سليم بركات يعيد هندسة قامشلي الستينات في "هؤلاء الصغيرات"

ترميم المكان بعد غياب نصف قرن

الشاعر والروائي السوري سليم بركات

سليم بركات يعيد هندسة قامشلي الستينات في "هؤلاء الصغيرات"

اختار الشاعر والروائي السوري سليم بركات "العزلة والانزواء" اختيارا ثابتا، فآثر الابتعاد عن الأضواء، والحوارات الصحافية وجدال الجوائز الأدبية، وصخب مواقع التواصل الاجتماعي ليتفرّغ للكتابة بخط يده، تحديدا، في سعي إلى مراكمة تجربة فريدة بلغتها وعوالمها ومناخاتها، منجزا نحو أربعين عملا يتوزع بإنصاف، تقريبا، بين شعر ونثر.

يكاد الناقد والقارئ معا، يجمعان على وعورة اللغة التي يكتب بها بركات، وعناده في نحت العبارات اللأمالوفة والمفردات الغافية بين سطور القواميس والمجلدات التراثية التي علاها الغبار، دون خشية من المجازفة والتجريب، فأصبحت اللغة هاجس الكاتب يقتحم أسوارها العالية لاقتناص أسرارها وجمالياتها وألوانها، وظلالها ومجازاتها وموسيقاها. وهو على أية حال، في عزلته تلك، لم يتأفّف يوما من العزوف النسبي للنقد عن تناول منجزه، ففي سؤال لكاتب هذه السطور عما إذا كان النقد قد أنصفه، أقرّ بركات: "لا أعرف تقديرا ’مُنصفا’ للموقف، إن ’اتَّهمتُ’ النقد أعفيتُ نفسي، وإن اتَّهمتُ نفسي أعفيتُ النقد. كلانا عنيد: هو يريدني أن أتقدم خطوات في اتجاه آلته مساوما، وأريده أن يتقدم أشبارا في اتجاه لغتي أمينا لأخلاق النقد. لم أُنصف ’النقد’ بإعطائه دفائن الظاهر من خزائن النص ’المُرفَّه’ بالقبول، ولم يُنصفني بقبول ترِكة المقامِر في مجابهاته". معلنا في ثقة: "سأعثر على النقد يوما؛ سيعثر عليَّ".

لا يمل بركات، المولود في القامشلي عام 1951، من العودة الى ذلك المكان المنسي الغائب عن الخرائط، على الرغم من انه لم يعش فيه سوى عقدين، إذ غادره مطلع سبعينات القرن الماضي إلى دمشق التي أقام فيها لفترة قصيرة من أجل دراسة اللغة العربية في جامعتها، قبل أن يتوجه إلى عاصمة أخرى قريبة، هي بيروت، التي ابتليت، بدءا من منتصف السبعينات، بحرب أهلية قاسية دوّن بركات بعض تفاصيلها وأهوالها في روايته "أرواح هندسية"، ثم مضى، مطلع الثمانينات إلى قبرص شريكا لشعب مقهور مثله، هو الشعب الفلسطيني، ليبحث معهم عن قصيدته ووطنه الضائعين، حيث عمل هناك سكرتيرا للتحرير في مجلة "الكرمل" التي كان يرأس تحريرها الراحل محمود درويش، ومن هناك، وفي نهايات القرن الماضي، حمل حقيبته، من جديد، ليستقر في السويد التي يقيم فيها حتى اللحظة.

وثّق بركات جماليات المكان الأول الذي نشأ فيه طفلا وفتى يافعا، في أكثر من عمل مثل "فقهاء الظلام"، و"الريش" و"معسكرات الأبد"، وحتى ثلاثيته "الفلكيون في ثلثاء الموت" (عبور البشروش، الكون، كبد ميلاؤس)، ناهيك بسيرة الطفولة (الجندب الحديدي)، وسيرة الصبا (هاته عاليا، هات النفير على آخره)... ليميل في أعمال لاحقة من قبيل "كهوف هايدراهوداهوس"، "ثادريميس"، "موتى مبتدئون"، "السلالم الرملية" وغيرها إلى تناول تواريخ وأساطير تبدو إغريقية أو اسكندينافية، غارقة في الغرائبية واللامألوف، وهو ما أحدث تباينا وانقساما حيال تقييم تجربته.

