عدم اليقين سمة أسواق النفط في 2024

هامش متسع للأسعار يعكس ضبابية الرؤية

Shutterstock
Shutterstock

عدم اليقين سمة أسواق النفط في 2024

كان يفترض أن يؤدي انخفاض مخزونات النفط تزامنا مع ارتفاع طاقة التكرير للمصافي التكرير وتضييق الإمدادات، إلى خفض مستويات المخزونات بشكل أكبر وفرض ضغط تصاعدي على الأسعار حتى نهاية عام 2023. لكن العام المنصرم انتهى بمستويات أسعار نفط شبيهة بتلك التي بدأ بها، عند حاجز الثمانين دولارا، والتي شكلت أيضا متوسط سعر خام برنت لعام 2023، وهو أقل بنحو 20 دولارا عن متوسط السعر في عام 2022.

في نهاية شهر سبتمبر/أيلول وصل سعر خام برنت إلى ذروته عند نحو 94 دولارا بتقلبات تصل نزولا الى عتبة الـ 70 دولارا في شهر يونيو/حزيران وهو أدنى مستوى للأسعار في 2023. تحولت أرقام أسواق النفط العالمية إلى التراجع بشكل واضح في الربع الرابع، حيث تقاطع تضييق الإمدادات من تحالف منتجي "أوبك بلس" مع بيانات تشير إلى تباطؤ توقعات نمو الطلب العالمي على النفط.

وقد تراجعت الأسعار طوال العام أيضا بسبب رفع الفوائد، ليؤكد ذلك أن مستويات أسعار النفط لم تعد تعكس واقع السوق ولا سياساته، حيث لا ينبغي أن تُركّز تحليلات أسواق النفط فقط على زخم تحركات الأسعار المتضاربة.

جاءت أعلى التوقعات من البنك الدولي الذي حذّر من أن تصل أسعار النفط إلى 150 دولارا عام 2024 إذا تحولت الحرب بين إسرائيل و"حماس" إلى صراع إقليمي

توقعات السنة الجديدة

كانت إدارة معلومات الطاقة الأميركية (EIA) قد خفضت توقعاتها لسعر خام برنت لعام 2024 إلى متوسط ​​83 دولارا للبرميل، وهو سعر يقل عن التقدير السابق البالغ 93 دولارا، على الرغم من التشكيك في أن يخفض الإنتاجَ تحالفُ منتجي "أوبك بلس". وتتوقع كبرى المصارف الأميركية أن يبلغ متوسط ​​سعر خام برنت 85 دولارا لعام 2024، استنادا الى نمو الطلب واختلالات محتملة في الإمدادات، حيث عدّل مصرف "غولدمان ساكس" توقعاته إلى ما بين 70 و90 دولارا للبرميل، في حين توقع في وقت سابق أن يكون مستوى الأسعار ما بين 80 و100 دولار للبرميل، وهذا هامش واسع جدا لتوقعات مستويات الأسعار، يشير الى حالة عدم اليقين الكبيرة في أسواق النفط العالمية. كما توقع "سيتي غروب" أن يبلغ متوسط ​سعر خام برنت 75 دولارا، مع الأخذ في الاعتبار تباطؤ نمو الطلب وارتفاع الإنتاج الأميركي.

وتقاطعت توقعات مصرف "جي. بي مورغان" مع إدارة معلومات الطاقة الأميركية لجهة متوسط ​​سعر خام برنت عند 83 دولارا للبرميل في عام 2024، كما توقع المصرف أن تظل الأسعار ثابتة إلى حد كبير على الرغم من الرياح الاقتصادية المعاكسة المستمرة.

REUTERS
نموذج ثلاثي الأبعاد أمام الرسم البياني لمؤشر الأسهم.

فيما جاءت أعلى توقعات ارتفاع الأسعار من البنك الدولي الذي حذّر من أن تصل أسعار النفط إلى 150 دولارا عام 2024 إذا تحولت الحرب بين إسرائيل و"حماس" إلى صراع إقليمي.

بخلاف توقعات البنك الدولي، تحدثت معظم توقعات أسواق النفط العالمية لعام 2024 عن منحى تراجعي إلى حد كبير على الرغم من الزيادة المنتظرة في الطلب على النفط، خصوصا من آسيا، والتي قد تؤدي إلى ارتفاع غير متوقع في الأسعار، علما أن "وكالة الطاقة الدولية" توقعت أيضا نمو الطلب بشكل أسرع مما كان عليه في عام 2023.

