رحيل حسين ماضي: مهندس التكرار المتجدّد

أحد أركان الفن التشكيلي العربي

حسين ماضي بجانب لوحاته.

رحيل حسين ماضي: مهندس التكرار المتجدّد

ينتمي حسين ماضي الذي غادر عالمنا مساء الأربعاء 17 يناير/ كانون الثاني 2024 عن 86 عاما إلى مجموعة نادرة من الفنانين الذين بقوا أوفياء لمصادر وحيهم الأولى، وعملوا على إعادة إنتاجها والدفاع عنها طوال حياتهم وعلى امتداد خريطة أعمالهم التي لم تخرج عن انتسابها إلى لحظات الدهشة الأولى ولم تبارحها مهما تعددت أساليبها وتنامت مصادرها.

العناصر التي شكلت ماضي هي طبيعة قريته شبعا في جنوب لبنان، ورحلاته مع جدّه ومراقبة أعماله اليومية التي اكتسب منها تلك العلاقة الخاصة بالطبيعة بوصفها أصلا ومرجعا لا يمثل الفن سوى حركة لقاء واكتشاف لما تضمره من أبعاد وأنساق وتركيبات وعلاقات وأنماط وأشكال.

وبذلك كان منطق ماضي الفنّي مغايرا لمعاصريه لا بل مناقضا لهم، فقد ابتعد عن الشاعرية والرومنطيقية لصالح عقلانية البحث والكشف، وكان يردّد على الدوام أن الفنان لا يخلق لأن الخلق محصور بالخالق وحده ولكنه يكتشف.

كل ما تلقاه ماضي من معرفة وتأثيرات نجده ذائبا في صيغة شرقية عربية إسلامية ومحلية لبنانية

مهارة الاكتشاف يجب بناؤها بالعرق والجهد والنزيف، فالطبيعة لا تقدّم نفسها وأسرارها مباشرة بل تشترط معرفة دائمة التجدّد والتوسّع حتى يمكن التقاط لحظاتها والقبض عليها. انتقل هذا الحسّ بالطبيعي والأصلي إلى كل ما عاينه الفنان واشتغل عليه، فالعمل الفني سواء كان لوحة أو منحوتة أو عملا طباعيا لا يخرج عن كونه صادرا عن أصل  طبيعي طُوّع وشُكّل في لحظة معينة لا تنسف صلته بذلك الأصل بل تستعيده بشكل جديد.

 من ذلك البناء المتجدّد والإشكالي كانت عوالم ماضي تنبثق بكل ما فيها من زخم يتحدّى العين ويخاصم السائد ويدخل المعاصرة والحداثة بمحمول بدائي معاد تصنيعه وشراسة طفولية في اللعب وقسوة المجالدين.

 المعاصرة وتذويب الأساليب

درس ماضي الفنون في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة من العام 1958 الى 1962 وانتقل الى روما حيث عاش لمدة عشرين عاما اطلع خلالها على مختلف التجارب الفنية وتدرب على العديد من التقنيات قبل أن يعود الى بيروت في أواخر ثمانينات القرن الماضي  ليستكمل مسيرة حافلة بعشرات المعارض والجوائز.

حسين ماضي.

 لطالما قيل إنه خاضع لتأثير بيكاسو وماتيس، وفي مرات كثيرة كان بعض النقاد يلاحقون نتاجه ويحاولون ردّه إلى مرجعيات محددة واتهامه بالسير على منوالها والتأثر بها وتقليدها.

ولكن أحدا لم يجب عن السؤال الذي لا يزال مفتوحا حتى الآن حول ما الذي يجعل أعمال ماضي تمتاز بانتمائها الدائم إلى المعاصرة والتعبير عنها، وما الذي جعله قادرا على النجاح في مخاطبة المزاج العالمي والتأثير فيه، على العكس من كثير من الفنانين الذين اعتمدوا على تقليد الأنساق العالمية وتبني مناهجها.

الجواب ببساطة أن كل ما تلقاه ماضي من معرفة وتأثيرات نجده ذائبا في صيغة شرقية عربية إسلامية ومحلية لبنانية. بيكاسو وماتيس إضافة إلى مجموعة لا تحصى من الفنانين والنحاتين الذين لا شك في أنه كان مطلعا على أعمالهم يحضرون في أعماله بعد خضوعهم لعملية تذويب وصهر قاسية مع عناصر الخصوصية والشرقية.

لوحة «المرأة والحصان» للفنان حسين ماضي.

