من الاقتباسات المنسوبة إلى عالم اللاهوت في القرن الرابع القديس أغسطين "العالم كتاب، ومن لا يسافر فيه لا يقرأ إلا صفحة واحدة". ومع أن هذه المقولة تشبيه جميل يوضح كيف يمكن أن يكون السفر تعليمياً ومسلّياً كالقراءة، فإنه يوفر أيضاً طريقة مفيدة لمقارنة التأثير السلبي للسياحة بكيفية إلحاق الاهتراء بكتاب. فقد تتفكّك بعض الصفحات أحياناً عندما تقرأ فصلاً مراراً وتكراراً. وعندما تطوي زاوية صفحة عدة مرات، قد تتمزّق عند أدنى شدّ.
بعد الهدوء المفاجئ في السفر الذي ترافق مع جائحة "كوفيد-19"، عاد السفر الشخصي في سنة 2023 إلى المستويات نفسها تقريباً التي كانت عليها ما قبل الجائحة. ومع أن البعض يفرحون بالازدهار الاقتصادي المتوقّع المرافق للسياحة، يشعر آخرون بالقلق من أن يشكّل ذلك تهديدات خطيرة لبعض الوجهات الأكثر شعبية.
ما أخطار "السياحة المفرطة"؟
يرتبط مصطلح "السياحة المفرطة " برأفت علي من شركة "سكيفت"، الذي يدّعي أنه جاء به من غير قصد في سنة 2016. وقد وضع المصطلح خصيصاً للفت انتباه الناس ودق ناقوس الخطر ، وأوضح علي في مقالة لاحقة، "هذا هو بالضبط السبب الذي جعله ينتشر كالنار في الهشيم منذ ذلك الحين، لأنه لا يحتاج إلى تفسير ويهدف إلى إثارة الذعر".
تُعرِّف منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة "السياحة المفرطة" (أي الزائدة عن اللزوم أو الفائضة) بأنها " أثر السياحة على وجهة أو أجزاء منها، يؤثر بشدة على جودة الحياة المتصوّرة لمواطنيها و/أو جودة تجارب الزوّار بطريقة سلبية". وتشير تقديرات مختلفة، بما في ذلك تقديرات منظمة السياحة العالمية، إلى أن العدد الإجمالي للسيّاح سيصل إلى ما بين 1,8 و2 مليار سائح في سنة 2030.
من المتوقع أن يسافر نحو 1,8 مليار سائح سنوياً بحلول سنة 2030: هل ستغمر "السياحة المفرطة" الوجهات الرئيسية في العالم؟
في مقال بحثي نُشر في "المجلة الدولية للمدن السياحية"، تقول راشيل دودز من جامعة "تورونتو متروبوليتان" إن حجم المدينة عامل حاسم عندما يتعلّق الأمر بالشكاوى المحلية من "السياحة المفرطة". ربما تكون المدن الكبرى مثل لندن أو نيويورك أو مكسيكو سيتي أقل عرضة للخطر بكثير - رغم أن أعداد السيّاح الذين تستقبلهم أكبر بالمطلق - مقارنة بالمدن الأصغر. ويرجع ذلك إلى أن السيّاح يركّزون على أجزاء محدّدة من المدينة الكبيرة، ولا يتحمّل معظم المقيمين أي عواقب ملموسة تترتّب على أعدادهم الكبيرة. لكن في المدن الصغيرة، مثل البندقية وبرشلونة وروما ودوبروفنيك وبراغ، توجد مخاوف كبيرة بشأن السياحة المفرطة.