هل بيانات الإمدادات والطلب الأميركية موثوق بها؟ هل تقع الولايات المتحدة في فخ خطر الإفراط في الإنتاج؟

مقاومة الأسواق ... والتوازن

يعود تراجع أسواق النفط عن مستويات العام الماضي أيضا إلى عمليات بيع كبيرة في سوق العقود الآجلة من قبل المضاربين، بينما شهدت أسعار البراميل الفورية عمليات شراء كبيرة عكست فروق الأسعار، مما أعطى إشارة قوية الى أن تراجع أسعار النفط يشهد مقاومة لبلوغ وضعية التوازن.

ولا تزال أساسيات السوق قوية الى حد كبير مع استمرار تضييق السوق المادي وتحسن كبير في هوامش الربح لمصافي التكرير، حتى في ظل المخاوف في شأن الاقتصاد الصيني توازيا مع قوة الدولار. كما أن الضغط لخفض الأسعار سيبقى محدودا إذا ما استمرت "أوبك بلس" في خفض الإنتاج للتشديد أكثر على البراميل الفورية واستمرار تراجع المخزونات. وتعكس أرقام المخزون العالمي العجز في إمدادات النفط في النصف الثاني من عام 2023. 

يرتكز التراجع في تحركات أسعار النفط في المقام الأول على بيانات الطلب الأسبوعي على النفط الصادرة عن "إدارة معلومات الطاقة الأميركية"، حيث انخفض استهلاك البنزين في الولايات المتحدة إلى أدنى مستوى له منذ 20 عاما.

وفي حين كانت التوقعات في شأن منتجي النفط الصخري في الولايات المتحدة قاتمة، وصل إنتاج النفط الخام والمكثفات في الولايات المتحدة إلى مستوى قياسي في شهر سبتمبر/أيلول 2023 بلغ 13,25 مليون برميل يوميا، بزيادة 236 ألف برميل يوميا على مستويات الإنتاج القياسية السابقة عند 13 مليون برميل يوميا في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2019. وقد دعم ذلك تراجع أسعار النفط.

جاء تراجع أسعار النفط أيضا وسط تزايد المخاوف في شأن الطلب، إذ تشير بيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية إلى أن الطلب الأميركي الإجمالي على النفط قد ينكمش في 2024 إلى 20,15 مليون برميل في اليوم. ولا تزال مخزونات النفط الأميركية عند مستويات قريبة من تلك التي كانت عليها مع بداية العام، كما أن الولايات المتحدة لا تزال منتجا هامشيا رئيسا للنفط على المدى القصير، إلا أنها تحتل مكانة عالية نظرا الى التكلفة المرتفعة عالميا.

AFP
مضخات النفط التي على مشارف ماريكوبا في مقاطعة كيرن، كاليفورنيا، في 21 ديسمبر 2023.

هنا يطرح العديد من الأسئلة المحورية عن بيانات الطلب والإنتاج من الولايات المتحدة الأميركية:

هل بيانات الإمدادات والطلب الأميركية موثوق بها؟ هل تقع الولايات المتحدة في فخ خطر الإفراط في الإنتاج؟ هل تواجه أميركا مشكلة في بيانات الانتاج وتتبع الطلب الضمني على النفط ومشتقاته؟ هل بيانات الإمدادات الأميركية تتسبب بإرباك أكثر مما تعزز الوضوح؟

من المفارقات أن نحو 70 في المئة من نمو الطلب العالمي على النفط مصدره الصين، على الرغم من أن بيانات تحفيز النمو داخل الصين غير كافية

السوق من منظار "أوبك"

أشارت توقعات منظمة "أوبك" الأخيرة إلى ارتفاع الطلب العالمي على النفط إلى 102 مليون برميل يوميا في عام 2023، بفارق 2,44 مليون برميل في اليوم عن العام السابق، وفي عام 2024 تتوقع "أوبك" أن ينمو الطلب على النفط ليصل إلى نحو 104,25 ملايين برميل يوميا، بفارق 2.2 مليون برميل في اليوم عن 2023.

