تزامُن اشتباكات شرقي سوريا مع مظاهرات مدينة السويداء في الجنوب، يحرض على التفكير في سياقات جديدة للعثور على حل للاستعصاء السوري المستمر منذ 12 عاما.
لا يمكن، بداهة، إسقاط احتمالات وقوف قوى إقليمية ودولية وراء الاقتتال بين "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) ذات الاكثرية الكردية وبين والعشائر العربية، في نواحي دير الزور، ولا التحرك المستمر منذ أكثر من ثلاثة أسابيع في منطقة السويداء وقراها. ذلك أن دوافع عدة تعزز الاحتمالات هذه.
وفي حالة الشرق السوري، هناك كلام تردد عن عزم الولايات المتحدة إغلاق الطريق البري الذي سمي "خط طهران– بيروت" والذي تستخدمه قوى "الممانعة" لإمداد عناصرها وقواتها على امتداد العراق ثم سوريا وصولا إلى لبنان. وأن ثمة من دفع مسلحين عربا لافتعال صراع مع "قسد" التي ستسير في الخطة الأميركية المذكورة، مفضلة الراعي الأميركي على غيره ممن تعاملت وتعاونت "قسد" معهم على امتداد الصراع في سوريا.
أما في الجنوب، فيقول محللون إن التحركات في السويداء هي من علامات فشل التطبيع العربي مع نظام بشار الأسد الذي لم يتخذ أية خطوة في اتجاه وقف تهريب المخدرات وإبعاد القوات الإيرانية عن الحدود مع الأردن ضمن تفاهمات "الخطوة مقابل الخطوة" التي أسست لاستئناف العلاقات العربية مع دمشق وحضور بشار الأسد القمة العربية الأخيرة. وعليه، ستستمر هذه التحركات على أن تتسع لاحقا لتشمل مناطق درعا لتشكل منطقة عازلة بين الأردن وسوريا. ويوضح المحللون أن إغلاق بعض المنافذ الحدودية بين البلدين والتراجع الكبير في نشاط المناطق الحرة هناك، يعكس حقيقة أن الأسد لم يتخذ أي إجراء في مجالي المخدرات والوجود الامني – العسكري الايراني.
مهما يكن من أمر، تتعين ملاحظة أن الفاعلين الميدانيين في التحركات المذكورة، في معزل عمن يخطط ويدير المعركة من وراء الأبواب الموصدة ويرسم الخطط بعيدة ومتوسطة المدى، هي "المكونات" المحلية: "قسد" والعشائر في دير الزور ومنطقتها والطائفة الدرزية في الجنوب. "المكونات" هي "الطوائف" في لغة اخرى وجغرافيا متاخمة لسوريا.
هناك كلام تردد عن عزم الولايات المتحدة إغلاق الطريق البري الذي سمي "خط طهران– بيروت" والذي تستخدمه قوى "الممانعة" لإمداد عناصرها وقواتها على امتداد العراق ثم سوريا وصولا إلى لبنان
يعيد ذلك التأكيد على جانب رئيس من الصراع السوري الذي غالبا ما استنكر كتاب ومثقفون سوريون إدراجه ضمن تفسير أسباب إخفاق الثورة التي انطلقت عام 2011 وانقلابها حربا أهلية دموية أفضت إلى تحقيق النظام وحلفائه انتصارات استراتيجية وحطمت النزوع الثوري الذي برز بين عامي 2011 و2013، أي عنصر توزع المجتمع السوري على مكونات أهلية يطلب كل منها ما يراه حقا في التمثيل السياسي والحفاظ على هويته الثقافية والدينية والاجتماعية، بعدما انجلت سنوات حكم "البعث العربي الاشتراكي" عن حكم تحالف أقلية طائفية مع فئات اجتماعية متنفذة. غني عن البيان أن التحالف هذا بين عسكريي الطائفة العلوية وكبار برجوازيي الطائفة السنية المدينية، قاد البلاد إلى دمارها الحالي، من جهة، ورفع "الوعي" بالذات الجهوية والطائفية والعشائرية وحقوقها، من جهة مقابلة، على نحو بات فيه من المحال العودة إلى الوراء.
الرؤية المفضلة عند قسم وازن من المثقفين المعارضين تقوم على تصوير الصراع كتطلب للديمقراطية والعدالة والكرامة بين "الشعب السوري الواحد" وبين نظام عسكري غاشم. الرومانسية الطاغية في الرؤية هذه تتجاهل ما حدث من مجازر طائفية ومذهبية وجهوية ومن خطاب علني ومضمر عن تصنيف الخصوم طائفيا، وتنحو في اتجاه اعادة التأسيس لرومانسية ثورية لم تثبت الاحداث ولا الايام قدرتها على الصمود او على التحول الى واقع ملموس.
لا يتورع النظام عن الإفراط في استخدام العلويين كـ"لحم للمدافع" لإرجاء لحظة سقوطه
قوات سوريا الديمقراطية، وبغض النظر عمن تحالفت معه في السنوات السابقة ومن خاصمته، ستبقى تعبيرا عن القضية الكردية العميقة في التكوين السوري. الحراك الدرزي كذلك. العشائر والطبقات المحرومة من السنة يصح عليها الأمر ذاته. فيما لا يتورع النظام عن الإفراط في استخدام العلويين كـ"لحم للمدافع" لإرجاء لحظة سقوطه.
هل "الديمقراطية التوافقية" على الطريقتين اللبنانية والعراقية، هي الحل في سوريا. التجربتان الكارثيتان في بيروت وبغداد تحضان على أن تتجنب دمشق السير في هذا الطريق نظرا إلى قدرة بعض المكونات على الالتفاف على التفاهمات التأسيسية التي تنص عليها دساتير ما بعد الحروب، وأن تعتمد على موازين القوى المسلحة والاستقواء بالخارج للاستحواذ على السلطة الكاملة.
لا مفر من الاعتراف بأن المشهد الحالي في سوريا معقد أكثر من أن تحيط به نماذج سابقة ومستنفدة وأن حالة من الإنهاك والضيق تحاصر جميع القوى وربما تدفعها إلى طرق عمل مفاجئة.