وتقول دودز "ما تشترك فيه هذه الأماكن مع العديد من المدن الأخرى هو وجود نسبة مرتفعة نسبياً من المقيمين المتعلّمين والمحنّكين الذين لا ينخرط كثير منهم في السياحة أو لا يستفيدون منها، بشكل مباشر على الأقل، ومن المرجح أن يجهروا في معارضة الأعداد المفرطة من الزوّار. فالسياحة والسيّاح بالنسبة لبعضهم، إن لم يكن لكثير منهم، تعدّ في أحسن الأحوال ضرورة اقتصادية، وفي بعض الحالات، إزعاجاً ومضايقة حقيقيين للغاية، إذ ينافسون على الطرق ومواقف السيارات، وعلى الخدمة في المتاجر والمكاتب، وعلى السكن (الإيجار في العطلات وشراء المنازل الثانية) ويسهمون في القمامة والازدحام والضوضاء في المشهد الحضري".
وأجرى باحثون من جامعة "سولنت" في نروج تحليلاً لـ 15 مدينة أوروبية ووجدوا أن المدن الأكثر عرضة للتهديد بالسياحة الفائضة في هذه القائمة هي البندقية، وفلورنسا وإشبيلية ولشبونة. البندقية، على سبيل المثل، تستقبل نحو 30 مليون زائر سنوياً، وتضمّ نحو 50 ألف مقيم رسمي فحسب.
إلى جانب القضايا الخاصة بالمستوطنات الحضرية، هناك أيضاً آثار سلبية للسياحة المفرطة على الجانب البيئي، مثل تدهور الشعاب المرجانية، وتلوّث الشواطئ والبحار. وتدرج منظمة "ميرماريسيون" الفرنسية أيضاً الاستهلاك المفرط للموارد - مثل زيادة الحاجة للمياه للمسابح في الفنادق وزيادة استخدام الوقود الأحفوري - بوصفها تأثيراً سلبياً مباشراً للسياحة الفائضة.
رفعت دولة بيليز ضريبة المحافظة على البيئة من 3,75 دولاراً إلى 20 دولارا في سنة 2017، على أمل مكافحة الآثار السلبية للسياحة بشكل أفضل
ماذا تفعل البندقية؟
في 12 سبتمبر/أيلول 2023، صوّت مجلس مدينة البندقية على فرض رسم دخول جديد على زوّار اليوم الواحد. السياحة المفرطة تتجاوز الإزعاج وتشكّل تهديدات خطيرة للغاية لهذه المدينة، لأن الأمواج الإضافية الناجمة عن زيادة أعداد الجندولات في المدينة تؤدي إلى أمواج تسهم في تآكل أسس المباني. غير أن البندقية ترغب بوضوح في اتباع نهج حذر وتحقيق التوازن بين إيجاد حل سريع واتخاذ إجراءات صارمة. يبلغ الرسم 5 يورو فقط وسيطبّق على المسافرين القادمين ليوم واحد فحسب، الذين يشكلّون ثلثي إجمالي السيّاح. وسيجري تجربة الرسم بدءاً من ربيع 2024 خلال أيام ذروة السياحة. وللتركيز على زوّار اليوم الواحد اعتبارات اقتصادية أيضاً، لأن هذه الفئات معروفة بأنها تنفق أموالاً أقل ممن يبيتون في الليل. والأمل معقود على أن يشجّع هذا الرسم الناس على التفكير بشكل مختلف بشأن مواعيد زيارة البندقية. ويقول سيمون فينتوريني، عضو مجلس مدينة البندقية للسياحة: "نريد أن نرى هل يمكن أن يقنع فرض 5 يورو بعض الأشخاص باختيار أيام خارج أوقات الذروة للقدوم إلى البندقية".
تشمل بعض النهُج الأخرى المستخدمة لمكافحة السياحة المفرطة فرض حدّ على عدد الزوّار المسموح به. على سبيل المثل، تنص القواعد المعمول بها في سنة 2024 في ماتشو بيتشو على عدم السماح لأكثر من 500 شخص يومياً بالانطلاق على درب الإنكا، بما في ذلك العاملون المساعدون. وفي المجمل، حدّدت وزارة الثقافة في البيرو عدد المبيعات بـ 4,500 يومياً في سنة 2024، وليس في وسع أي زائر البقاء في الموقع أكثر من أربع ساعات. لكن تجدر الإشارة إلى أن البيرو رفعت بالفعل الحد الأقصى بعد أن كان 3,800 في سنة 2023. ولا تزال صناعة السياحة في البيرو تعاني من عواقب الجائحة، وهذه المراجعة للأرقام هي محاولة أخرى لمراعاة الاعتبارات الاقتصادية واجتناب أخطار السياحة المفرطة في الوقت نفسه.