  لا يمل بركات، المولود في القامشلي عام 1951، من العودة الى ذلك المكان المنسي الغائب عن الخرائط، على الرغم من انه لم يعش فيه سوى عقدين


في روايته الجديدة "هؤلاء الصغيرات وأكياسهن الورقية"، الصادرة عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" (بيروت 2022) يعود بركات من جديد إلى تلك الجهات في الشمال السوري، مستعيدا هندسة قامشلي الستينات كما هي في خياله ليحكم عليها رتاج الكلمات ويحررها من "زحف العمران غير المتقَن" في الوقت الراهن، حسب ما يشير بركات في حوار سابق: "رأيت صورا للقامشلي، في سنيني هذه. رأيت انتهاكا من أبنية خرقاء، وأرصفة ميتة، في ذلك الغمر الساحر، الذي كان حقولا، وجداول، وبساتين"، وهو ما ألهمه الكثير من الأعمال التي كان وفيا فيها لروح المكان ولثقافة البيئة المحلية.

مسافات شاسعة من الغياب راحت تفصل بركات عن أرض طفولته الأولى في القامشلي وقريته موسيسانا التي لا تبعد سوى عشرين كيلومترا عنها، لكن كلما راهن الوقت على ترتيب صفقة للنسيان، أزهر الحنين نصوصا شعرية وفضاءات سردية أشبه بـ"واقعية سحرية" سنصغي خلالها إلى خفق أجنحة القطا، وأغاني الرعاة، وحفيف النبات، وسنعثر بين سطورها على ديكة تتعارك، وقنافذ مسلوخة، وطرائد دامية، وحرائق تعصف ببيادر القمح، و"موتى مبتدئين" ينهضون من رقاد ممل، وشخصيات يمتحنها القدر بلا رأفة، وأشباح تسير في الدروب مثل ما جاء في قصيدته "دينوكا بريفا.. تعالي إلى طعنة هادئة"، ومهارات صيد برع فيها الكاتب: "لم أترك شبرا من تخوم القامشلي ليس لي فيه لهفة الحذر المترقبة، كطعم السفرجل تحت اللسان، وأنا أسدّد البندقية، جاثيا، إلى فاختة، أو يمامة، أو دوريّ".

وها هو بركات يعود مجددا إلى فضاءات ذلك المسرح البعيد في روايته "هؤلاء الصغيرات وأكياسهن الورقية" مرمما نصف قرن من الغياب عبر عيون بطلاته الصغيرات زلفو وشقيقتيها هدلا وكميلا، وشريكتهن سبحان وشقيقتها فوزو، اللواتي تتراوح أعمارهن بين الرابعة عشرة والسادسة عشرة، "يتشاركن في جمع أكياس الإسمنت الفارغة. يقطِّعنَها. يفصِّلنها من جديد أكياسا صغيرة يبعْنَها للدكاكين. قواعدُ تلك الأكياسِ تُلصَق بعجين الخبز ممَّا يجعلها ثقيلة. أصحاب الدكاكين يتواطؤون معهن في شراء أكياسهن المغشوشة للتلاعب بأوزان البضائع في البيع للزبائن. خداعٌ طارئ ينهي الشراكة بين الفتيات، ليبدأ انتقامُ بعضهن من بعض بمنافسة في بيع الأكياس بخسة"، وفقا لاختزال الناشر في التعريف بالرواية.

سليم بركات في روايته الجديدة "هؤلاء الصغيرات وأكياسهنّ الورقية"

تلك هي الفكرة البسيطة التي تنهض عليها عوالم الرواية، والتي يصعب تطويرها إلى عمل من 368 صفحة، وهو عدد صفحات هذه الرواية، لكن سرد الفكرة سرعان ما يتناسل إلى سجل حافل ينبض بالحياة لمدينة القامشلي وطابعها الريفي في مطلع ستينات القرن الماضي، والمهن التي كانت سائدة فيها، والتعايش المجتمعي المتنوّع الذي توضحه أسماء أصحاب الدكاكين من أكراد وعرب وسريان وأرمن ويهود، وعمليات التهريب ومقايضة البضائع التي كانت تنشط على جانبي الحدود بين سوريا وتركيا، آنذاك، وتسليط الضوء على العادات والتقاليد وطبيعة الحياة العائلية البسيطة في بيئة قاسية وحنونة في آن واحد، أجبرت الصغيرات على اجتراح مهنة نادرة لإعانة عائلاتهن.

