"الغرب المتصدع" في بيانين لمثقفين حول غزّة

عودة إلى "النقد المزدوج" عند عبد الكبير الخطيبي

AFP
AFP
فلسطينيون يتفقدون الأضرار التي لحقت بمنازلهم عند عودتهم إلى منطقة خزاعة على المشارف الشرقية لمدينة خانيونس جنوب قطاع غزة.

"الغرب المتصدع" في بيانين لمثقفين حول غزّة

نقل الدكتور حمزة المزيني الأسبوع الماضي البيان الذي كانت صحيفة "غارديان" البريطانية قد نشرته يوم 22/11/2023 بتوقيع كل من آدم توز، وصموئيل موين، وآميا سرينيفاسان وآخرين، ردّا على البيان الذي كان وقعه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس إلى جانب نيكول ديتلهوف، وراينر فورست، والذي كان قد اتسم بالانحياز إلى إسرائيل وتجاهل الفلسطينيين. عبّر الموقعون في صحيفة "غارديان" عن شعورهم "بقلق بالغ إزاء بيان "مبادئ التضامن"المنشور على الموقع الإلكتروني لمركز بحوث الترتيبات المعيارية بجامعة غوته في فرانكفورت في 13نوفمبر/ تشرين الثاني 2023". ومع أنهم أكدوا تقديرهم "للأسس التي يقوم عليها البيان فيما يخص احترام الكرامة الإنسانية للناس جميعا بصفتها جزءا أساسيّا من "الروح الديمقراطية لجمهورية ألمانيا الاتحادية"، إلا أنهم أعربوا عن شعورهم "بقلق بالغ إزاء الحدود الواضحة للتضامن الذي عبر عنه موقعو البيان الألمان"، مبينين "أن اهتمام البيان بالكرامة الإنسانية لا يمتد بشكل كافٍ إلى المدنيين الفلسطينيين في غزة الذين يواجهون الموت والدمار. ولا يُطبَّق أو يُوسَّع ليشمل المسلمين في ألمانيا الذين يعانون من تزايد الكراهية للإسلام. ويعني التضامن أن مبدأ الكرامة الإنسانية يجب أن يطبَّق على الناس جميعا. ويتطلب هذا أن نعترف بمعاناة المتضرّرين من النزاع المسلح جميعا ونعالجها".

أين القانون الدولي؟

وأخيرا، عبر الموقعون عن شعورهم بالقلق لعدم تضمن البيان الألماني "أيَّ ذِكر لدعم القانون الدولي، الذي يَحظر أيضا جرائمَ الحرب والجرائم ضد الإنسانية كالعقاب الجماعي، والاضطهاد، وتدمير البنية التحتية المدنية بما في ذلك المدارس والمستشفيات ودور العبادة، وذكروا بأنّ الاسترشاد بمبادئ المعايير القانونية الدولية والتضامن والكرامة الإنسانية "يفرض علينا إلزام جميع المشاركين في النّزاع بهذا المعيار الأعلى،ولا يمكن أن نسمح للفظائع أن تجبرنا على التخلي عن هذه المبادئ".

عبر الموقعون عن شعورهم بالقلق لعدم تضمّن البيان الألماني "أيَّ ذِكر لدعم القانون الدولي، الذي يَحظر أيضا جرائمَ الحرب والجرائم ضد الإنسانية"

لا يهمّنا بيان "غارديان" هنا كثيرا لكونه فضح تحيّز البيان الألماني، فقد تكفل كثير من الكتاب العرب بذلك. ما يعنينا أساسا هو كون هذا البيان ردا "غربيا" على بيان "غربي"، وكونه علامة، على أن ما اعتدنا أن ندعوه "غربا" فنوحّده في كيان متراصّ لا تنخره اختلافات، ولا يطاله تصدع هو وحدة متعدّدة وكيان منخور.

وقد كان المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي قد تعرض إلى هذه القضية في إطار ما كان يدعوه "نقدا مزدوجا"، وذلك منذ ثمانينات القرن الماضي، وخصوصا في كتابه "المغرب المتعدد" حيث كتب: "إذا كان الغرب حالا فينا، لا كمجرد شيء خارج عنا مطلق الخروج، وكاختلاف ينبغي أن نقيسه باختلاف آخر، يلزم هو كذلك، أن ندركه في علاقته ومدى بعده عن الأطراف الأخرى للوجود، إذا لم يعد الغرب مجرد ذلك الوهم المتولد عن فزعنا، فيتبقى علينا أن نعيد النظر في كل شيء مهما كلفنا ذلك".

