باز لورمان متقشّف متمهّل في سبيل الروائع

بعد ترؤسه لجنة تحكيم "البحر الأحمر السينمائي"

AFP
AFP
باز لورمان

باز لورمان متقشّف متمهّل في سبيل الروائع

ليس سهلا في عالم السينما، أن يحقق فيلم من النجاح لدى النقاد ما يضاهي نجاحه لدى المتفرجين، ثم ينعطف على هذا كلهاحتفاء بترشيحات وجوائز مهرجانية وبشكل متكرر. إنها المعادلة الموجودة بشكل جلي في مسيرة الكاتب والمخرج الأوسترالي باز لورمان، الذي اختير أخيرا رئيسا للجنة تحكيم مهرجان البحر الأحمر في دورته الثالثة.

لم يكن اختيار باز لورمان من قبيل المصادفة، على الرغم من قلة أعماله التي لا تتجاوز 5 أفلام روائية طويلة، فعندما يطرح اسم لورمان في صناعة السينما يتداعى إلى الذهن كل ما هو باهظ ومُبهر ومُذهل بصريا، وهو الذي عُرف باهتمامه الدقيق بالتفاصيل ولوحات الألوان النابضة بالحياة والاستخدام المبتكر للتصوير السينمائي وتصميم الإنتاج.

صرّح باز لورمان إثر تعيينه رئيسا للجنة تحكيم مهرجان البحر الأحمر السينمائي: "لقد ألهمتني إبداعات المواهب السعوديّة الشابّة في صناعة الأفلام حينما زرت المملكة العربية السعودية سابقا، وإنه لشرف عظيم أن أكون رئيس لجنة التحكيم في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي لهذا العام، وأن أشهد بنفسي الحراك الفنّي الملهم الذي تشهده السينما في العالم العربي وآسيا وأفريقيا، وأتطلّع للاحتفاء بالمواهب الصاعدة والمخرجين المبدعين ضمن هذه المنطقة التي تتّسم بالتنوع الثقافي والفني الذي يليق بهذا المهرجان الرائع في جدة".

لقد ألهمتني إبداعات المواهب السعوديّة الشابّة في صناعة الأفلام حينما زرت المملكة العربية السعودية سابقا، وإنه لشرف عظيم أن أكون رئيس لجنة التحكيم في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي لهذا العام، وأن أشهد بنفسي الحراك الفنّي الملهم الذي تشهده السينما في العالم العربي وآسيا وأفريقيا

باز لورمان

تعتبر رحلة باز لورمان في عالم الإخراج مثيرة للاهتمام، ويعود ذلك إلى نشأته حيث ولد في 17 سبتمبر/أيلول 1962 في نيو ساوث ويلز بأستراليا، لعائلة تعمل في مجال الزراعة وكان والداه يمتلكان محطة وقود ويديرانها. أظهر لورمان في مرحلة الطفولة اهتماما مبكرا بالفنون والإبداع، حيث انجذب بشكل خاص إلى المسرح والموسيقى والرقص ثم بدأ شغفه بسرد القصص والأداء. في البداية استهواه التمثيل، لكنه أخذ مسارا مختلفا عندما التحق بمعهد الفنون المسرحية (NIDA) في سيدني، حيث اكتشف أن شغفه وراء الكاميرا وليس أمامها. خلال دراسته في المعهد اكتشف مواهبه كمخرج، وصقلها في الإنتاج المسرحي.

AFP
كاثرين مارتن وأوستن بتلر وباز لورمان يحضرون حفل توزيع جوائز اختيار النقاد السنوي لوس أنجليس، كاليفورنيا.

أثّرت نشأته الريفية على تشكيل إبداعه وأسلوبه الفريد في سرد ​​القصص، فقد استوحى كل ما كان يحيط به، وهذا ما صنع تفرّده وثبّت بصمته البصرية ذات الحس الجمالي الذي جمع بين عناصر المشهد وحركته المسرحية وعظمة إخراجها.

في تلك الفترة أسس شركة الدراما "مسرح الصورة" عام 1981، التي نالت شهرة واسعة بفضل إنتاجاتها المبتكرة التي مزجت بين المسرح والرقص والفنون البصرية، فقد سمحت هذه التجربة له باكتشاف إبداعه ورؤيته الفريدة التي مزجت موهبته الفذّة في الكتابة.

 

فجوة زمنية

في عام 1992، قدم لورمان أول فيلم روائي طويل له بعنوان Strictly Ballroom، حقق نجاحا نقديا وتجاريا، داخل أوستراليا وخارجها، فقد قدّم الفيلم أسلوب لورمان المميز ونهجه السردي، ونال الثناء على مزجه الفريد من الفكاهة والرومانسية والحيوية، وبعد الاحتفاء بنجاح الفيلم الأشبه بالعاصفة أتى هدوء مطول، كان نتيجة المسافات الزمنية في منجزات لورمان فهي ليست بقريبة بل هي في تعبير أدق فجوة زمنية.

فعندما نقيس المسافة بين الفيلمين الأول والثاني "روميو وجولييت" (1996) نلحظ أن الأمر استغرق منه أربع سنوات لإنجاز إعادة تصوّر حول مأساة شكسبير الكلاسيكية. أعاد لورمان في هذا الفيلم صياغة قصة روميو وجولييت بصورة معاصرة لافتة من خلال تناقض جريء في الألوان، حيث ترتبط عائلتان في القصة إحداهما بألوان زرقاء باردة، في حين تمثّل العائلة الأخرى بألوان دافئة من الأحمر والذهبي. يعلم لورمان أنه يطرح للناس قصة كلاسيكية معروفة مسبقا، مع ذلك يتكئ على عنصر الأزياء في تباين الألوان التقليدي ليؤكد الصراع والتوتر بين العائلتين المتناحرتين.