بنى الفنان شبكة علاقات معقدة مع مؤثراته ومعتقداته وقيمه وعمل على صهرها وملاءمة بعضها مع بعض وعرضها بشكل لا يمكن معه فصلها أو إعادتها إلى عناصرها المؤسسة. التقنية الأوروبية الدقيقة الذائبة في نسق موضوعات محلية وتمثلات تنبع من الهوية الإسلامية التي كان الرجل يتبناها ومن ذاكرة محلية ومؤثرات بدائية و كونية جعلته شديد المعاصرة على الدوام، لا بل يمكن القول إنه لم يكن منتميا إلى المعاصرة وحسب بل كان أحد أبرز صناعها.

من أعمال حسين ماضي.

وفي رصد العلاقة بين الشخصي والعام والفني يمكن ملاحظة علاقة فكرة الحدود وعلاقتها بالصرامة المنهجية وفكرة الحق، فماضي ابن قرية شبعا مسكون بذكر الأرض التي تعود ملكيتها إليه في مزارع شبعا المحتلة، قد طور وعيا حادا بفكرة الحدود والجغرافيا وانعكس ذلك بقوة في فنه وفي عملية تذويبه الشاقة والقاسية للمعارف والخبرات والمدارس. كل أعماله مسكونة بهاجس التحديد والحدود وفكرة الضبط والعقلانية والحق وكأنها دفاع عن مرارة فقد الأرض التي يمكن التأكيد أنها تشكل هاجسا دفينا وعميقا عنده.

  على اختلاف الموضوعات والثيمات التي قاربها كان ماضي يرسم وينحت ما هو ثابت ومقيم وغير قابل للا حتلال والمغادرة، تلك كانت طريقته في ترويض كل أنواع القسوة كما هو الحال في فكرة ترسيم حدود المعنى في الفن والحق في استعادة الأرض.

كانت لوحته خلطة من الشكلانية التي تدعو إلى سيادة الشكل والقيم الجمالية على الخيال والمشاعر

تكرار وتجدّد

تمنح الطبيعة الحسّ بالعشوائية والفوضى ولطالما تعامل الفنانون معها بوصفها مصنعا للفوضى الخلاقة الموحية. كان حسين ماضي يؤمن خلاف ذلك، فالطبيعة تنطوي على أنساق وأنماط وتراكيب شديدة التنظيم والإحكام، ولكنها على العكس من صيغة العلنية والانكشاف المجاني التي توحي بها، قائمة على طبقات متتالية من الغموض لا يتيسّر التقاط بعض ما تفيض به من أسرار ومعادلات إلا من خلال الجهد، والمعاناة، والتعلم المتواصل والجهد.

AFP
وزير الثقافة اللبناني محمد مرتضى، في الوسط ينظر إلى إحدى لوحات الفنان اللبناني حسين ماضي خلال عرض الأعمال الفنية التي رممت بمبادرة من اليونسكو في 20 فبراير 2022، بعد تعرضها للأضرار خلال انفجار مرفأ بيروت 4 أغسطس 2020.

وعليه فإن الطبيعة تستأنف صنيعها وتطوره وتجدّده وفق بنى هندسية دقيقة، لا يحيل التكرار الظاهر فيها إلى التماثل والتطابق بقدر ما ينفتح على تجديد وتطوير، يحافظان على مرجعية الأصل وروحه على الدوام، مهما بلغت درجة التباعد التي قد يحيل إليها فعل التجديد الدائم.

 لم يخرج حسين ماضي عن هذه المعادلة في كل نتاجه، بل يبدو وكأنها شكلت المفهوم الأساس والمرجعي الذي يميزه ويمنحه بصمته الفريد، فقد التقط منذ بداياته جوهر مشروعه، وحرص على  تجويده وتحسينه وإعادة إنتاجه ودفعه إلى ملامسة الحدود القصوى الممكنة، وفي كل هذا السعي المحموم والمتواصل نجح في ما فشل فيه كثير من مجايليه، إذ أنه استطاع أن يكون مرجعا لنفسه يعود إليها في كل أحواله ويجد فيها مادة فنه ومعناها.

من أعمال حسين ماضي.

التكرار الذي تتصف به أعماله كان مجرد لعبة انسجام وتوليد واكتشاف. البعد التأليفي في لوحاته ومنحوتاته كان وبقي على الدوام متصفا بالسعي إلى إبراز المادة المرسومة فيه بالإحالة إلى ذاتها وما تمثله، لذا كانت لوحته بلا فوائض ولا هوامش وإحالات، وكانت بمثابة خلطة من الشكلانية التي تدعو إلى سيادة الشكل والقيم الجمالية على الخيال والمشاعر وبين تحويلها إلى حاضن لمعنى محدد ومعين يحيل إلى مادته ولحظته. 

الطيور التي فتن برسمها على سبيل المثال لا تتجلى كما درجت العادة في توظيفها سواء في لوحات الرسامين اللبنانيين أو العالميين، بوصفها رمزا سياسيا أو فنيا، يتشكل فنيا انطلاقا من الارتباط بالتأويلات، مما يجعلها سابقة عليها ومرجعا له. فطيور ماضي تلتقط ولا تؤلف، إنه يرصدها وتفرض عليه إيقاعها ومعناها المتشكل في لحظة الالتقاء بها في مجال محدّد، وهو إذ يسجنها في حدود اللوحة يمنعها من الطيران خارج  المعنى البسيط والمباشر الذي انتبه إليه.

