روسيا تخسر معركة البحر الأسود

أوكرانيا تحافظ على تدفق التجارة وتدمير الأسطول الروسي

Shutterstock
Shutterstock
تحميل ناقلة ضمن مبادرة حبوب البحر الأسود في عام 2023

روسيا تخسر معركة البحر الأسود

في 19 سبتمبر/أيلول تكدّس ضبّاط الشحن العسكري والمدني في غرفة تحكّم سرّية لمراقبة السفينة "ريزليانت أفريكا" وهي تغادر ميناء تشورنومورسك بأوديسا. كان التوتّر شديداً بصفتها أول سفينة تدخل وتغادر باستخدام الممر البحري الطارئ الجديد لأوكرانيا، الذي أنشئ بعد انهيار اتفاق تصدير الحبوب الذي رعته الأمم المتحدة. فقد حذّرت روسيا من أنها قد تطلق النار على السفن التي تستخدم الممر.

لذا وُضعت خدمات الطوارئ في حالة تأهّب. يقول أحد الحاضرين في الغرفة: "أعددنا أنفسنا لأي سيناريو. وكنا متوتّرين حقاً. في النهاية، أبحرت السفينة من دون وقوع حوادث مسافة 150 كيلومتراً على مقربة من الساحل الأوكراني قبل دخول المياه الإقليمية الرومانية أولاً، ثم البلغارية، ومتابعة طريقها عبر مضيق البوسفور إلى وجهتها النهائية، حيفا.

إعلان ممر للشحن يتحدّى القصف الروسي محفوف دائماً بالأخطار. لكنه كان ضرورة استراتيجية لأوكرانيا. قبل الحرب، كانت 60 في المئة من تجارة البلاد تمر عبر موانئها البحرية العميقة، متجهة إلى أسواق في أفريقيا والشرق الأوسط كما هي الحال منذ قرون. وكان قرار روسيا إعادة فرض الحصار عملاً من أعمال الحرب الاقتصادية.

عادت موانئ أوديسا وتشورنومورسك، وبيفديني إلى ما يقرب من صادرات ما قبل الحرب، بتصدير 6.3 ملايين طن من البضائع في ديسمبر/كانون الأول

لذا بدأت أوكرانيا سراً في تطوير مسارها البديل. اختارت المياه الضحلة، الآمنة من الغوّاصات الروسية، والقريبة بالقدر الكافي من الساحل لحمايتها بالمدفعية الساحلية. ويقول يوري فاسكوف، نائب وزير البنية التحتية الأوكراني: "كنا نعتقد أنه سينجح، لكن الأمر يتعلّق بإقناع الآخرين". أبحرت السفن الأولى متكبدة خسائر، لكن الثقة أدّت إلى انخفاض تكلفة تأمين السفن التي تسلك هذا الطريق بنسبة 75 في المئة، وإلى عودة الأرباح. وقد تبعت سفينة "ريزليانت أفريكا" ما يقرب من 500 سفينة في الخروج من أوديسا ودخولها.

موانئ إقليم أوديسا

عادت موانئ إقليم أوديسا الثلاثة - أوديسا نفسها، وتشورنومورسك، وبيفديني - إلى ما يقرب من صادرات ما قبل الحرب، بتصدير 6.3 ملايين طن من البضائع في ديسمبر/كانون الأول. وفي يوم مشمس على غير المعتاد في أواخر يناير/كانون الثاني، علت أصوات وقع ارتطام المعدن بالماء في ميناء أوديسا. كانت 14 سفينة تحمّل في الرصيف. وكانت تلوح في الأفق 11 سفينة أخرى في انتظار دورها للخضوع لتفتيش مسؤولي الحدود الذين يتنقّلون ذهاباً وإياباً على متن قوارب سريعة. ولا تقتصر مهمّة الخدمات الحدودية في هذه الأيام على تفتيش البضائع على متن السفن فحسب، وإنما تتحقّق أيضاً من عدم وجود مجموعات تخريب روسية، التي لا تزال تشكل تهديداً. كما شهدت الحرب أيضاً تغييراً آخر، إذ أصبحت كل حركة المرور في المنطقة خاضعة لقيادة بحرية واحدة. ويقول يوري ليتفين، رئيس هيئة الموانئ البحرية الأوكرانية: "إننا نربط التجار بخدمات الطوارئ والخدمات البيئية وتقارير الطقس والهجمات الصاروخية وإنذارات الغارات الجوية. إنها أحجية لعبة ليغو فريدة، وذلك قدر هائل من العمل".

AP
السفينة الحربية "Olenegorsky Gornyak" راسية في ميناء نوفوروسيسك، روسيا، في 30 يوليو 2023

كان على أوكرانيا بذل جهد كبير لإنشاء ممرّها، لتقلب هيمنة روسيا على البحر الأسود من دون وجود سفينة حربية واحدة عاملة. ووفقاً لدميترو بليتونشوك، المتحدّث باسم البحرية، جاء النجاح غير المتوقّع في ثلاث مراحل. حدث أول اختراق في الأسابيع الأولى من الحرب الشاملة، عندما منعت أوكرانيا إنزالاً برمائياً. كادت العملية أن تنجح، لكن اللحظة الحاسمة هي منع روسيا من تطويق أوديسا من الغرب على بعد 100 كيلومتر من فوزنيسنك في مارس/آذار 2022.

بعد شهرين، تمكّنت أوكرانيا من فرض منطقة عازلة تمتدّ 100 ميل بحري في الجزء الشمالي الغربي من البحر الأسود بعد تدمير سفينة القيادة الروسية "موسكفا"، واستعادة السيطرة على جزيرة الثعبان الاستراتيجية. وشهدت المرحلة الثالثة، التي اكتملت في سنة 2023، تمكّن أوكرانيا من إبعاد السفن الحربية الروسية تماماً عن الأجزاء الشمالية الغربية والوسطى وحتى الجنوبية الغربية من البحر الأسود.

