الاعتقالات داخل "هيئة تحرير الشام" تصعّد شق التنظيم

الاعتقالات داخل "هيئة تحرير الشام" تصعّد شق التنظيم

سيطرت لشهور خلت الحملة الأمنية التي تشنها "هيئة تحرير الشام" على أعضائها على عناوين وسائل الإعلام السورية المحلية. ولم يكن نطاق الاعتقالات غير المسبوق أو مكانة الشخصيات البارزة التي اعتقلت هما ما شد انتباه السوريين، ولكن أيضا سلسلة التقلبات والانعطافات التي تكشفت منذ انطلاق هذه الحملة في يونيو/حزيران الماضي.

وحين بدا أن حملة الاعتقالات قد بلغت ذروتها مع اعتقال أبو ماريا القحطاني، الشخصية المؤثرة في الدائرة الداخلية للجماعة، ظهر إلى العلن منعطف آخر مفاجئ، حيث أعلنت الجماعة إطلاق سراح الكثير من أعضائها وقادتها المعتقلين سابقا، مما أضاف تعقيدا مفاجئا آخر إلى هذا المزيج.

لكن الحبكة ازدادت تعقيدا عندما أدلى زعيم المجموعة باعتراف صادم في وقت سابق من هذا الشهر. إذ كشف أبو محمد الجولاني علنا أن المفرج عنهم قد اتُهموا خطأ بسبب أخطاء ارتكبت أثناء التحقيقات التي جرت بطريقة غير قانونية. وبعبارات أبسط، لقد أُجبر الناس على تقديم معلومات كاذبة كي يتوقف تعذيبهم.

وبعيدا عن حل المشكلة، من المتوقع أن يؤدي هذا الاعتراف إلى تفاقم الانقسامات القائمة والصراع على السلطة داخل المجموعة، مما يشير إلى أن الأزمة لم تنته بعد.

وكانت الحملة الأمنية قد بدأت، بحسب ما أوردته التقارير، بعد إلقاء القبض على خلية متهمة بالتعاون مع "حزب الله" اللبناني، يوم 24 يونيو/حزيران. وعلى مدى ستة أشهر، استمرت التحقيقات، مما أدى إلى اعتقال ما يقرب من 500 إلى 600 فرد مرتبطين بالجماعة. وكان من بين المعتقلين قادة عسكريون رفيعو المستوى، اتهموا بأن لهم علاقات مع استخبارات أجنبية، بما فيها الاستخبارات الأميركية.

حملة القمع مظهر من مظاهر الصراع على السلطة بين المعسكرات المختلفة داخل الجماعة

أثارت الاعتقالات، وعلى الأخص اعتقال شخصيات رفيعة المستوى مثل أبو ماريا القحطاني، مساعد الجولاني وأمين أسراره، خلافات داخل الجماعة، وأثارت انتقادات جاءت في المقام الأول من صفوفها. كما أدى ذلك إلى انشقاقات ملحوظة منها انشقاق جهاد عيسى الشيخ، المعروف أيضا باسم أبو أحمد زكور، المشرف الرئيس على الشؤون الاقتصادية للجماعة في الخارج.
وبالإضافة إلى تلطيخ سمعة الجماعة، أثارت الاعتقالات سلسلة من ردود الفعل التي خشيت قيادة "هيئة تحرير الشام" من تصاعدها على نحو لا يمكن السيطرة عليه. وقد رأى كثيرون أن حملة القمع هي مظهر من مظاهر الصراع على السلطة بين المعسكرات المختلفة داخل الجماعة. وترددت تكهنات على نطاق واسع بأن كتلة بنش، التي تحمل اسم البلدة التي ينحدر منها الكثير من قادتها، هي التي حرضت على الاعتقالات، واستهدفت "جناح الشرقية"، المكون من أفراد من شرق سوريا المعروفين بقربهم من القحطاني.
وتشير هذه الدينامية الفصائلية إلى أن الاعتقالات التي بدأتها كتلة واحدة يرجح لها أن تستمر في استهداف خصومها، مما يؤدي إلى إدامة الخلاف الداخلي في "هيئة تحرير الشام". لذا كان من المتوقع أن تستمر الاعتقالات التي ينفذها أعضاء الكتلة الأولى في استهداف منافسيهم.
وفي النهاية تدخل زعيم الهيئة، إما لأنه توصل بنفسه إلى النتيجة نفسها أو تحت ضغط المطالب الشعبية، لوقف التحقيق ومنع المزيد من التصعيد. وفي خطوة تهدف إلى تهدئة التوترات، دعا إلى اجتماع مع مجلس الشورى وحكومة إنقاذ إدلب، وهما الهيئتان التشريعية والتنفيذية على التوالي في المناطق التي تسيطر عليها "هيئة تحرير الشام".
وأثناء الاجتماع سلط الضوء على الممارسات الخاطئة التي لوحظت خلال التحقيق وأدت إلى اتهامات باطلة استندت إلى معلومات كاذبة. وشدد على ضرورة اتخاذ إجراءات تصحيحية لاستعادة حقوق المتضررين. ونشرت وكالة "الأمجاد" الإعلامية التابعة للجماعة تفاصيل اللقاء لضمان الاعتراف الرسمي والواسع ببيان القائد.

حملة القمع أدت إلى تفاقم الخلافات والتوترات بين الجناح العسكري والأجهزة الأمنية

وبالتزامن مع ذلك، أطلق سراح كثير من أعضاء الجماعة ومنهم قادة عسكريون بارزون. وبحسب ما ورد فقد زار الجولاني بعض القادة المفرج عنهم وتعهد بمحاسبة المسؤولين عن هذه الاعتقالات الجائرة. كما قدمت الجماعة تعويضات مالية تراوحت بين 2000 إلى 5000 دولار حسب مدة السجن وظروف المعتقلين.
وعلى الرغم من هذه الإجراءات، فقد أبلغت مصادر على صلة ببعض القادة المفرج عنهم كاتب المقال أن المظلومين مصممون على ضمان تحقيق العدالة بطريقة أو بأخرى. وبالإضافة إلى الثأر الشخصي، أفادت التقارير بأن حملة القمع أدت إلى تفاقم الخلافات والتوترات بين الجناح العسكري الذي ينتمي إليه كثير من المعتقلين، والأجهزة الأمنية المسؤولة عن التحقيق معهم واعتقالهم.
أما أنصار الأعضاء المعتقلين فاستبدت بهم مشاعر الإحباط والغضب تجاه الجماعة أو بعض قادتها، بسبب السماح بحدوث هذه المظالم. بينما يرى معارضو هذا الإجراء، في الجانب المقابل، أن الجولاني تعرض لضغوط للإفراج عن المعتقلين، على الرغم من وجود أدلة تشير إلى خلاف ذلك.
وقد تبدت هذه المشاعر على نحو جلي فيما ورد عن استقالة أبو حفص بنش، أحد كبار قادة هذا المعسكر، من منصبه كرئيس للواء طلحة، أحد الفصائل المسلحة الرئيسة في الجماعة. وقد فُسر قراره على أنه احتجاج على الإفراج غير العادل عن المحتجزين المشتبه فيهم.
وأيا تكن الإجراءات التي قد يتخذها زعيم الهيئة لمعالجة هذه القضايا التي لم تُحل بعد، فمن المرجح أن يتفاقم الانقسام والعداء بين الكتل المختلفة داخل "هيئة تحرير الشام" بما يشكل تهديدا لوحدتها ومستقبلها.

font change