في حكايات شيمي هو الإنسان، بكل اختلافاته وتنوعه الثقافي والمجتمعي. فأثناء تجولك بين الحكايات قد تشاهد عميد المسرح العربي يوسف وهبي أثناء ظهوره كضيف شرف –في دور كبير الأطباء- بأحد الأفلام الأولى لشيمي من إنتاج التلفزيون المصري "أغنية للحب والموت": "أمسك يوسف وهبي صورة الأشعة، ووقف ينظر إليّ وإلى الكاميرا القريبة منه ومن صورة الأشعة التي ستبدأ بها اللقطة، وقال لي: إنت بتعمل أيه هنا؟".

كما ستتعرّف عن كثب إلى ما يسميه شيمي "دوار العمدة": "لم أعرف الفنانة العظيمة سعاد حسني عن قرب إلا في منزل صديقي سامي السلاموني، فشقة سامي كانت دوار العمدة التي يتجمع فيها الأصدقاء والفنانون من دون ميعاد". لشيمي كتاب ممتع عن السلاموني بعنوان "صديقي سامي السلاموني" (1921). وقد تتفاجأ حين تعلم أن عماد حمدي كان المرشح لدور الأب في فيلم "العار" لعلي عبد الخالق بدلا من عبد البديع العربي وقد صوّر بالفعل عددا من المشاهد على مدار ثلاثة أيام.

 

محمد خان وأحمد زكي

لم يكن التصوير السينمائي بوّابة شيمي الوحيدة إلى عالم الفن السابع وأهله من النجوم، فقد بدأ ذلك منذ الصغر: "كنت محظوظا حين عملت في محلات أخوالي في الستينات بوسط البلد؛ فقد شاهدت عن قرب بعضا من ممثلينا المشهورين وقتها وهم يشترون الحلوى: اسماعيل يس. شكوكو. تحية كاريوكا وزكي رستم الذي لم أجرؤ أبدا على الكلام معه".

ولد سعيد شيمي في حي عابدين في 23 مارس/آذار 1943 لأب طبيب، ومن طريق عيادة الأب تعرف شيمي إلى صديق عمره المخرج محمد خان الذي يكبره بعام واحد: بدأت صداقتنا أنا وميمي بصداقة عائلتينا، فقد كانت عيادة والدي الدكتور أحمد سعيد شيمي في ميدان العتبة، وفي العقار نفسه كان مكتب والد ميمي عمي حسن خان، وكان تاجرا للشاي يستورده من الهند وسيلان ويوزعه في مصر".

يعتبر الفنان الراحل أحمد زكي من أبرز الوجوه التي عرفتها عدسة شيمي، حيث صوّر له عشرة أفلام بدأت بـ"طائر على الطريق" (1981) لمحمد خان، وكان من أولى البطولات المطلقة لزكي- وانتهت بفيلم "حسن اللول" (1997) لنادر جلال، وبين تلك الأفلام بعض أكثر الأدوار تميزا لـ"فتى الشاشة الأسمر" مثل "البريء"، "الحب فوق هضبة الهرم"، "ضد الحكومة"، وكلها بتوقيع الراحل عاطف الطيب.

يروي شيمي أنه التقى أحمد زكي للمرة الأولى في مقهى بميدان التحرير، حين كان يجلس الأخير بصحبة الناقد سامي السلاموني "يأكلان ساندوتشات الفول والطعمية ويشربان الشاي"، وكان الانطباع الأول لشيمي عن هذا الفتى النحيل أنه "انسان عادي، لا ظريف ولا متحدث لبق". ولكن بمرور الأيام عرف شيمي أنه يتعامل مع "فنان فوق العادة" كما وصفه، لا سيما في ما يخص الانفصام التام عن الواقع لأجل الشخصية، وهو ما كاد أن يُنهي حياة شيمي نفسها أثناء تصوير مشاهد الحركة وعلى رأسها مشاهد المطاردة بالسيارة في "طائر على الطريق".

الانطباع الأول لشيمي عن أحمد زكي أنه "انسان عادي، لا ظريف ولا متحدث لبق". ولكن بمرور الأيام عرف أنه يتعامل مع "فنان فوق العادة"

حكايات كثيرة تدور حول تقمص أحمد زكي الشخصية التي يؤدّيها إلى درجة أنه يصبح وإياها واحدا. يذكر لنا شيمي بعضا من تلك الحكايات والنوادر عبر فصول ثلاثيته، فأثناء أحد مشاهد فيلم "البريء" استعين بعدد من الجنود الحقيقيين، وبينما هو في موقع التصوير مع عاطف الطيب، لمح هذا الأخير جنديا قادما من بعيد فأعجب بمشيته وهيئته الواقعية وطلب إبلاغ أحمد زكي بأن يتقمّص هذه الشخصية بالتمام، وحين اقترب منهما الجندي اكتشفا أنه أحمد زكي بشحمه ولحمه.

في واقعة أخرى تخصّ فيلم "ناصر 56" يروي شيمي: "حضر وزير الإعلام لزيارة موقع التصوير والعاملين، فهرول البعض إلى أحمد زكي ليتقدم لاستقبال الوزير، فما كان منه إلا أن نهرهم صائحا: أنا جمال عبد الناصر، الوزير هو من يأتي إليَّ!".

 

  أبطال الكواليس

لعمال السينما مكانة خاصة عند شيمي، أولئك البسطاء القابعين خلف الكاميرا، الذين تمرّ أسماؤهم سريعا في نهاية الفيلم. تجارب عديدة خاضها شيمي مع هؤلاء الأبطال المجهولين، ومن خبرتهم المكتسبة خلال سنوات عملهم الطويلة في الأستوديوهات استقى خبرة مختلفة تأتي من داخل المطبخ الخفي لمواقع التصوير. يذكر في أكثر من مناسبة أن أهمية تلك الخبرة كانت "أكبر مما حصلت عليها من الأكاديميين... تعلمت من بعد تخرجي من عمال الاستوديوهات الذين تربوا داخلها".

من بين هؤلاء "عم حسن البحيري"، وهو من أوائل عمال الكاميرا الذين التقاهم شيمي عبر مسيرته. لم يكن شيمي يحمل أي ما يدل على كونه مصورا سينمائيا، طالبا لا يزال في دراسة التاريخ بآداب القاهرة بعد فشله في الالتحاق بمعهد السينما ثلاث سنوات متوالية. على الرغم من ذلك كان الفتى يتبع شغفه بالكاميرا خارج أسوار المعهد الرافضة، وبدأ بالفعل يعمل مساعد تصوير في ما سمّي بأفلام الهواة. ثم أتيحت له فرصة العمل مساعد تصوير في فيلم تسجيلي قصير وحين ذهب لاستلام الكاميرا رفض "عم حسن" تسليمها له، قائلا: "انت جاي تاخد كاميرا وانت مش مصور".

في كل جزء من الثلاثية ثمة نماذج لبطولات عديدة وشاسعة شسوع عناصر العمل السينمائي، التقطتها عين شيمي برهافة وعفوية وصدق وهي العناصر الثلاثة الأبرز في فلسفة عدسته، والتي يمكن تتبعها بوضوح عبر 108 فيلما روائيا هي حصيلة مسيرته في التصوير خلال ما يزيد على نصف قرن من عمره ومن تاريخ السينما المصرية.

  

font change

مقالات ذات صلة