صندوق المحافظة على المحميات
وفي بيليز، أنشأت الحكومة مؤسسة تسمى صندوق المحافظة على المحميات وفرضت رسماً على كل سائح منذ سنة 1996 لتمويل هذه المؤسسة وجهود المحافظة على البيئة. في العشرين عاماً الأولى، كان هذا الرسم 3,75 دولارات، لكنه رفع إلى 20 دولاراً في سنة 2017. وأشارت دراسة أجراها باحثون من جامعة و"اشنطن أند لي" وجامعة "نورث كارولينا" إلى أن الرسم السابق لم يكن كافياً لتمويل الجهود اللازمة لذلك في البلاد.
تستقبل البندقية 30 مليون زائر سنويا وتضمّ نحو 50 ألف مقيم رسمي فحسب
وخلص الباحثون إلى أن بيليز يمكن أن تستفيد من رفع الرسم إلى مستوى أعلى، إلى 30 دولاراً على الأقل، لأن السياحة الراقية تتمتع بطلب لا يتناقص بزيادة الأسعار. فزيادة الرسم في سنة 2017 لم تؤثّر على أعداد زوّار بيليز، وستستفيد الشعاب المرجانية في البلاد من المزيد من جهود المحافظة على البيئة.
هل تجدي الرسوم والضرائب نفعاً؟
هناك ادعاءات بأن الرسوم الإضافية التي من المفترض في الظاهر أن تكافح السياحة المفرطة لا تجدي نفعاً. في بيليز، تذهب الأموال مباشرة إلى صندوق المحافظة على البيئة، ولكن يمكن أن يزعم المرء بأن الوقاية من الأضرار البيئية أفضل من إصلاحها بالأموال التي دفعها من أثّروا عليها سلباً. وفي البندقية، لا توجّه الأموال إلى جهود المحافظة على البيئة. ويشير بعض الباحثين، مثل رابيندرا نيبال من الجامعة الوطنية الأسترالية، إلى أن هذه الرسوم يجب ألا ينظر إليها إلا بوصفها جزءاً من نهج أكبر وأكثر تعقيداً، بما في ذلك "مزيج من السياسات الاقتصادية وغير الاقتصادية الخاصة بالوجهة لمكافحة السياحة المفرطة، بما في ذلك فرض الضرائب والرسوم التصحيحية؛ وتقاسم المنافع بين السكان المحليين والسلطات السياحية، وتعظيم فوائد السياحة الاجتماعية والاقتصادية التي تعود على السكان المحليين المتأثّرين مباشرة بالتنمية، وتسهيل وتوسيع انتشار الزوّار وتدفّقهم؛ والحد من استهلاك طاقة الوقود الأحفوري وتنظيم إمدادات الإقامة".
إنها مسألة حسّاسة خصوصا لدول مثل بيليز في أميركا الوسطى تعتمد اعتماداً كبيراً على عائدات السياحة. وتتوقّف جهودها للبقاء وجهة سياحية مستدامة على السياسات الرشيدة والنزعة الاستهلاكية المسؤولة. وبالعودة إلى مقارنة القديس أغسطين، فإن الحل الأفضل يجب أن يكون حتماً مزيجاً من صنع الكتب بتجليد أكثر متانة وورق عالي الجودة، والتعامل مع الكتاب بعناية أيضاً. وربما يشكّل ذلك تحدّياً في عالم يسافر فيه 1,2 مليار شخص حالياً للمتعة في كل عام.