الرهائن و"حماس" والسلطة

الرهائن و"حماس" والسلطة

مع كل دفعة من الرهائن الإسرائيليين تخلي سبيلهم "حماس" مقابل إطلاق سجناء فلسطينيين، تقل إلى حد كبير احتمالات نجاح إسرائيل في تحقيق هدفها المعلن المتمثل في تدمير "حماس" ككيان عسكري. فعندما طُرحت فكرة تبادل الرهائن أول مرة أوائل نوفمبر/تشرين الثاني، رفضتها حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الفور على أساس أن أي توقف للقتال للسماح بإطلاق سراح الرهائن سيمنح "حماس" الوقت من أجل إعادة تجميع صفوفها.

وقتها، علق نتنياهو خلال مقابلة مع شبكة "فوكس نيوز" قائلا: "إنّ وقف إطلاق النار مع حماس يعني الاستسلام" مضيفا أنه لا يوجد جدول زمني للهجوم العسكري الإسرائيلي، فمهما استغرق الأمر، سوف ننهي المهمة".

ووعدت إسرائيل بتدميرَ "حماس" بعد أن تدفقت الجماعة المسلحة عبر الحدود من غزة في 7 أكتوبر/تـشرين الأول، فقتلت 1200 شخص، معظمهم من المدنيين واحتجزت حوالي 240 رهينة.

ولكن في نهاية المطاف، مورس ضغط على نتنياهو وأنصاره اليمينيين المتشددين في الحكومة الإسرائيلية للتخلي عن تحفظاتهم، كما ضغطت عليهم أيضا إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لقبول الترتيب الذي ترعاه قطر للإفراج عن عدد من الرهائن الإسرائيليين مقابل إطلاق سراح سجناء فلسطينيين.

وفي حين واصل نتنياهو مقاومة فكرة الموافقة على وقف إطلاق النار، قبلت حكومته على مضض الاقتراح الداعي إلى احترام "تجميد" القتال حتى يتسنى القيام بعمليات نقل وتسليم المساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها إلى غزة.

ثمّ مُددت حاليا الخطة الأصلية التي تنصّ على وقف القتال لمدة أربعة أيام ليومين آخرين بهدف السماح بالإفراج عن المزيد من الرهائن الإسرائيليين والسجناء الفلسطينيين، وهو تطور شجع إدارة بايدن على الاعتقاد بأن وقف إطلاق النار الدائم قد يكون ممكنا.

حتى لو نجحت إسرائيل في تدمير بنية "حماس" التحتية في غزة، فإنها لن تكون قادرة على التأثير في الارتفاع الكبير في الدعم الذي كسبته الحركة نتيجة لنجاحها في تأمين إخلاء سبيل العشرات من السجناء الفلسطينيين

وعلى الرغم من أن الموقف الرسمي للرئيس الأميركي يدعم إسرائيل، بزعم أن القضاء على "حماس" هو هدف "مشروع" للدولة اليهودية، فإنه يؤكد في الوقت عينه حرصه على وضع حد للقتال في أقرب وقت ممكن.
وقال بايدن في حديث أدلى به بعد فترة وجيزة من إخلاء سبيل الدفعة الأولى من الرهائن الإسرائيليين: "آمل وأتوقع أنه بينما نتقدم، فإن العالم العربي الأوسع والمنطقة المحيطة به سوف يمارسون الضغط على جميع الأطراف المعنية للتريث في هذا الأمر، وإنهائه بأسرع ما يمكن".
هناك عامل مهم آخر يمكن أن يحدّ من قدرة نتنياهو على مواصلة الهجوم العسكري الإسرائيلي ضد "حماس"، وهو الرأي العام الإسرائيلي المنقسم بشدة بشأن هذه القضية. فأنصار نتنياهو المتشددين يعتقدون أن القوة العسكرية هي السبيل الوحيد لتأمين حرية الرهائن جميعهم، بينما تعتقد عائلات الرهائن المتبقين وأنصارهم أنه يجب تأمين تحريرهم قبل استئناف الأعمال العدائية.
من المؤكد أن حكومة نتنياهو ليس لديها اهتمام كبير برؤية وقف القتال الأخير يتحول إلى وقف إطلاق نار مستدام، إذ إنها تظل ملتزمة بتحقيق هدفها المتمثل في تدمير "حماس".
من وجهة نظر الجيش الإسرائيلي، فإن مهمة تدمير "حماس"، وبطبيعة الحال تدمير التهديد الذي تشكله على أمن إسرائيل، هي مهمة لم تنجَز إلا جزئيا، حيث يزعم الجيش الإسرائيلي أنه دمر حتى الوقت الحالي حوالي 400 نفق لـ"حماس" شمال قطاع غزة. ويحرص قادة الجيش الإسرائيلي على توسيع هجومهم البري إلى جنوب غزة، بدعوى أن "حماس" تمتلك شبكة مماثلة من الأنفاق العاملة في تلك المنطقة. 
ومع ذلك، فمن المرجح أن يؤدي أي تحرك جنوبا إلى زيادة عدد القتلى بين المدنيين الفلسطينيين، والذي تقول السلطات الطبية الفلسطينية إنه وصل بالفعل إلى 14 ألفا. ومع تحذير بايدن لنتنياهو فيما سبق بضرورة تجنب الوفيات غير الضرورية بين المدنيين، فإن إسرائيل ستتعرض لضغوط متجددة إذا أدى استمرار هجومها العسكري إلى ارتفاع كبير في عدد القتلى المدنيين.
وحتى لو نجحت إسرائيل في تدمير بنية "حماس" التحتية في غزة، فإنها لن تكون قادرة على التأثير في الارتفاع الكبير في الدعم الذي كسبته الحركة نتيجة لنجاحها في تأمين إخلاء سبيل العشرات من السجناء الفلسطينيين، وهو الأمر الذي اتضح من الهتافات المؤيدة لـ"حماس" والتي رافقت تحرير السجناء الفلسطينيين مؤخرا.