من المفارقات أن نحو 70 في المئة من نمو الطلب العالمي على النفط مصدره الصين، على الرغم من أن بيانات تحفيز النمو داخل الصين غير كافية، بينما تواصل الصين بناء احتياطي الخزن البترولي الاستراتيجي، في وقت تستنفد الولايات المتحدة احتياطاتها البترولية إلى حد كبير. وقد تراجعت أسعار ‎البنزين بشكل حاد في الولايات المتحدة، حتى أن بعض مصافي التكرير بدأت تتكبد خسائر من إنتاجه، بينما بقيت أسعار ‎النفط الذي يُصنع منه مرتفعة بسبب النزاعات الجيوسياسية ونقص الإمدادات. 

الصين... توقعات سلبية مقلقة

صار معلوما أن الصين تلقي بثقلها في أسواق النفط وأسعاره، ارتفاعا أو تراجعا للأسعار، ومع تراجع بيانات واردات الصين النفطية التي انخفضت بنسبة 10 في المئة مقارنة بشهر أكتوبر/تشرين الأول، لتصل إلى أدنى مستوى لها في أربعة أشهر عند 10,37 ملايين برميل يوميا في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، باتت الأسواق قلقة. ويُعزى هذا الانخفاض في المقام الأول إلى ضيق حصص واردات النفط الخام لدى مصافي التكرير المستقلة في الصين، في حين أنه من غير المرجح أن يستمر الانخفاض في الشهر الأخير من العام المنصرم، وفقا لـ"ستاندرد آند بورز غلوبال". وستظل التوقعات الاقتصادية غير المؤكدة للصين بمثابة رياح معاكسة. وإن صحت توقعات استمرار انخفاض النمو الاقتصادي للصين في عام 2024، فسيكون لهذا التباطؤ آثار على الاقتصاد العالمي كثاني أكبر اقتصاد، وعلى الطلب العالمي على النفط كأكبر مستورد للنفط في العالم.

REUTERS
مقياس ضغط بالقرب من رافعات ضخ النفط.

انخفضت توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للصين من 5,5 في المئة إلى 5,2 في المئة لعام 2023 ومن 5 في المئة إلى 4,8 في المئة لعام 2024. ومن المؤثرات السلبية، أخذ الأسواق في الاعتبار الإجراءات التي اتخذتها الصين أخيرا لتعزيز اقتصاد البلاد المتعثر. من جهة ثانية، زادت المصافي في الصين معالجة النفط الخام والواردات في النصف الأول من العام الى 14,7 مليون برميل يوميا من النفط، بنسبة قدرها 8 في المئة على المتوسط ​​السنوي لعام 2022 البالغ 13,5 مليون برميل يوميا، و4 في المئة على الرقم القياسي لعام 2021 عند 14,1 مليون برميل يوميا. لذلك، من المتوقع أن تتباين توقعات أسعار النفط مع تلاشي الدعم نظرا الى الإجراءات التي اتخذتها الصين لدعم اقتصادها، وأيضا بسبب الاضطرابات في قطاع العقارات في الصين، مما أدى إلى زيادة المخاوف في شأن استهلاك النفط.

انتهى عام 2023 بمفاجأة غير متوقعة وهي إعلان أنغولا أنها ستنسحب من منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، وكانت انضمت إلى المنظمة في عام 2007 وتنتج 1,1 مليون برميل يوميا

ويشهد الطلب العالمي على النفط قمما تاريخية، ففي عام 2023 كان الطلب على النفط 102,1 مليون برميل في اليوم، وفي عام 2024 يصل إلى 104,4 مليون برميل في اليوم. في عام 2022 كانت توقعات الطلب على النفط نحو 99 مليون برميل يوميا لكن متوسط سعر خام برنت كان 100 دولار، أما متوسط سعر خام برنت لعام 2023 فكان عند نحو 80 دولارا.

تأثير انسحاب أنغولا من "أوبك"

انتهى عام 2023 بمفاجأة غير متوقعة من منتجي "أوبك" وهي إعلان أنغولا أنها ستنسحب من منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، وكانت انضمت إلى المنظمة في عام 2007 وتنتج 1,1 مليون برميل يوميا.

أشارت بعض التقارير إلى أن إعلان انسحاب أنغولا من "أوبك" هو نتيجة خلاف في شأن خفض حصص الإنتاج هذا العام، ويأتي القرار أيضا في أعقاب اتفاق تم توقيعه بين الصين وأنغولا في شأن تعزيز التعاون التجاري. 