بعد مرور خمس سنوات لاحقة يبث باز لورمان مخزون دراسته المسرحية عبر فيلم موسيقي باهر تدور أحداثه أيضا في إطارات الحقبة الكلاسيكية: "مولان روج" (2001) وهو وليمة بصرية ذات لوحة ألوان غنية وطاغية، استخدم فيها المخرج درجات اللون الأحمر النابضة بالحياة لترمز إلى العاطفة والرغبة والطاقة الآسرة في ملهى "مولان روج" الليلي بأجواء حسية مكثفة.

AFP
باز لورمان

ثم يزيد حجم الفجوة ثماني سنوات ليظهر لنا فيلم "أوستراليا" (2008) وهو دراما تاريخية ملحمية تدور أحداثها في المناطق النائية الأوسترالية خلال الحرب العالمية الثانية. لكنّ لورمان عزّز بعد ذلك سمعته كمخرج مبتكر في مشروعه "غاتسبي العظيم" (2013) المستوحى من رواية ف. سكوت فيتزجيرالد التي تدور أحداثها في عشرينات القرن الماضي الصاخبة، ويتميز الفيلم على مستوى الصورة بحفلات فخمةتهيمن على الصورة المشهدية الألوان البراقة مثل الذهبي والفضي والأخضر، وهو المزيج اللوني الذي يرمز إلى الثروة والترف وجاذبية عصر الجاز.

 

ألفيس

أخيرا بعد 11 عاما قدّم لورمان فيلم السيرة الذاتية "ألفيس" (2022) الذي يتناول سيرة حياة مغني "الروك أند رول" ألفيس بريسلي ويقدمها من زاوية معقدة من خلال قضايا اجتماعية مثل الهويات المتعددة والهجرة والاندماج ويأتي كل هذا بالتوازي مع مهاراته في التصوير الفني والتوجيه الحساس لأداء الممثلين.

 قدّم لورمان فيلم السيرة الذاتية "ألفيس" (2022) الذي يتناول سيرة حياة ألفيس بريسلي مغني "الروك أند رول" ويقدمها من زاوية معقدة من خلال قضايا اجتماعية مثل الهويات المتعددة والهجرة والاندماج ويأتي كل هذا بالتوازي مع مهاراته في التصوير الفني والتوجيه الحساس لأداء الممثلين


بعد عرض لائحة الأعمال القليلة من حيث الكم والمكثفة بعناصرها الغنية يصبح التبرير لفجوات أفلام باز لورمان تحصيلا حاصلا. ففي نهاية المطاف، هذا الوقت المستقطع والفترات الفاصلة بين أفلامه لم تكن استراحة بل هي تجريب مستمر على المشاريع المقبلة، حتى تأتي الفرصة لتحقيق رؤيته الفنية وتنفيذها بشكل كامل مع ضمان أعلى مستويات الجودة في عمله كي تصبح آسرة بصريا، فلا مكان في مسيرة لورمان لفيلم درامي عائلي معاصر أو فيلم كوميديا رومانسية. نحن نتحدث عن ملاحم لن تنفذ لولا المشاريع الطموحة وتطوير النص باستمرار ثم تخطيط واسع النطاق لما قبل التنفيذ والإصرار على الخدمات الإنتاجية العالية المستوى بما يتناسب مع أساليبه البصرية المكلفة باستخدام تقنيات مبتكرة تجعل من أفلامه تحفا فنية لا تنسى.

 

حصاد

حصلت أفلام لورمان على العديد من الجوائز والترشيحات، بما في ذلك جوائز الأوسكار، غولدن غلوب، والبافتا، وليس من الصعب أبدا العثور على أسباب عدّة تبرر فوزه، فالعامل المشترك بين أفلام لورمان وطريق الجوائز هو الماضي، الماضي كتناول سينمائي يعتبر حقبة مهمة في تاريخ ترشيحات المهرجانات. لكن ما الذي يجعل باز لورمان متمسكا بتلك الحقبة؟

إن عدسة لورمان ليست جافة بل فياضة، يكتشف من خلالها أمكنة مثيرة للذكريات، ويستخدمها في السياق الثقافي والتاريخي  حيث يتيح له هذا النهج إنشاء حوار بين الماضي والحاضر وتقديم وجهة نظر مختلفة وربما تكون إسقاطا لواقع حديث. من جانب آخر يمنحه التاريخ القديم السردية الفريدة المختلفة عن الواقع المعاصر،والسردية هنا مشحونة بالدراما والرومانسية والصراعات المغلفة بجاذبية جمالية. ولا نستبعد فكرة الحنين من خلال استحضار إحساس بالماضي الذي لم يدركه لكنه يحنّ إليه.

في نهاية المطاف، فإن اختيار لورمان لوضع أفلامه في إطار الماضي يسمح له باكتشاف رؤيته الفنية، وإنشاء عوالم فخمة بصريا، والتعمق في موضوعات وعواطف وسرديات يتردد صداها مع الجماهير على المدى الطويل.

تكمن بصمة باز لورمان من خلال الطاقة العالية والإيقاع السريع، والعواطف المفرطة كما يخلق إحساسا بالجموح والديناميكية، وغالبا ما يستخدم عمليات القطع الخاطف والتحرير السريع وحركات الكاميرا النشطة لإبقاء الجمهور يقظا.

ينطوي تمهّل لورمان الشديد في الإنجاز على حساسية إبداعية فريدة سمحت له بصنع مكانة لنفسه في عالم الأفلام وقد أثبت من خلالها أن الوفرة ليست شرطا لخلود الذاكرة.

font change

مقالات ذات صلة