بعد الدور الرئيس الذي شغلته "حماس" في التفاوض وترتيب تحرير الرهائن الإسرائيليين والسجناء الفلسطينيين، فسوف يُصر قادتها على أنه لا يمكن استبعادهم من أي محادثات سلام في المستقبل

وتجمعت حشود كبيرة في الضفة الغربية للترحيب بالأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم من السجون الإسرائيلية في إطار عملية تبادل الرهائن، ورددت شعارات من مثل: "من غزة إلى جنين"، و"بالروح بالدم نفديك يا حماس"، في إشارة إلى تزايد شعبية الحركة خارج نطاق غزة الضيق.
ولعب الإحباط المتزايد من قيادة الرئيس محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، دورا رئيسا في الصعود المتزايد لحركة "حماس" في الضفة الغربية، والتي كانت تعتمد في السابق على مليوني فلسطيني يقيمون في غزة لدعمها. وتضاءل الدعم المساند للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية في السنوات الأخيرة، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أن أقلية صغيرة فحسب من الفلسطينيين يتبنون وجهة نظر إيجابية تجاه السلطة الفلسطينية، والتي يُنظر إليها باعتبارها مقاولا من الباطن لمصلحة الاحتلال العسكري الإسرائيلي المستمر.
في المقابل، برزت "حماس" كقوة قادرة على تأمين إطلاق سراح السجناء الفلسطينيين، وبدت بذلك أكثر فعالية من السلطة الفلسطينية في نظر الكثير من الفلسطينيين في سياق مناصرة قضيتهم.
ومن المؤكد أن المكانة المتنامية التي تشغلها "حماس" بين السكان الفلسطينيين يمكن أن تحمل بين جنباتها آثارا عميقة على أي جهود دبلوماسية مستقبلية لحل القضية الفلسطينية بمجرد انتهاء القتال في غزة. وبالفعل، أشار نتنياهو إلى أنه يفضل استئناف المحادثات مع السلطة الفلسطينية حول الإدارة المستقبلية لغزة والضفة الغربية.
ولكن بعد الدور الرئيس الذي شغلته "حماس" في التفاوض وترتيب تحرير الرهائن الإسرائيليين والسجناء الفلسطينيين، فسوف يُصر قادتها على أنه لا يمكن استبعادهم من أي محادثات سلام في المستقبل.
وفي نهاية الأمر، سوف يعود إلى الشعب الفلسطيني، وليس لإسرائيل، أمرُ تقرير من يمثل مصالحه في عملية السلام المتجددة، وإذا كان الشعب الفلسطيني يفضل أن يلتزم دعمَ بـ"حماس"، فإن شرعية السلطة الفلسطينية في تمثيل القضية الفلسطينية سوف تتعرض لخطر كبير.

font change