دمرت أوكرانيا ما لا يقل عن 22 من أصل 80 سفينة قتالية عاملة في أسطول البحر الأسود الروسي، وألحقت أضرارا بـ 13 سفينة أخرى. ولو لم تنقذ روسيا بعض السفن الغارقة لكانت هذه الأرقام أكبر

استند القسم الأخير من الأحجية إلى تمكّن القوات البحرية الأوكرانية - البحرية، والاستخبارات الداخلية، والاستخبارات العسكرية، وحرس الحدود، والجيش – من تطوير ترسانة جديدة من صواريخ كروز والمسيّرات البحرية لمطاردة السفن الحربية الروسية وإغراقها. وقد دمّرت أوكرانيا في الإجمال ما لا يقل عن 22 من أصل 80 سفينة قتالية عاملة في أسطول البحر الأسود الروسي، وألحقت أضراراً بـ 13 سفينة أخرى. ولو لم تنقذ روسيا بعض السفن الغارقة لكانت هذه الأرقام أكبر. ولم يعد الآن حتى الساحل الشرقي لشبه جزيرة القرم آمناً، وتتخذ أقوى السفن الروسية ملجأً لها في نوفوروسيسك، على بعد 600 كيلومتر. ويقول السيد بليتونشوك: "إنها مسألة وقت فقط قبل أن ندمّر أسطول البحر الأسود بأكمله".

AFP
جندي أوكراني يحمل صاروخ "ستينغر" المضاد للطائرات، على متن قارب للحرس البحري في الجزء الشمالي الغربي من البحر الأسود في 18 ديسمبر 2023

من المهم أن قدرة الردع الجديدة لأوكرانيا سمحت لها بالرهان أيضاً على أن روسيا لن تتعمّد مهاجمة سفينة تجارية أجنبية. فلن يثير الهجوم استهجاناً دولياً فحسب، وإنما التهديد بالتصعيد يعني الآن رفع أكلاف التأمين في جميع أنحاء البحر الأسود، بما في ذلك تأمين سفن الشحن المتجهة إلى روسيا. وقد نجح هذا الرهان إلى حدّ كبير، باستثناء سفينة واحدة ترفع علم ليبيريا، ضُربت عَرَضاً على الأرجح أثناء رسوّها في ميناء بيفديني في نوفمبر/تشرين الثاني 2023.

ويعتقد المسؤولون الأوكرانيون أن الأخطار على الشحن لا تكون حادّة إلا في أثناء وجود السفينة على الرصيف في الميناء. تستطيع روسيا إلقاء قنابل انزلاقية من الجو، وتفعل ذلك، في اتجاه الممر الطارئ. وتشكل الألغام المتخلّفة من الحرب العالمية الثانية أيضاً مشكلة بين حين وآخر. وكلاهما مصدر إزعاج، لكنهما لا يكفيان لردع سفن الشحن الكبيرة.

من المتوقع أن يؤدي فتح الطريق البحري إلى زيادة الصادرات بمقدار 3.3 مليارات دولار على الأقل في سنة 2024، مما يضفي استقرارا مفيدا على أسعار الصرف ونموا متوقعا للناتج المحلي الإجمالي بمقدار 1.23 نقطة

نائب وزير الاقتصاد الأوكراني أولكسي سوبوليف

تأتي عودة الموانئ البحرية العميقة بأوديسا في وقت مناسب لتعزيز الاقتصاد الأوكراني المتضرّر. ويقول أولكسي سوبوليف، نائب وزير الاقتصاد الأوكراني، إن من المتوقّع أن يؤدّي فتح الطريق البحري إلى زيادة الصادرات بمقدار 3.3 مليارات دولار على الأقل في سنة 2024، مما يضفي استقراراً مفيداً على أسعار الصرف ونمواً متوقّعاً لإجمالي الناتج المحلي بمقدار 1.23 نقطة مئوية. لكن أي ازدهار سيستغرق بعض الوقت ليصل إلى الموازنات الحكومية المجهدة. ويقول سيرغي مارشنكو، وزير المالية، إن من المرجّح أن يسعى التجار أولاً للتعامل مع خسائرهم الكبيرة في زمن الحرب. "وربما لا يتضح الأثر المالي للممر إلا في سنة 2025".

المعنيون حذرون للغاية من إعلان النصر. فقد طلب تاجر مسؤول عن إحدى أكبر المحطات الخاصة في أوديسا عدم الكشف عن هويته خوفاً من أن تستهدف روسيا عمله. ويعترف السيد فاسكوف بأن الممر الجديد لا يزال يفتقر إلى ما يكفي من الدفاعات الجوية والمراقبة الدولية، ومن الناحية المثالية، كما يفتقر إلى المرافقة العسكرية الدولية لتأمينه تماماً. لكن عمله في أسوأ الأوقات أثبت نقطة مهمة: يمكن استمرار عمليات الشحن حتى في أثناء القصف الروسي. ويمكن العثور على السفن وطواقم العمل وقادة السفن ذوي الخبرة في مناطق النزاع. يذكر السيد فاسكوف رسالة نصية تلقاها من السفينة "ريزليانت أفريكا" بعد وقت قصير من رسوّها في إسرائيل. فقد كتب قبطان السفينة ليخبره بأن حرباً أخرى اندلعت. وقال ساخراً، "شعرت بأمان أكبر في تشورنومورسك". فأثار ضحكاً نادراً في الوزارة.

font change

مقالات ذات صلة