معاداة  الشعرنة والافراط في التأويل الذي يسم أعماله بلورت معالم  خيار فني شاق، فرض تناولا مختلفا لها ومنحها، خصوصية فريدة أجبرت النقاد والعامة على التعامل معها انطلاقا منها، ومنع تحميلها ما لا تحتمله من إسقاطات وتأويلات.

امرأة ماضي يمكنها أن تنزل من اللوحة لتسكن في المنحوتة ويمكنها أن تعود إليها حين تشاء

الإصرار على الالتقاء باللوحة من خلال ما تحمله وما تقوله كانت فكرة ماضي عن الفريد والمدهش، فالعصفور الذي يرسمه في حالة محددة سيكون قد غادرها في اللحظة التالية، لذا فإن ضبطه في تلك الحالة وسجنه فيها يخلدها ويجعلها غير قابلة للتكرار كحالة وإن كان العصفور يبقى قادرا على الحضور كنموذج.

اختلاط الحواس

النزوع الذي كان ماضي يعبر عنه في رغبته في أن يرى بأصابعه ويلمس بعينيه لا يقود إلى ما قد يبدو بعضا من مبالغات الفنانين واستيهاماتهم، بل يحيل إلى صرامة المنهجية التي أدّت إلى توحيد منطق العمل في الرسم والنحت وكذلك في العمل على المعدن كما كان الحال في تجربته مع الحديد.

من أعمال حسين ماضي.

تبرز واحدية المنطق بشكل يتيح للحواس تبادل وظائفها من دون أن يصبح الأمر فوضى، بل يبقى الانسجام ويسود، وكأن الأمور حين تصل الى أقصاها تخلق بنية تكامل وتواصل يمكن معها استبدال العين باليد.

لوحات ماضي منحوتة ومنحوتاته مرسومة. الأشكال في لوحاته بارزة ومحددة  وكأنها آيلة للتحديد والمعاينة باللمس. المجال التأليفي الذي يحصرها فيه بحيث تظهر متكاملة ومقيمة بتمامها في اللوحة من بدايتها إلى نهايتها، يقربها من آلية عمل النحت وبنيتة.

من أعمال حسين ماضي.

الأشكال في لوحاته صلبة وثابتة يصعب تخيل مغادرتها موقعها وهيئتها. ابتعد ماضي عن الأشكال الرجراجة والقلقة وغير المسيطرة على نفسها والتي تحيل إلى ما يتجاوزها، ودافع عن الثبات والحضور المبني على الإقامة في حدود أبعاد اللوحة. رسم لوحة قابلة لمقاربتها باللمس والنظر في آن واحد بشكل يحيل كل حاسة على الآخرى كمرآة.

في النحت تبدو الأشكال مرسومة، تغري بالنظر إليها ومعاينتها ولمسها، ولكنها على غرار اللوحات ممنوعة من مغادرة مجال المعنى المحدّد الذي وضعها الفنان فيه. بروزها واتساقها وصلابتها تكشف عن تصميم مسبق لها يلتقي منطق بناء اللوحة والذي قد يمكن التعبير عنه بمفهوم الترقيق أو التليين أو الترويض وفق عنوان أحد معارضه النحتية التي عمل فيها على الحديد.

من أعمال حسين ماضي.

تحتفظ أعمال ماضي بقسوة المادة وصلابتها وقسوة عملية الإنتاج الفني وتعمل على صبّ كل كتلة اللقاء بين هاتين السيرورتين عبر عملية التليين أو الترويض فيخرج العمل الفني وكأنه الأثر الصافي والخلاصة المكثفة لكل العناصر والسيرورات التي ساهمت في بنائه، والتي لم يكن ممكنا أن يرى النور من دونها ولكنه كذلك لا يمكن أن يخلق لنفسه هوية إلا بالاستقلال عنها.

عملية التليين أو الترويض تنشئ حقلا من التبادلات الممكنة حيث تتبادل النماذج التي يكررها مواقعها وتنفتح على التجدد عبر طبيعة المادة وآلية العمل. المرأة المتشكلة بالحديد تدافع عن صلابة حركتها وإيقاعها كما اختارها الفنان، وتروي مسار عملية الترقيق والترويض بوصفها دلالة على وحدة المناهج واختلاف الأساليب. امرأة ماضي يمكنها أن تنزل من اللوحة لتسكن في المنحوتة ويمكنها أن تعود إليها حين تشاء والعكس صحيح.

font change

مقالات ذات صلة