"الطوفان"... في الاتجاهات كلها

"الطوفان"... في الاتجاهات كلها

الطوفان، الكلمة التي استخدمتها "حماس" لتسمية هجومها الأخير، قد تكون الأكثر توفيقا في كل ما نشهد منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول. إنه طوفان من الكوارث المتضافرة والمتداخلة التي يجر بعضها بعضا لتستعاد أسوأ اللحظات في تاريخ هذه المنطقة.

طوفانات عدة في لحظة واحدة. دماء وأشلاء وبيوت مدمرة ومحروقة وأعمار مقصوفة وآمال وأحلام محطمة، ليس لأفراد وعائلات رماها قدرها في طريق صراع مستعر منذ مئة سنة فحسب، بل لمحاولات بناء سلام لا زال يفر كالسراب كلما تقدم السائر إليه.

وهو طوفان من العواطف التي عادت لتحتل الصدور والنفوس، بعدما ساد اعتقاد أنها وئدت وأن الأمر الواقع وحقائقه قد تغلبت عليها وأن ضحايا النكبة والمحرقة والنكسة والاجتياح والهزيمة والفشل والمجزرة وذل مخيمات الاعتقال كما مخيمات اللجوء، قد انصرفوا إلى عيش حيواتهم. لكن "الميت يمسك بتلابيب الحي" على ما يقال. ويأبى التاريخ إلا أن يذكّر بفواتير غير مدفوعة عن حقائق أقوى وواقع أشرس.

إنه طوفان الذاكرة التي استيقظت فجأة من شبه سبات لتسأل عن سبب بقاء ملايين الفلسطينيين من دون وطن وجواز سفر، وعن مصير لاجئين ومطرودين اعتقدنا يوما أن منافيهم، القسرية والاختيارية ستقوى على مرارة لا زالت في الحلق والصدر. ولتقول الذاكرة هذه إن قصص المخيم لم تسلم الروح بعد وإن من يشيح نظره عن الماضي، ستصطدمه صور الجثث الكثيرة، متعددة الهويات والأديان وأماكن الدفن، وسترغمه على النظر إلى الشاشات وأشرطة الأخبار العاجزة ليكتشف أن عجزه أو لامبالاته قد عادا إليه على شكل طفل ميت وطبيب يبكي في مستشفى غطت الدماء أرضه.

المذنب؟ المسؤول؟ تبدو الكلمتان كأنهما جاءتا من خارج هذا العالم. من خارج أرض دفع ثمنها مرات ومرات حتى بات السؤال واجبا عما إذا كانت تستحق كل هذه التضحيات. هل حقا لا يستطيع الفلسطينيون والإسرائيليون أن يعيشوا جنبا إلى جنب إلا بفرض جانب منهم سيطرته على الآخر وإخضاعه وتهديده المستمر بالموت لأن هذا الجانب تعرض إلى إبادة جماعية ولا يطيق تكرارها؟

هل حقا لا يستطيع الفلسطينيون والإسرائيليون أن يعيشوا جنبا إلى جنب إلا بفرض جانب منهم سيطرته على الآخر وإخضاعه وتهديده المستمر بالموت لأن هذا الجانب تعرض إلى إبادة جماعية ولا يطيق تكرارها؟ 

وغريب فعلا ذلك الإصرار الذي يبديه معلقون وأكاديميون غربيون على رفض "النسبية" فيما جرى في غزة ومحيطها في ذلك الصباح المشؤوم. غريب جدا أن لا يقبل من يفترض نفسه وريثا للتنوير والعقلانية أن يرى السياق الذي أفضى إلى تلك المقتلة الرهيبة. وأن يفضل اعتبار الحدث رعدا في سماء صافية، لا سابق له ولا لاحق، حتى لو أدى هذا الموقف إلى تجريد الفلسطينيين والعرب من آدميتهم وقبول الخطاب الإسرائيلي عن "حيوانية وبهيمية" سكان غزة. 
وغريب بالقدر ذاته، الامتناع عن مساءلة "حماس" ومن ساعدها وحرضها على فعلتها تلك، عن الهدف مما جرى وعن تصورها لليوم التالي لـ"طوفان"ـها وعن الاستعدادات التي أخذتها للتقليل من وقع الكارثة الإنسانية التي تسببت فيها على سكان غزة، والأثمان الباهظة التي يدفعونها مع مواطنيهم في الضفة الغربية. ناهيك عن تصور "محور المقاومة" عما يعنيه شعار "وحدة الساحات" في حال اشتعلت جبهات لبنان أو سوريا أو غيرهما من البلدان التي تكابد من كوارث لا بداية ولا نهاية لها. من أعطاهم التفويض بالتصرف كحكام مطلقين في أيديهم الحق بشن الحرب أو إبرام السلام؟ "من أين جاءوا"، على ما تساءل الكاتب السوداني الطيب صالح عندما اشتكى من عسف عسكر بلاده وبلاهتهم.

غريبة الأوهام عن استخلاص الانتصارات من طوفان الدم الحالي ورسم خرائط لشرق أوسط جديد "جدا" بما أن الشرق الأوسط الجديد تمخض عن واحد أكثر كارثية من ذلك القديم

ثَمة عبارة في التاريخ اليوناني هي "النصر البيروسي"، أو "البيري"، التي يحقق فيها طرف فوزا عسكريا باهظ الثمن ينقلب هزيمة في نهاية المطاف. والحال أن كل الأطراف المشاركة في هذه المأساة تسير نحو نصر بيروسي مؤزر. 

font change