دول "الناتو" في 2024: اتحاد ضد روسيا... وتباين إزاء الصين

اختلافات في السياسة والنهج داخل أهم حلف عسكري في العالم

Ewan White
Ewan White

دول "الناتو" في 2024: اتحاد ضد روسيا... وتباين إزاء الصين

أنقرة- في أوائل تسعينات القرن العشرين، وفي أعقاب الحرب الباردة، كان لزاما على منظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) أن تحدد سبب وجودها.

وفي البيئة الأمنية العالمية الهشة التي تتسم بالمنافسة الاستراتيجية والتحديات من جميع الاتجاهات، حدد الحلف مهامه الأساسية فی الردع والدفاع؛ ومنع الأزمات وإدارتها؛ والأمن التعاوني.

إن حلف شمال الأطلسي هو التحالف الدفاعي الأطول بقاء والأكثر فعالية على الإطلاق، وهو يدين بذلك، إلى حد كبير، لقدرته على التكيف. ويعود تاريخ آخر مراجعة للوثيقة التوجيهية لحلف الناتو– المفهوم الاستراتيجي– والتي يتم تحديثها كل 10 سنوات تقريبا، إلى عام 2022. ويشير التوصل إلى هذا التوافق بين 31 دولة لديها 31 سياسة وطنية مختلفة، في مرحلة عالمية جيوسياسية معقدة للغاية، إلى مدى قوة الحلف وثقافته التوافقية بشأن الأمن والدفاع.

وأهم عناصر سياسة "الناتو" في فترة ما بعد الحرب الباردة ما يلي:

- تبني الحلف سياسة الباب المفتوح أمام الأعضاء الجدد، مما رفع عدد الحلفاء من 16 إلى 31.

- تغير وضع الردع والدفاع لدى حلف شمال الأطلسي، وبنية القيادة والقوة، مع وجود قوات بمستويات استعداد عالية للغاية، على نحو يذكرنا بالحرب الباردة.

- تقاسم الأعباء بين الجميع، بعد إصرار الولايات المتحدة على أن يتحمل جميع الحلفاء حصتهم من تكلفة الدفاع.

- تحديد روسيا باعتبارها التهديد المباشر والأهم لأمن الحلفاء.

- دخول جمهورية الصين الشعبية إلى قائمة الاهتمامات. بعد أن تم تعريفها كدولة تشكل تحديا منظما للأمن الأوروبي الأطلسي.

- تعريف الإرهاب على أنه التهديد الأكبر وغير المتماثل لأمن مواطني "الناتو".

تشتهر طلبات العضوية المقدمة من فنلندا والسويد بسبب الجدل مع تركيا والموافقة المشروطة عليها. لكن الأهمية الحقيقية لعضويتهما هي موقعهما الجغرافي

توسيع حلف شمال الأطلسي

رفضت روسيا بشدة التوسع الذي يقوم به حلف شمال الأطلسي وعارضته دائما، حتى خلال الأوقات التي كانت فيها العلاقات بين الأطراف في أفضل حالاتها، إذ اعتبرت الأمر سياسة تحدٍ تهدف إلى تطويقها.
وعلى الرغم من مخاوفها، استوعبت روسيا، بطريقة أو بأخرى، انضمام دول البلطيق وشرق ووسط أوروبا إلى حلف شمال الأطلسي. ولكن الأمر كان مختلفا تماما عندما رحب زعماء الحلف في قمة بوخارست، عام 2008، بتطلعات أوكرانيا وجورجيا للحصول على العضوية، وأعلنوا في بيانهم المشترك عن أن "هاتين الدولتين سوف تصبحان عضوتين في الحلف".
وفي اجتماع وزراء خارجية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في مقدونيا الشمالية نهاية نوفمبر/تشرين الثاني ألقى وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، اللوم على "توسع الناتو المتهور نحو الشرق" في الحرب ضد أوكرانيا، قبيل انسحابه من الاجتماع.