قد لا يكون هناك تأثير يُذكر لخروج أنغولا من "أوبك" على استمرار توافق تحالف منتجي "أوبك بلس"، وكذلك على توازن أسواق النفط العالمية، إذ تعاني دول شرق أفريقيا من مشاكل لوجستية ومشاكل في عمليات الإنتاج مع استمرار تفاقم الوضع الأمني في مرافق الإنتاج والتصدير، كما أن ليس لها طاقة انتاجية فائضة. أيضا، فإن منتجي شرق أفريقيا هم الأكثر تأثرا بزيادة صادرات النفط من الولايات المتحدة نظرا الى تشابه مواصفات النفط في نيجيريا وأنغولا خصوصا مع النفط الصخري الأميركي.

REUTERS
ألسنة اللهب تتصاعد من مدخنة في حقل غرب القرنة النفطي، في البصرة في العراق،1 يناير 2024.

بلغ متوسط ​​صادرات الولايات المتحدة من النفط الخام في النصف الأول من عام 2023 نحو 3,99 مليون برميل يوميا، وهو مستوى قياسي للنصف الأول من العام منذ عام 2015، عندما رفعت الولايات المتحدة الحظر الذي فرضته على معظم صادرات النفط الخام، وفقا لبيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية. وكانت أوروبا الوجهة الإقليمية الكبرى لصادرات النفط الخام الأميركي، حيث بلغت 1,75 مليون برميل يوميا، وحلّت آسيا ثانيا، حيث استقبلت 1,68 مليون برميل يوميا، مجملها إلى الصين وكوريا الجنوبية.

تشير التقديرات الى أن مخزونات النفط الخام في الولايات المتحدة لا تزال عند مستويات قريبة مما كانت عليه بداية العام المنصرم

الولايات المتحدة وفخ الإفراط في الإنتاج؟

وصل إنتاج النفط الخام والمكثفات في الولايات المتحدة إلى مستوى قياسي بلغ 13,25 مليون برميل يوميا في شهر سبتمبر/أيلول 2023، متجاوزا الرقم القياسي السابق البالغ 13 مليون برميل يوميا المسجل في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2019 قبل جائحة كوفيد-19. من المفاجئ أن يكون مصدر معظم الزيادة من ولايتي نيو مكسيكو وداكوتا الشمالية وليس من "حوض بيرميان" الذي يقع في شرق ولاية تكساس الذي من المفترض أن يشكل المنطقة المحورية لنمو إمدادات النفط الخام في الولايات المتحدة مع التحسينات التي طرأت في تكنولوجيا الحفر والتي قلّصت الفجوة بين الآبار المكتملة والآبار المحفورة.

على الرغم من مستويات الإنتاج الاميركية القياسية التي سجلت في شهر سبتمبر/أيلول، تشير التقديرات الى أن مخزونات النفط الخام في الولايات المتحدة لا تزال عند مستويات قريبة مما كانت عليه بداية العام المنصرم، ولا تزال الولايات المتحدة المنتج الهامشي الرئيس للنفط على المدى القصير، حيث تحتل شركات النفط الأميركية مكانة عالية لجهة التكلفة المرتفعة عالميا. لذلك هناك خطر في أن تقع الولايات المتحدة في فخ الإفراط في الإنتاج كما حدث قبل عشر سنوات عندما كانت أسعار النفط مستقرة فوق حاجز المئة دولار لسنوات عدة، إلا أن الإفراط في الإنتاج الأميركي أدى الى هبوط أسعار النفط إلى دون الـ50 دولارا في نهاية عام 2014 بعد تفاقم الديون لدى العشرات من منتجي النفط الصخري الأميركي.

هناك بعض الطروحات حول بيانات إنتاج النفط الصادرة عن إدارة معلومات الطاقة الأميركية، من أنها تتسبب بإرباك أكثر من الوضوح. فوصول إنتاج النفط الأميركي إلى مستوى قياسي قد يكون مبالغا فيه بسبب التغيرات في منهجية حساب البيانات، حيث لا تقتصر المبالغة في تقدير الإمدادات فحسب، بل تم خفض الطلب الأسبوعي الضمني على النفط، حيث تواجه إدارة معلومات الطاقة الأميركية مشكلة حقيقية في تتبع هذا الطلب محليا في الولايات المتحدة (تحديدا في حساب بيانات الطلب على البنزين والديزل ووقود الطائرات)، هذا بالإضافة إلى احتساب اجمالي الطلب الضمني على النفط الذي تتم معالجته محليا في مصافي التكرير الأميركية.

font change

مقالات ذات صلة