يوميات القامشلي وتاريخها

لا يكتفي بركات برسم لوحة فسيفساء غنية عن يوميات مدينة القامشلي وطابعها الاجتماعي والاقتصادي والعمراني، في تلك الحقبة، بل تقوده فكرة الرواية إلى الغوص في صفحات التاريخ كي يشرح لقارئه، بلغة الأديب لا المؤرخ، تاريخ صناعة الإسمنت، وكيف تمت الاستعانة بالأفران لصنع هذه المادة التي حولت بيوت القامشلي الطينية البائسة والهشة إلى رفاهة "الرمادي الصلب"، وفي حديثه عن الأفران والنار يشرح كيف اهتدى الانسان إلى اللحم الناضج بالمصادفة، إذ ترك قطع لحم نيئة قرب الجمر، ثم عاد ليكتشف طعما مستساغا للحم الناضح شيا قرب النار، ويشتمل النص كذلك على كيفية اختراع الانسان للأكياس، من أجل "حمل الفائض من الأطعمة أو لاستخدامها جعبة للسهام، وقربة الجلد لحفظ المياه ثم اهتدى من ملاحظته أعشاشَ  الطير إلى نسْجِ السلال، والقُفَف، من قصب الأَنْهر. ثم تدرَّج من اكتشافه القصبَ الأُملودَ، اللَّدنَ، المطواعَ لَيا لا ينكسر في تشكيل الأوعية، إلى ما يشاكله ويماثله من لحاء الشجر ينزعُه، ويَفِلُّه شرائطَ سهلةَ النسج على أية هيئة يريدها وعاء".

حتى المكواة التي كانت تستخدمها زلفو وشريكتها سبحان بهدف إلصاق العجين بقاعدة الأكياس تجد لها حيزا في الرواية، إذ يقول بركات: صُنعتِ المكواةُ توسُّلا إلى دوام المظهرِ في القماش مستويا بلا معْسٍ. صُنعت ليتأنق القماشُ  إن أُهين ارتداء متَّصلا، أو قُسِرَ على دَعْكٍ، أو حُبسَ مكوَّما فوضى بلا ترتيب في طيِّه. لكنَّ المكواة النحاسَ، الصغيرة، في بيت أهل زلفو، هي لمهمةٍ أخرى".

لكن هذا السرد التاريخي عن الأكياس والمكواة والأسمنت، لا ينأى بالرواية عن خطها الرئيس الذي يتناول بساطة الحياة في قامشلي الستينات والتي نتعرف الى ملامحها عبر ثرثرات الفتيات الصغيرات اللواتي يتجولن في أحياء القامشلي وحواريها بحثا عن أبنية تشيد حديثا كي يحصلن على ضالتهن من أكياس الإسمنت الفارغة، وتحويلها إلى أكياس صغيرة لبيعها لأصحاب الدكاكين في تجارة غريبة ونادرة لجأن إليها بنداء الحاجة والفقر.

على الرغم من لغة الرواية الصعبة نسبيا، شأن كل روايات بركات، فإنها، بدءا من العنوان وصولا الى المتن، قد تكون من أكثر أعمال بركات سهولة ووضوحا في التعبير عن الفكرة الرئيسة، دون إيغال في الغموض


في تجوال الصغيرات سنصغي إلى مضامين حوارات بريئة تشمل كل شيء في عالمهن الصغير تبدأ من الدجاجات والدراجات والنهر والمدرسة ولا تنتهي بالحديث عن "البراق" والجنة وعقاب المذنب. تصورات ومعتقدات برئية ينقلها بركات على لسانهن في محاولة لتوضيح ما يدور في أعماقهن من رغبات وأماني بسيطة وما يعتمل في نفوسهن وهن يحلمن بفتى الأحلام الذي ينتشلهن من عيشتهن البائسة، من دون أن يتأففن، فذلك هو قدرهن في تلك الأنحاء "المنذورة للطيش والهباء". حوارات مسترسلة تثقل أعمارهن الفتية وتحمل قدرا كبيرا من الأحجيات والالغاز والافتراضات التي يصوغها قلم بركات ويضعها على لسانهن، من دون أن يتناسب مع مستوى وعيهن.

وعلى الرغم من لغة الرواية الصعبة نسبيا، شأن كل روايات بركات، فإنها، بدءا من العنوان وصولا الى المتن، قد تكون من أكثر أعمال بركات سهولة ووضوحا في التعبير عن الفكرة الرئيسة، دون إيغال في الغموض، إذ يسعى بركات مع "هؤلاء الصغيرات وأكياسهن الورقية" إلى بناء معماره الروائي وفق منطق درامي مقنع، متخففا من أي بعد ميثولوجي أو غرائبي، لطالما وسم أعمال بركات، وهذه الرواية، بالتالي، هي من الروايات القليلة التي يمكن تحويلها إلى فيلم سينمائي، ففضلا عن سلاسة السرد، قياسا لأعمال سابقة، وقدرة بركات على استحضار تلك الحقبة مستعينا بذاكرة متدفقة، فإن النص ينطوي كذلك على بعض الوقائع التشويقية، كحادث إطلاق النار الذي تعرض له إدريس المهرب، جار يونس، والأمانة التي تركها عند هذا الاخير التي تبين أنها ليرات ذهبية أعانت يونس، والد زلفو، على تجديد بيته الطيني ببناء اسمنتي حديث، كان عنوانا للتباهي في تلك السنوات البعيدة.

font change

مقالات ذات صلة