REUTERS
مقاتلة ميراج 2000-5 فرنسية تقلع أثناء قيام "الناتو" بمناورة جوية في قاعدة أماري الجوية بإستونيا في 25 مايو 2018

وعلى الرغم من توقيع أوكرانيا في عام 2022 الطلب الرسمي للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، غير أن الجميع يدرك جيدا الطبيعة الإشكالية لتحقيق العضوية الفورية في هذا الوقت، فمن شأن ذلك فرض التزامات على حلف شمال الأطلسي بموجب المادة 5 من معاهدة واشنطن– البند الشهير الذي يقول: "الهجوم على عضو واحد هو هجوم على الكل".
وفي الوقت الحالي ترتبط أوكرانيا بالحلف من خلال شراكة مطورة عبر مجلس حلف شمال الأطلسي وأوكرانيا.
وتشتهر طلبات العضوية المقدمة من فنلندا والسويد بسبب الجدل مع تركيا والموافقة المشروطة عليها. لكن الأهمية الحقيقية لعضويتهما هي موقعهما الجغرافي، الذي أصبح استراتيجيا للغاية مع وجود خطوط نقل بحري جديدة يُنظر إليها على أنها نقطة اشتعال جديدة محتملة في المنافسة الجيوستراتيجية.

على الرغم من الخلافات بين بكين وموسكو والتنافس بينهما في بعض النواحي، إلا أنهما أصبحتا أكثر قربا في السنوات الأخيرة، حيث وصلتا إلى نقطة الشراكة الاستراتيجية

الدفاع مكلف... وتقاسم الأعباء ليس طوعيا

وباعتباره تحالفا دفاعيا، تهدف القدرات العسكرية لحلف شمال الأطلسي إلى الردع، والتصدي عندما يفشل الردع. لكن الدفاع والتصدي مكلفان، مما جعل الولايات المتحدة خلال رئاسة دونالد ترمب تزيد الضغط على حلفائها من أجل بذل المزيد من الجهد فيما يتعلق بمساهماتهم.
وفي عام 2014، اتفق الحلفاء على أنهم سيسعون إلى تخصيص 2 في المئة من ناتجهم المحلي الإجمالي سنويا للدفاع. وهذا ما قاموا بتحديثه في قمة فيلنيوس لعام 2023، من خلال تحديد هدف 2 في المئة كحد أدنى. وحتى يومنا هذا، تمكن 11 حليفا من أصل 31 من تجاوز هذه العتبة.
وربما سيكون حلف شمال الأطلسي متأخرا عن هدفه المحدد، ولكن الدول الأعضاء، على الرغم من الأوقات الاقتصادية الصعبة التي تمر بها، تخصص الآن المزيد للإنفاق الدفاعي.
كما أصبحت روسيا والصين مصدر قلق رئيس لحلف شمال الأطلسي، حيث استخدمت موسكو ما يسمى بمبدأ كاراجانوف– لحماية حقوق العرقية الروسية في الأراضي السوفياتية السابقة والتدخل عند الضرورة– لتبرير سياساتها العدوانية، بما في ذلك غزو أوكرانيا.

AFP
قادة الدول الرئيسة في "الناتو" أثناء الإعلان المشترك عن دعم أوكرانيا خلال قمة الحلف بفيلنيوس في 12 يوليو 2023

