عن النفاق والعجز والايام السوداء المقبلة

عن النفاق والعجز والايام السوداء المقبلة

لا تكفي مشاهد الكارثة الانسانية في غزة للتخلي عن مهمة التفكير في الطريق الذي افضى بنا الى الوقوف عاجزين امام صور الاطفال الجرحى والصفوف الطويلة من الاكفان البيضاء والمقابر الجماعية للفلسطينيين. فما يجري اليوم في غزة جرى مثله في العراق وسوريا ولبنان ومرشح للتكرار في الاماكن هذه وغيرها.

وليس من المفيد الانخراط في لعبة تبادل الاتهامات بالمسؤولية والتقصير والتخاذل. المصيبة وقعت والارجح ان اياما أسوأ آتية سريعا. ولشخص في الخمسينات من عمره الحق في القول انه رأى وسمع النحيب ذاته وعويل الامهات والكلام عن "تواطؤ الانظمة" والوحشية الاسرائيلية والانقسامات العربية ورعونة التنظميات الفلسطينية المسلحة والتآمر الغربي مرات لا تحصى. لكن المشهد يتكرر ويزداد فظاعة سنة بعد سنة.

وعلى حافة الهاوية التي يقف عندها مليونان ونصف المليون من البشر المعذبين في السجن الذي يسمى قطاع غزة، يبدو النظر الى الوراء، الى عقود مهدورة وفرص ضائعة، ضربا من تبخيس مأساة الفلسطينيين. بيد ان الامر يستحق بعض الكلمات وسط الانين المتصاعد.

اولها ان سجل مواجهة العرب للمشروع الصهيوني منذ بدايته اواخر القرن التاسع عشر، ليس باهرا – اذا اكتفينا بالعبارات المهذبة- بل يصعب الحديث، اصلا، عن مواجهة عربية موحدة في ظل التباين الهائل في فهم القضية الفلسطينية ورسم موقعها في منظومة المصالح والقضايا العربية.

 سجل مواجهة العرب للمشروع الصهيوني منذ بدايته اواخر القرن التاسع عشر، ليس باهرا. بل يصعب الحديث عن مواجهة عربية موحدة في ظل التباين الهائل في فهم القضية الفلسطينية ورسم موقعها في منظومة المصالح والقضايا العربية

وبات الموقف العربي الموحد المتخيل، عبئا اليوم على اصحابه بدل ان يكون عنصر قوة لهم. في كل يوم تظهر مقالات وبرامج تلفزيونية يسأل المتحدثون فيها: "لكن لماذا لا يذهب سكان غزة والضفة الغربية الى الدول العربية شاسعة المساحة ويتركوا هذه الارض لاسرائيل الصغيرة؟" سيستغرق شرح التاريخ العربي المعاصر وقتا اطول بكثير من وقت طرح السؤال. هل يقتنع اصحاب الاقتراح هذا الذي يظهر ثم يختفي كل بضع سنوات اننا شعوب مختلفة العادات والتقاليد والتواريخ والمصالح والاتجاهات والاديان وان ما يفرقنا يشبه ما يفرق اكثرية دول العالم عن بعضها؟ 
الاهم في السؤال الذي يتبنى طرحه كتاب ومثقفون غربيون هذه الايام، هو تجاهله لحق الفلسطينيين في ان يقيموا دولتهم على ارضهم وتحقيق هويتهم الثقافية والسياسية المميزة عن باقي شعوب المنطقة. 
لا يصدر السؤال عن جهل بهذه البداهات، بل اعتمادا على امر مخيف يتصاعد حضوره العالمي هو التراجع عن اعتبار الحياة البشرية متساوية القيمة لدى كل بني الانسان. في الدعوات الى قصف المستشفيات والسكوت الدولي عنه، وفي تقديم قتل الارهابيين على انقاذ المدنيين، وفي اعتبار استمرار القتال في واحدة من المناطق الاكثر اكتظاظا بالسكان في العالم امرا مقبولا ما دام سيوفر الامن للاسرائيليين، الكثير من الخروج عن القيم الكونية وارتكاس الى معايير القوة المجردة وتمييز بين بشر وبشر أخرين. 
صعود حركات اليمين المتطرف والشعبوي في العالم عموما وتعميم ثقافة العنف وكل ما دار الحديث عنه في الاعوام القليلة الماضية، نرى ثماره اليوم في استسهال قتل الفلسطينيين بذريعة انهم اسلموا قيادهم الى تنظيم ارهابي. ومن المهازل ان تحتل قوى ذات تاريخ طويل من العداء للسامية الصفوف الاولى في تأييد الهجوم الدموي الاسرائيلي وعن "حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها".
لقد كانت رحلة قصيرة تلك التي نقلت اليمين الاوروبي والاميركي من العداء للسامية الى العداء للعرب والمسلمين وممثلهم الفلسطيني الحالي. رحلة يسودها الخبث واللؤم واحتقار الآخر واعلاء الغرائز والانانيات على نحو لم يعرفه العالم منذ عصور الاستعباد القسري والاستعمار المباشر. 

من المهازل ان تحتل قوى ذات تاريخ طويل من العداء للسامية الصفوف الاولى في تأييد الهجوم الدموي الاسرائيلي وعن "حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها". 


ومن اسف ان كل حل سيُطرح او سيُفرض على شعوبنا العربية، سيقابل بذات آليات التفكير والنقاش التي يقابل بها العرب كل حدث جديد بكثير من الرطانة وقليل من الفعل والاثمان الباهظة التي تقدم على شكل اشلاء اطفال ومستشفيات مستباحة وتحكم خارجي بالمصير. فيما غيوم الافق تسود ويتصاعد قصف الرعد في السماء. 

font change