تحوّلت السردية الإسرائيلية إلى اختلاق محض، ومن يتبناها يقبل بالدفاع عنها عن سابق تصميم وإرادة مع العلم بمستوى تهافتها وهشاشتها. يبرز جليا الفرز الحاد الذي أحدثته في المشهد الأميركي بكنايته عن العالمي والكوني، من انقسام حاد بين الذين قدموا من الهامش والذين يحملون تاريخ القمع والعبودية وإهدار الحقوق، كمكوّن ثقافي أصلي وحاسم في نشأتهم، وبين هؤلاء الذين يمثلون مفهوم الطارئ والاستهلاكي.
مغنّو الراب يأتون من خلفية الاحتجاج والرفض. فنوع الموسيقى الذي يقدمونه تطور من موسيقى البلوز الحزينة التي كانت توثق القهر والألم والعذاب الذي كانت تعاني منه مجتمعات السود والأقليات، ولذا فإن كل من يدخل في هذا المجال الموسيقي لا يدخله فارغا بل مشحونا بكل ذلك الثقل المعنوي والتاريخي الذي يعتبر ما يجري في فلسطين حاليا نوعا من البث المباشر والمكثف والمصعّد لكل محمولاته في بعدها الأقصى. يتعاطف مغنّو الراب مع أنفسهم حين يتعاطفون مع فلسطين، وهم يدعون العالم إلى تبنّي موقفهم بوصفه دفاعا عن تماسك العالم الحديث الذي بُني على تجاوز كل موبقات ذلك التاريخ المظلم.
خلال الحفل الموسيقي لمغني الراب الأميركي ماركوس موتون
مجندون ومثقفون
مع بداية الحرب عمدت الممثلة الإسرائيلية جال غادو التي اشتهرت بأدوار المرأة الخارقة، إلى الدعوة لمشاهدة فيديو مدته 47 دقيقة، هو عبارات عن لقطات جمعها الجيش الإسرائيلي لما يدّعي أنها مجازر ارتكبت في حق المدنيين الإسرائيليين يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. عرض الفيديو في "متحف التسامح" في لوس أنجليس التابع لمركز "سيمون فيزنثال" الذي يعنى بنشر التوعية حول المحرقة في حضور ضباط من الجيش الإسرائيلي ووسط غياب لافت لصاحبة الدعوة.
اللافت في هذا السياق أن الممثلة الإسرائيلية لم تصنع منتجا ثقافيا خاصا بها للرواية الإسرائيلية، بل تبنت ما يصدر عن الجيش، وبذلك انتفت المسافة بين العسكر والمثقف، وصار المثقف مجندا بكل ما للكلمة من معنى، وقد أيّدت المشاهد الواردة من غزة هذا التوجه حيث سقط جنود إسرائيليون اتضح لاحقا أنهم ممثلون و"مثقفون".
في ظل سيطرة العسكرة على مشهد صناعة الثقافة الإسرائيلية وآليات تعميمها، فإن كل ما يصدر عنها يبدو ملحقا بآليات إنتاج المعلومات والأخبار والوثائق والمواد البصرية والدعائية التي يحدّدها الجيش، التي تتسم بأنها في طبيعتها تنطلق من التمويه والإخفاء وتنتمي في بعدها الرمزي إلى الأقبية والأماكن المغلقة والسرية.
لقد نجحت إسرائيل في فرض هذا النوع من التعامل ليس على المثقفين الإسرائيليين ولكن على كل من يؤيّدها في العالم، إذ يلاحظ غياب ما يمكن أن يطلق عليه المنتج الثقافي المؤيد لإسرائيل، الذي ينطلق من عناوين تخرج على المحدّدات العامة التي يقرّها الجيش الإسرائيلي، بل يكتفي كل من يريد التعبير عن وقوفه إلى جانبها بتكرار ما تنتجه وتقوله الآلة الدعائية العسكرية، وبذلك حولت إسرائيل المثقفين الموالين إلى مجندين بائسين يكتفون باستبطان فحوى دعايتها وتكرارها.
يضاف الى ذلك العمل على إخراج الصوت الثقافي الفلسطيني من المجال العام، وأحدث الأمثلة على هذا النزوع إقدام شبكة ARD التلفزيونية الألمانية على منع عرض فيلم المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر، "واجب"، الذي كان مبرمجا عرضه منذ أشهر، والسبب المعلن يعود إلى أنه يدافع عن بنى سردية فلسطينية لا تتناسب مع حرب غزة، لكن الشبكة أبقت عرض فيلم winter journey للمخرج أندرس أوسترغارد وكاتبة السيناريو إيرزسبيت راتس، الذي يصور الرؤية الإسرائيلية مع أنه كان من المقرر عرض الفيلمين في إطار عرض وجهات النظر المختلفة.
طردُ الرواية الفلسطينية يُخرج المسألة من الثقافة أساسا، ويجعلها فعلا حربيا صافيا لأن التعريف البدائي والأولي للثقافة يقدّمها كخطاب يتوجه إلى الآخر ويساجله، تاليا فإن الواحدية التي اختارت تلك المؤسسة الثقافية الألمانية وغيرها من المؤسسات الغرق فيها، تهدّد باستحالة الانتماء الى المجال الثقافي بالتناقض مع أصله وطبيعته.
لعلّ سحب الثقافة من المجال العام والإصرار على تحويل معالم نفي التعبير الثقافي إلى ثقافة جديدة انبثقت من لحظة الحرب وتعمل على مواكبتها وملاحقتها بالشكل المناسب، هو الإطار التي ترسم فيه إسرائيل حدود التعبير الممكنة والمتاحة، لكنها لا تقدم هذه الرؤية بوصفها سياقا مطروحا من ضمن سياقات عديدة بل تطرحه على أنه الوحيد الذي يسمح تبنيه لأي فاعل ومؤثر البقاء على قيد الحياة الثقافية والاستمرار في عمله.