أما في أوكرانيا فإن أحد الأسباب الرئيسة وراء انخراط حلف شمال الأطلسي والغرب فيها، أنه إذا لم يتم ذلك الأمر، فإن صراعات مماثلة محتملة في المستقبل يمكن أن تندلع مع دول أخرى، بما في ذلك أعضاء في "الناتو"، مثل جمهوريات البلطيق.
إن روسيا تنزف بسبب كلفة الحرب في أوكرانيا، بما في ذلك تكلفة المعدات العسكرية وسقوط ما لا يقل عن 300 ألف ضحية. بالإضافة إلى ذلك، تواجه روسيا تحديات اقتصادية بالغة الصعوبة بسبب تأثير العقوبات الدولية؛ إذ إنها شهدت فقدانا في الأسواق وانسحاب مئات الشركات الأجنبية من الساحة الاقتصادية الروسية، وتقليص الكثير منها حجم عملياتها في البلاد.
وفي المحصلة، يبدو أن روسيا تعثرت في تحقيق فوز سريع وتغيير نظام الحكم في أوكرانيا، إلا أنها لا تزال بعيدة كل البعد عن التدهور الكبير أو حتى تكبد خسائر بارزة؛ إذ إن روسيا تتمتع بقدرة عالية على تحمل الخسائر والمعاناة، وهي سمة تميزت بها هذه الأمة على مر القرون.
وهناك أيضا عوامل أخرى تجعل قدرة روسيا على التحمل أقوى؛ ففي عالم متعطش للطاقة، حيث المنافسة الجيوستراتيجية شرسة، هناك دائما أسواق بديلة ومشترون للغاز والنفط الروسيين. ومن ناحية أخرى، أصبحت الصين، القوة الاقتصادية العالمية الكبرى، أكثر بروزا، وهي الآن تستعرض عضلاتها السياسية والعسكرية أيضا.
ويرى "الناتو" أن الصين تهدف إلى تقويض ما يسميه الحلف "النظام الدولي القائم على القواعد"، وهو ما يثير لديه بواعث قلق إزاء تنامي العلاقات بين بكين وروسيا.
 ويثير ذلك أيضا مخاوف من أن أي صراع قد يقع قريبا بين حلف شمال الأطلسي وروسيا، يمكن أن يشمل الصين أيضا. وأي اشتباكات من هذا القبيل سيكون حجمها كبيرا جدا، حيث ستشمل وقتها ليس فقط أكبر اقتصادات العالم، بل ستشمل أيضا القوى النووية، والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، وأكبر منتجي ومستهلكي الموارد الطبيعية.
تحتل العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا والصين صدارة الجغرافيا السياسية العالمية؛ فعلى الرغم من الخلافات بين بكين وموسكو والتنافس بينهما في بعض النواحي، إلا أنهما أصبحتا أكثر قربا في السنوات الأخيرة، حيث وصلتا إلى نقطة الشراكة الاستراتيجية.

من خلال الاستفادة من العلاقات الثنائية القائمة، يعمل حلف شمال الأطلسي على بناء شراكات إقليمية جديدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في إطار عمليات العولمة

وتتسم العلاقات فيما بينهما بالاجتماعات المتكررة على أعلى مستوى، والعلاقات الاقتصادية المتزايدة، والمناورات العسكرية المشتركة، وكلمات الالتزام القوية بشأن التعاون بلا حدود.
كما ساهمت كراهيتهما المشتركة للولايات المتحدة الأميركية وعدم ثقتهما بها، والتهديد المستمر الذي يتوقعانه من الغرب في جعل هذين البلدين أكثر تقاربا.
وتشعر موسكو وبكين بشكوك عميقة إزاء ما تعتبرانه دعما غربيا للاحتجاجات المناهضة للحكومات في كثير من البلدان، وتشعران بالقلق من أن تصبحا أهدافا مستقبلية. كما أدت العقوبات الغربية المفروضة على روسيا إلى ازدهار العلاقات الاقتصادية بين روسيا والصين. بعد أن ارتفع حجم التجارة بينهما إلى ما يقرب من 200 مليار دولار أميركي؛  فالصين تشتري موارد طبيعية لم يعد الغرب يشتريها، كما أنها تملأ الفراغ الذي خلفته مغادرة الأجانب من روسيا أو تقليص نشاطهم فيها.

NATO
بوارج حربية أثناء تدريب بحري مشترك لدول "الناتو" بين 7 و16 يونيو 2020

ويرد حلف شمال الأطلسي بعدة طرق، ومن المقرر أن يحول التعامل مع روسيا والصين إلى مسرح واحد. وهذا ما أكدته قمة حلف شمال الأطلسي التي عقدت في مدريد وتصريح القادة بالارتباط المتزايد بين الساحة الهندية والمحيط الهادئ والساحة الأوروبية.
ومن خلال الاستفادة من العلاقات الثنائية القائمة، يعمل حلف شمال الأطلسي على بناء شراكات إقليمية جديدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في إطار عمليات العولمة.
وفي هذا السياق يأتي تحالف أوكوس (أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة)  والحوار الأمني الرباعي الذي يضم الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا. إلى جانب الدعوات المتكررة لمؤتمرات قمة الناتو، لدول جنوب شرقي آسيا–  ذات التفكير المماثل– والدول المتحالفة بشكل منتظم.
وكان رؤساء دول وحكومات أستراليا وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا واليابان، قد حضروا قمة حلف شمال الأطلسي في فيلنيوس كشركاء تعاون.