الفيلسوف الألماني راينر فورست

الخطيبي والنقد المزدوج

تفكيكا لهذا "الوهم المتولد عن فزعنا"، كان الخطيبي قد دعا إلى نقد مزدوج يقوض أسس السيادة، ويعيد النظر في أصوله وأسسه. لا تعني الازدواجية أن ذلك النقد ينصب على الميتافيزيقا الغربية ثمعلى نظيرتها الإسلامية. إنه، على العكس من ذلك يتخذ طريقه بين هذه وتلك، وهو، كما يقول صاحبه "مجابهة بين الميتافيزيقا الغربية والميتافيزيقا الإسلامية". أراد الخطيبي، على غرار جاك دريدا، أن يعيد النظر "في جميع الأزواج التي تتغذى منها خطاباتنا، لا لكي يرى فيها قضاء على التقابل، وإنما علامة على ضرورة، "بحيث يظهر كل طرف من أطراف الزوج كمخالف للآخر، ويبدو على أنه الآخر ذاته في إرجائه".

فبما نحن عالم ثالث "ليس علينا أن نسلك إلا مسلكا ثالثا ليس هو مسلك العقل ولا مسلك اللاعقل كما فكّر فيهما الغرب، وإنما خلخلة مزدوجة تقول "بفكر متعدد لا يختزل الآخرين (أفرادا وجماعات)، ولا يضمّهم إلى دائرة اكتفائه الذاتي. إذ إن على الفكر أن يتجنب هذا الاختزال إذا هو أراد ألا ينظر إلى مجاله الخاص على أنه الكون في مجموعه، ذلك الكون الذي ينخره التباعد، وتتوزعه الهوامش والأسئلة الصامتة".

AFP
البروفيسور يورغن هابرماس يتحدث في المتحف اليهودي

في الهامش

ما كان الخطيبي يأخذه على المعرفة العربية هو كونها ظلت على "هامش" المنظومة المعرفية الغربية، وأنها "لا توجد داخل تلك المنظومة، بما أنها تابعة لها محدَّدة بها، ولا خارجها لأنها لا تُعمل فكرها في الخارج الذي يؤسسها". حينئذ سيغدو "النقد المزدوج" ابتداع هامش جديد لا يكون "هامشا أعمى" تابعا للمركزية الأوروبية. فالمعرفة العربية لا تستطيع أن تتنصّل من أسسها اللاهوتية والتيوقراطية إلا بفضل قطيعة لن تكون كذلك ما لم تكن مزدوجة "لتقابل المنظومة المعرفية الغربية بخارجها اللامفكر فيه، وتعمل في الوقت ذاته على تجذير الهامش، ليس فقط عن طريق فكر يستعمل اللغة العربية أداة، وإنما بالاتجاه نحو فكر مغاير، يتكلم عدة لغات، ويصغي لأيّ كلام أنّى كان مصدره".

لا يتعلق الأمر إذن بأن نعلن الطلاق النهائي مع ما نظن أنه آخر مطلق، إذ أن ذلك الكيان المطلق ليس إلا وليد "أوهام متولدة عن فزعنا"

يعني ذلك في ما يعنيه أوَّلا أن المفكّر العربي إنْ هو أراد لفكره أن يكون مغايرا، فلا ينبغي أن يقوم هو نفسه بتنشيط النقد الداخلي للغرب بدلا عنه "ذلك أن هذا النقد قائم بشكل ملحوظ في مجالات عدة من الفكر والقول. إن الإبيستيميه الغربية الحالية توجد في أزمة من الداخل بواسطة قوى التجاوز واللاتمركز. وهذه الإبيستيميه المتصدّعة تمثل لنا، نحن العالم الثالث، حسب أنماط وأشكال متغيرة ترتسم في صراعاتنا ونزاعاتنا. فلا يمكننا والحالة هذه، إلا أن ننضم توّا إلى ما تحقق كي نحاول تحويله وفق نقد مزدوج".

لا يتعلق الأمر إذن بأن نعلن الطلاق النهائي مع ما نظن أنه آخر مطلق، إذ أن ذلك الكيان المطلق ليس إلا وليد "أوهام متولدة عن فزعنا"، وعلينا، على العكس من ذلك، أن نكشف عن آخر آخرنا، و"ننضم توّا" إلى ما يعيشه "الغرب" من أزمات، وننخرط في النقد الذي يوجهه لذاته، وذلك بهدف تجذير هوامشه، ومقابلته بخارجه اللامفكر فيه.

font change

مقالات ذات صلة