الآثار الأبدية للحرب المدمرة في العراق والانسحاب الفوضوي من أفغانستان لا تزال حاضرة في الأذهان

ويشكل الاقتصاد والتجارة جوهر العلاقات؛ إذ تمت الاستجابة لمبادرة الحزام والطريق الصينية، وهي شبكة من الطرق البرية والممرات البحرية للتجارة، من خلال بدائل مثل الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
أما روسيا والصين فتتعاونان لكسر الهيمنة الأميركية على التجارة الدولية. وتعد مجموعة "البريكس" التي كانت تتألف بداية من البرازيل والصين والهند وروسيا وجنوب أفريقيا، إحدى الأدوات الواعدة في هذا الصدد. فالعضوية تتوسع، كما أن هناك كثيرا من الإنجازات التي تحققت في التجارة بالعملات الخاصة، مما أدى إلى تقليل هيمنة الدولار الأميركي في التجارة العالمية.
ولكن التنافس لم ينه كل شيء؛ فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تشعر بالقلق "إزاء السياسات التجارية غير العادلة التي تنتهجها جمهورية الصين الشعبية، والممارسات الاقتصادية غير السوقية والإجراءات العقابية ضد الشركات الأميركية" على حد تعبيرها، إلا أن القيمة الإجمالية لتجارة السلع بين هذين الاقتصادين الأكبر في العالم تبلغ 690 مليار دولار.
وعندما التقى الرئيسان بايدن وشي جينبينغ مؤخرا في كاليفورنيا، كان بايدن واضحا في التزامه بالدفاع عن الحلفاء في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وضمان حرية الملاحة والتحليق في بحر الصين الجنوبي والشرقي. لكنه لم يغلق الباب أمام إمكانية تحسين العلاقات، في ظل ظروف معينة بالطبع.
ويلعب مفهوم الموثوقية دورا مهما في المسرح الجيوستراتيجي العالمي، الذي يعمل ضد الولايات المتحدة أكثر من روسيا والصين.
إن الآثار الأبدية للحرب المدمرة في العراق والانسحاب الفوضوي من أفغانستان لا تزال حاضرة في الأذهان. كما أدى الدعم الأميركي لوحدات حماية الشعب في سوريا إلى توتر العلاقات مع تركيا حليفتها في حلف شمال الأطلسي. وفي الآونة الأخيرة، أدى دعمها لإسرائيل بتحويل معظم قطاع غزة إلى أرض قاحلة إلى إدانة واسعة النطاق بسبب التجاهل التام للقانون الإنساني والمعاناة.
وربما تهدف الولايات المتحدة إلى التغلب على مشاكل مصداقيتها الوطنية من خلال مكانتها كجزء من التحالف، الذي يتمتع بصورة أكثر إيجابية.

الدول الأعضاء أكثر اتحادا بشأن كيفية التعامل مع روسيا من توحدها بشأن الصين

اختلافات في السياسة والنهج داخل "الناتو"

لم يكن الأمر سهلا على الإطلاق، حيث انخرط الحلفاء في مناقشات ومشاورات ومفاوضات لا نهاية لها، وفي بعض الأحيان، مؤلمة حول قضايا حاسمة حيث توجد وجهات نظر مختلفة.
فعلى سبيل المثال، الدول الأعضاء أكثر اتحادا بشأن كيفية التعامل مع روسيا من توحدها بشأن الصين. وهناك نقاش آخر داخل حلف شمال الأطلسي يدور حول "نطاق مسؤوليته"، فأنصار المنظور الأوسع يؤكدون أن التحديات والتهديدات، وفق تعريفها في المفهوم الاستراتيجي، تتطلب من حلف شمال الأطلسي أن ينظر إلى ما هو أبعد مما يعرف بالمنطقة الأوروبية الأطلسية.
وعلى العموم لم يتبق سوى أقل من عام على انعقاد قمة الناتو المقبلة التي من المقرر عقدها في واشنطن شهر يوليو/تموز 2024، وسيكون هناك الكثير من النقاش حول كل هذه القضايا وربما أكثر حتى ذلك الحين.

font change

مقالات ذات صلة